لم يكد يمر شهرًا على الذكرى السنوية الأولى على حادثة إسقاط الجانب التركي لمقاتلة حربية روسية من طراز “سوخوي 24″ على الحدود السورية التركية. الحادثة التي أدت حينها إلى قطيعة سياسية واقتصادية بين أنقرة وموسكو لعدة شهور وتصعيد متبادل في مختلف الملفات.
وذلك قبل أن تعيد تركيا تطبيع علاقاتها مع موسكو منتصف العام الجاري، وتعتذر تركيا عن إسقاط المقاتلة الروسية، لتستأنف العلاقات التركية الروسية وتصل لذروة التنسيق في أحداث مدينة حلب الأخيرة، على عكس المعهود بين الجانبين.
هذه الحالة قطعتها اليوم حادثة اغتيال السفير الروسي لدى أنقرة أندريه كارلوف أثناء حضوره معرضًا فنيًا في أنقرة، كارلوف الذي كان يعمل سفيرًا لدى تركيا منذ منتصف يوليو 2013 حتى اغتياله.
حيث قام ضابط تركي شاب يُدعى مولود ألتن طاش، كان يعمل عنصرًا في الحراسات الخاصة بأنقرة بتوجيه 8 رصاصات إلى صدر كارلوف الذي سقط على الأرض حتى فارق الحياة متأثرًا بجراحه، وعلى إثر دوي الرصاص اقتحمت القوات الخاصة التركية المعرض وقتلت الضابط التركي الشاب الذي ظل يصرخ بعد اغتياله للسفير الروسي أنه فعل ذلك انتقامًا لمدينة حلب، في توجيه إشارة للدور العسكري الروسي داخل سوريا.
أنقرة حاولت امتصاص الصدمة
بلا شك أصيبت الدولة التركية بصدمة بالغة جراء هذا الحادث الذي سيفتح عليها أبوابًا كانت في غنى تام عنها، لا سيما وأن تركيا تشهد تحديات أمنية واقتصادية بالغة الدقة، حيث تواجه أزمة اقتصادية انخفضت على إثرها سعر صرف عملتها المحلية “الليرة”، وكذلك تواجه تحديات أمنية أمام العمليات الإرهابية المختلفة التي تستهدف قواتها الأمنية ومنشآتها الحيوية بين الفينة والأخرى.
استنكرت الحكومة الحادث وأدانته بأشد أنواع العبارات، وتحركت وزارة الخارجية بأقصى سرعة بالتوازي مع مجلس الوزراء والرئاسة التركية للتواصل مع الجانب الروسي لإطلاعه على تفاصيل الحادث تجنبًا لما حدث في السابق إبان أزمة إسقاط الطائرة الروسية.
يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من هذا الحادث وتبعاته في حال انجرت موسكو لأي مواجهة من أي نوع مع أنقرة، والاستفادة الأمريكية ستكون على صعيد إزاحة تركيا قليلًا عن الجانب الروسي
فيما خرجت أصوات عدة من داخل تركيا تتحدث بوتيرة واحدة أنّ مقتل السفير الروسي بأنقرة أندريه كارلوف، لن يؤثّر على العلاقات القائمة بين البلدين، وهو الأمر الذي أكده رأسًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي سرعان ما تواصل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين هاتفيًا.
ليخرج أردوغان من اتصاله سريعًا إلى وسائل الإعلام مؤكدًا إن آراء الجانبين تتفق على أن الهجوم هو عمل استفزازي يستهدف العلاقات الثنائية.
وأضاف الرئيس التركي، في تصريح لوكالة الأناضول، أن هناك توافق مع الرئيس الروسي حول أن هذا الهجوم هو “عمل استفزازي”، وليس هناك أي خلاف بين الجانبين في هذا الخصوص.
وتابع أردوغان، حول مقتل السفير الروسي لدى أنقرة بهجوم مسلح: “نحن نعلم أن هذا العمل يستهدف ضرب مرحلة تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا، ولكن الإدارتين الروسية والتركية تملكان الإرادة الكافية للتصدي لهذا الاستفزاز”.
إذن تركيا تدرك جيدًا أن أول ما سيستخدم فيه الحادث هو العودة إلى المربع صفر في مسألة العلاقات التركية الروسية، خاصة في هذا الوقت الحساس إقليميًا، حيث تدور رحى معارك سوريا، وتشتعل أزمة الإجلاء في مدينة حلب بالتحديد، والتي تتصدى تركيا حاليًا مع روسيا لحلها.
