الارتجال في اللغة هو إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنية من غير تصميم أو تدوين سابقين، وارتبط الارتجال في الأساس بالمسرح، حين كان الممثل يخرج عن النص ليرتجل نصًا غير مكتوب، يبين فيه مهاراته التمثيلية ليقدم موعظة أو خطبة.
حيث اعتمد المسرح منذ زمن بعيد على قدرة الممثل على الارتجال في مواقف معـينة، كما يحدث في المشاهد الكوميدية وعروض الميلودراما والبانتومايم وفي ملاهي الميوزك هول، وقد استخدم المخرج والممثل الروسي وأحد مؤسسي المسرح الحديث “قسطنطين ستانسلافسكي” الارتجال، في أثناء البروفات مع الممثلين، لمساعدتهم على فهم دوافع وطبيعة وخلفية الشخصية، وحذا حذوه كثير من الممثلين والمخرجين، حتى أصبح الارتجال عنصرًا أساسيًا في تدريب أي ممثل.
وعلى الرغم من أن الأمر مختلف في السينما، حيث يحرص المخرج على أن يلتزم الممثل بنص مكتوب، يؤديه كما كتبه كاتب السيناريو، فتاريخ السينما يحفل بالعديد من الأفلام التي احتوت على مشاهد وجُمل ارتجالية زادت من قيمة المشهد، بعضها كان عفويًا وتلقائيًا، والبعض الآخر كان بسبب اندماج الممثل في أداء المشهد، مما نتج عنه خروجه عن النص الأصلي، والارتجال لا ينحصر فقط في جملة يضيفها الممثل، فقد يكون بأداء حركي، رأى أن أداءه سيرفع من قيمة المشهد المكتوب على الورق.
والكثير من المشاهد الأيقونية الخالدة في تاريخ السينما، ارتجلها أصحابها في أثناء أداء المشاهد التمثيلية، ليثبتوا أن أساس النجاح هو موهبة الفنان، فالعديد من الممثلين الذين قاموا بارتجال بعض مشاهدهم، يصنفون مِن أعظم مُمثلّي هوليوود لقُدراتهم التمثيليّة، الأمر الذي يؤكد أن الارتجال ليس سهلًا كما يدعي البعض، بل يتطلب خبرًا وحضورًا وسرعة بديهة لا يمتلكها الكثيرون.
في هذا التقرير، جمعنا لكم بعض أعظم المشاهد الأيقونية الخالدة في تاريخ السينما، والتي كانت محض ارتجال من الممثلين، وخروجًا عن النص الأصليّ المكتوب.
“هنا جوني”.. البريق – 1980 The Shinning
“جوني هنا” الجملة التي ارتجلها جاك نيكلسون في فيلم “البريق”
نادرًا ما تخلو قائمة من قوائم أفضل أفلام الرعب التي أنتجتها هوليوود من فيلم The Shinning 1980، فهذا الفيلم يُعد علامة مميزة وأيقونة من أيقونات السينما، قام بإخراجه ستانلي كوبريك المعروف بصعوبة إرضائه، وبضغطه على الممثلين ليبدعوا في الأداء ويؤدوا أفضل ما عندهم، عن رواية لستيفن كينج تحمل نفس الاسم.
وفي هذا الفيلم يتفوق جاك نيكلسون على نفسه، بأداء عبقري مميز، وخاصة في أحد المشاهد التي لا تُنسى، حين صعد على السلالم بهدوء، حاملاً فأس صغير في يده، وبدأ في تكسير الباب، ثم أطل بوجهه من خلال الباب المكسور، وهو يبتسم ابتسامة مخيفة للغاية، مرتجلاً جملته الشهيرة “Here’s “Johnny والتي اقتبسها من جملة في أحد البرامج الحوارية لجوني كارسون Johnny Carson آنذاك.
“اترك المسدس، خذ الكانّولي”.. العرّاب – The Godfather 1972
في أحد مشاهد الجزء الأول من الأسطورة السينمائية (العرّاب – The Godfather)، يذهب كليمينزا أحد رجال دون فيتو كورليوني الأوفياء، مع مساعده روكو لامبون في مهمة للتخلص من باولي جاتو سائق دون كورليوني، بناءً على طلب من سوني، الابن الأكبر للعرّاب، بعدما غدر بهم، وتعلل بمرضه وغاب في يوم محاولة قتل دون كورليوني.
في هذا المشهد، كان من المفترض أن يقول كليمينزا لروكو، بعدما قتل باولي: “اترك السلاح!”، لكنه تذكر أن زوجته طلبت منه في المشهد السابق، ألا ينسى “الكانولي/ حلوى إيطالية”، فلما رآها في السيارة، أضاف جملة “خذ الكانولي” مرتجلاً إياها.
