ترجمة وتحرير محمد سماحة
يتفاعل كثير من الناس مع صعود “الترامبية” والحركات الأصولية الأوروبية بقراءة التاريخ وخصوصًا فترة ثلاثينيات القرن الماضي وهو رد الفعل الصحيح، فالأمر يتطلب إرادة عمياء للتغاضي عن المقارنة بين صعود الفاشية وواقعنا السياسي الحاليّ الذي استحال إلى كابوس،
إلا أن الثلاثينيات ليست الفترة الوحيدة التي تحوى في جعبتها دروسًا لتلقيها علينا، فالتاريخ يزخر بالدروس والعبر المتشابهة على تعاقب الأزمنة واختلاف الأيام.
مؤخرًا قضيت الكثير من الوقت متجولًا بين أروقة التاريخ القديم وصحائفه، ابتدأ الأمر كتسليةٍ لي وكهروبٍ من أمور تزايد تعقيدها وأخبار استفحل سوءها على مر اللحظات حتى انتبهت إلى تشابه واقعنا الحاليّ مع فترات متعددة من تاريخ الرومان لا سيما القصة وراء سقوط الجمهورية الرومانية.
تتويج يوليوس قيصر كإمبراطور بداية سقوط الجمهورية الرومانية
إليكم ما تعلمته، المؤسسات والمعاهد الجمهورية لا تضارع الطغيان ولا تمثل معارضة بوجهه عندما يشرع ذوو النفوذ برفض المعايير السياسية العامة وبالتالي يمكن للطغيان أن يستشري حتى وإن اتخذ الجمهورية كواجهة.
بدايةً، يشير المؤرخ أدريان جولدزورثي في كتابة “باسم روما” إلى ضم السياسة الرومانية منافساتٍ شرسة بين أشخاصٍ طموحين لقرونٍ طوال، لكنها كانت منافسة نظمتها قوانين لا تُخرَق ولا تتبدل، ويضيف أدريان أنه لطالما كان من المهم للفرد الروماني إضفاء مجد على منجزاته حتى يعلى اسمه ومكانة عائلته في صالح الجمهورية، ولم يحدث أبدًا أن سعى سياسي روماني ناقم لمساعدة قوة أجنبية له وتدخلها في الشؤون الداخلية لصالحه.
الولايات المتحدة الأمريكية كانت هكذا أيضًا، بنوابٍ وجهاء ينادون بوقف التحزب لحساب الصالح العام، لكننا الآن نملك رئيسًا استعان بالروس جهرًا لتشويه منافسه وتذهب المؤشرات لكون أغلبية حزبه لا تمانع فعله ولا تعارضه.
توضح استطلاعات جديدة للرأي أن موقف أعضاء الحزب الجمهوري تغير لاستحسان بوتين والروس (وقد بدا واضحًا تدخل الروس وتلاعبهم بنتيجة الانتخابات الأمريكية) وذلك بسبب تقديم أهمية الظفر بالمنازعات الدبلوماسية على الصالح العام للجمهورية والرعايا.
وماذا ينتج عن ذلك من تأثيرٍ على الجمهورية؟
بوجهٍ عام على الورق فإن تحول روما من النظام الجمهوري لإمبراطورية لم يحدث قط، فقد ظلت الإمبراطورية الرومانية يحكمها مجلس الشيوخ يملك سلطة معارضة الحاكم الذي لم يحز سوى لقب “قائد” في أية متعلقات بمجريات الحياة اليومية من سياسةٍ واقتصاد.
ربما لا نسلك نحن ذات الطريق – وأنا أشك في ذلك – غير أن عملية سحق الجوهر الديمقراطي مع الإبقاء على مؤسسات المجتمع المدني قائمةٌ على قدمٍ وساق.