هذا الإدارك التركي انعكس على سرعة الاستجابة للجانب الروسي الذي طلب التدخل في عمليات التحقيقات حول حادث اغتيال سفير موسكو، رغم أن أمثال تلك الطلبات تمثل نوعًا من الإهانة في سياقات أخرى.
من سيحاول تحقيق استفادة من الحادث؟
لن يتوانى الروس بداية عن استخدام الحادث لابتزاز أنقرة قدر المستطاع والضغط عليها في ملفات مشتركة، خاصة وأن الحادث أتى قبيل اجتماع مقرر في موسكو الثلاثاء بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران بشأن الأزمة السورية.
حتى وإن أظهرت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير ذلك، حيث أخلى ضمنيًا مسؤولية تركيا عن الحادث بالإشارة إلى أنه يستهدف العلاقات بين البلدين، ولكنه أشار إلى أنه أيضًا يستهدف ما أسماها “عملية السلام في سوريا”، وهو ما يعني أن الجانب الروسي سيربط بين الحادث وبين محادثاته المرتقبة مع تركيا بشأن سوريا، وبدليل آخر عدم إلغائه للاجتماع المقرر على مستوى وزراء الخارجية.
هذه المحادثات المرتقبة تأتي بعد قرار أممي صادر عن مجلس الأمن بالإجماع بإرسال مراقبين لمتابعة عملية إجلاء الجزء الشرقي من حلب، كما تأتي في ظل شبه قيادة روسية تركية لتطورات الوضع في المدينة المنكوبة بعيدًا عن الغرب، حيث تحاول تركيا إدارك ما يمكن إدراكه على المستوى الإنساني بعد أن اتخذت روسيا من خلف نظام الأسد قرارًا بتصفية المدينة تمامًا.
الجانب الروسي سيربط بين الحادث وبين محادثاته المرتقبة مع تركيا بشأن سوريا
هذه القيادة الروسية التركية لم ترق للجانب الإيراني كثيرًا الذي يختلف في الخطوات التكتيكية على الأرض في سوريا مع حليفه الروسي، خاصة في الجزء الخاص بإجلاء الجزء الشرقي لمدينة حلب، وهو الأمر المتفق عليه تركيًا وروسيًا وتم تدعيمه بقرار أممي.
لذا حالة الاضطراب والشقاق التي قد تنشأ عن عملية الاغتيال سيكون المستفيد الأول منها الجانب الإيراني الذي سيشهد تصدعًا في المعسكر الروسي التركي إذا ما قررت روسيا أن تستخدم الحادث لصالحها ضد أنقرة، وهو الأمر الذي سينعكس إيجابًا بالطبع على وجهة النظر الإيرانية في عملية إجلاء حلب، والتي حاولت أن تفرضها فرضًا مرتين على الجانب الروسي عبر مليشياتها التي أعاقت عملية الإجلاء أكثر من مرة، إلى الحد التي هددت روسيا فيه أي طرف سيعيق خطتها للإجلاء بالقصف المباشر.
وبعيدًا عن الإغراق في نظرية المؤامرة، فمثل هذا الحادث لا يمكن أن يمر دون استغلال على أقل تقدير من أطراف عدة تتربص بأنقرة، ومع استبعاد عملية تدبيره، فالمحصلة ستكون محاولة لجر الطرف التركي إلى مواجهة كتلك التي حدثت عقب إسقاط الطائرة الروسية، وهو ما تحاول تركيا تفاديه الآن، ولكن بالتأكيد ستكون له أثمان على محاور أخرى.
تركيا تدرك جيدًا أن أول ما سيستخدم فيه الحادث هو العودة إلى المربع صفر في مسألة العلاقات التركية الروسية
كما يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من هذا الحادث وتبعاته في حال انجرت موسكو لأي مواجهة من أي نوع مع أنقرة، والاستفادة الأمريكية ستكون على صعيد إزاحة تركيا قليلًا عن الجانب الروسي، وعزلها عنه بعد أن أدى توافقهما الأخير إلى تهميش دور الولايات المتحدة إلى حد ما في تسيير مجريات الأمور في الشمال السوري.
ولكن غالب التصريحات الصادرة حتى الآن من الجانبين التركي والروسي تبدو في غاية التعقل واستخدام البرجماتية، وهو ما قد يفوت الفرصة على المتربصين بالعلاقات التركية الروسية، وسيحصر أضرار هذا الحادث على الغرف المغلقة الروسية التركية، ولكن الأمر بهذه الصورة سيكون بالنسبة لتركيا أخف ضررًا من المواجهة المفتوحة، ولكن هذا بشرط أن تسير الأيام القادمة على وتيرة ساعات ما بعد حادث الاغتيال.