“اترك المسدس وخذ الكانولي”.. الجملة التي ارتجلها كليمينزا بعد قتل باولي بدم بارد
لتخرج جملتان متناقضتان تمامًا، موضحة مدى تقمص الممثل ريتشارد كاستوليانو لدور كليمينزا، وسرعة بديهيته في ربط المشهدين معًا، وكأنه رب أسرة حقيقي طُلب منه ألا ينسى إحضار “الكانولي”، كما أظهرت هذه الجملة مدى الأريحية والمرونة التي كانوا يتعاملون بها مع مهامهم التي يُكلفون بها، حتى وإن احتوت على القتل، ومن ثم العودة لممارسة حياتهم الطبيعية.
“يبدو أننا سنحتاج لقارب أكبر”.. الفك المفترس – Jaws 1975
لم يكن قائد الشرطة برودي والذي قام بدوره الممثل روي شنايدر يصدّق وصف شهود العيان الذين رأوا القرش الأبيض، الذي حوّل حياة الشاطئ الهادئ إلى جحيم، ويعتقد أنهم يبالغون في وصفهم، لضخامة حجمه، من قبيل الرعب الذي يشعرون به.
نظرات الرعب والذهول على محيا روي شنايدر بعد رؤيته للفك المفترس ومدى ضخامة حجمه
لكنه حين رآه رأي العين، وتبين له مدى ضخامة حجمه، تسمّر في مكانه من الرعب والخوف، وظل ينظر له بذهول ظاهر، حتى إنه ارتجل تلك الجملة الشهيرة، من فرط اندماجه في أداء المشهد، وانبهاره بالهيكل الضخم، الذي صنعه المخرج ستيفن سبيلبيرج للقرش، قائلاً: “يا سادة.. يبدو أننا سنحتاج إلى قارب أكبر“.
“ما الذي يحدث؟ هل تسمع؟”.. كلاب المستودع – Reservoir Dogs 1992
تتسبب تيمة الدموية والعنف التي تُميز أفلام كوينتين تارانتينو، بإخراج الجانب المظلم من شخصيات الممثلين الذين يعملون معه، حتى صار معروفًا للجميع، أن من يعمل مع تارانتينو، يلعب أدورًا يستحيل أن يؤديها مع مخرج غيره، وكأنه يملك القدرة على إخراج الرغبات السادية العنيفة التي تقبع في لا وعي الممثل ويضعها على الشاشة.
مايكل مادسن، يمسك في يده “أُذن” الضابط المقطوعة
في فيلم “كلاب المستودع Reservoir Dogs 1992 –“، ارتجل الممثل مايكل مادسن جملة حولت مسار مشهد مهم كان يقوم بتجسيده، فبعد أن قام بتعذيب ضابط الشرطة على أنغام الموسيقى، كان للمشهد أن ينتهي بأن يقطع مادسن أذن الضابط، لكن مادسن ارتجل جملة، تُظهر سادية الشخصية التي يمثلها، وقرّب الأذن المقطوعة من فمه قائلاً: “ما الذي يحدث؟ هل تسمع؟” ثم ضحك بعدها، ليظل هذا المشهد المرتجل، من أكثر المشاهد المميزة في الفيلم.
“إنني أمشي هنا!”.. راعي البقر منتصف الليل – Midnight Cowboy 1969
في الشوارع المزدحمة، ومع عدم وجود إشارة مرور، قد يتعرض الشخص للاصطدام بشاحنة أو سيارة ما، الأمر الذي قد يُفقده أعصابه، وهذا ما حدث بالضبط مع داستن هوفمان في أثناء تصويره لأحد المشاهد في فيلم Midnight Cowboy.
داستن هوفمان يضرب مقدمة السيارة بيده منفعلًا ويصيح في السائق: إنني أمشي هنا!”
حينما كان يتجول مع صديقه في أحد المشاهد، ليفُاجأ بتاكسي أصفر يكاد أن يدهسه، لينفعل هوفمان ويقوم بالخبط على مقدمة السيارة بيده، ويصيح في السائق غاضبًا: “إنني أمشي هُنا!” بكُل عصبيّة، ظنًّا منه أن السائق أحد أفراد طاقم العمل، لكن الحقيقة هي أن سائق التاكسي لم يلتزم بالعلامات التي وضعها طاقم التصوير في الشارع كي لا يمر فيه أحد، في أثناء تصوير المشهد، واقتحم موقع التصوير على حين غرة وكاد أن يصدم هوفمان.