ضع في الحسبان ما حدث في ولاية “نورث كارولينا” منذ بضعة أيام حيث اختار الناخبون وبوضوح حاكمًا ديمقراطيًا للولاية، فقام المشرعون الجمهوريون بالتلاعب بالنتيجة، ليس على الملأ بالطبع ولكن من خلال سحب نفوذ مكتب حاكم الولاية الذي أضحى شكليًا فباتت إرادة الناخبين لا تعني شيئًا.
ادمج هذه الواقعة بالجهود الدؤوبة لتفتيت ظاهرة تصويت التجمعات الصغيرة وإلغائها ليصبح أمامك نواة لدولة حزب واحد تتقمص رداء الديمقراطية ولكنها في الواقع أرست ما لا يمكّن أي معارضةٍ لحزبها الحاكم من التمثيل العادل والوصول.
لماذا يحدث هذا؟
أنا لا أتساءل عما يدفع أبناء الطبقة العاملة من البيض لدعم سياسيين وسياسات ستضر بمصالحهم مستقبلًا، إن سؤالى يتمحور حول إعراض قيادات وأعضاء حزبٍ ما عما عهدناه من قيم أمريكية رئيسة، ولنكن صرحاء فإن هذه القضية ترتبط بالجمهورين فقط وليست دربًا ينتهجه كلا الحزبين.
ما الذي يقودنا في هذا الاتجاه؟
إن الأمر لا يتعلق بالأيديولوچية وحسب، فبالاستناد على فرضية أن مؤيدى فكرة السوق الحر من الساسة يتجهون الآن لوضع اقتصاد العلاقات (وهى نظرية اقتصادية تقوم على تعريف نجاح الشركات والمؤسسات بدرجة قربها من النظام الحاكم واتفاقها معه واعتمادها سياسته الاقتصادية) ضمن اعتباراتهم طالما أنه يضم الأشخاص الذين حازوا رضا دوائر الحكم.
إن الأمر يرجع إلى سياسة إعادة التوزيع القاضية بجمع رؤوس الأموال من الطبقتين العاملة والكادحة وإعادة توزيعها لصالح الأغنياء، لذلك ينقلب النصاب الاجتماعي وهي رؤية الجمهوريين الاقتصادية في العصر الحديث، لذا ينصب هجوم الجمهوريين الجدد على الديمقراطية انطلاقًا من مسألة السوق الحرة، فهم يعتمدون على اقتصاد الأشخاص، ذلك النظام الخاضع للضغوط الحكومية والممارسات الطبقية والانتماءات الحزبية والمرتكز أصلًا على الدعم المالي للبلوتوقراط ( طبقة الأثرياء الحاكمة وأصحاب المصالح ) Lobbyists لمثل هؤلاء فإن كل ما يهم فقط هو الدفاع عن الحزب الذي ينتمون إليه والذي بدوره يرعى مصالحهم ويضمن نماء ثرواتهم ومتى انتابهم غضب ممن ناصبهم العداء أو نافسهم في أمرٍ ما فإنهم يعمدون إلى فضحهم والتشهير بهم وبالتالي يقلبون المنافسات السياسية إلى خصومات شخصية وتكن ردود فعلهم انتقامية.
وبين الأشياء الكثيرة المتجلية يظل واضحًا أن علة السياسة الأمريكية تشابه ما أدى لنفوق الجمهورية بروما، فالطريق لم يبدأ بترامب وإنما هو علامة استكمالية لتآكل المؤسسات الديمقراطية وضياع دورها الوظيفي الذي ظل لعقود ولا زال يؤرق مشترعي الولايات المتحدة وفلاسفتها السياسيين لا سيما لاحتمالية عدم قدرتنا على التعافي من تبعات هذا الضياع.
ولو كان هناك ثمة أمل تبقى فإنه يبتدئ في تصريح بوضوح العلة وبيانٍ جلي للإشكالية، فالديمقراطية الأمريكية التي كان يحتَذى بها باتت الآن على حافة الانهيار والزوال.
المصدر: النيويورك تايمز