وحدها، استطاعت أن تستيقظ وتقف على قدميها بهدوء، فبدلًا من أن تسير مع التيار السائد في القارة ككل، تيار الفقر والقفر والحروب والمجاعات، اختارت تيار التقدم والازدهار، تيار أشبه بنهر يحاول جاهدًا أن يشق صحراء خالية من الحياة، حتى استطاعت في فترة وجيزة ومدة قياسية أن تجعل من اسمها علمًا يرفرف في أعالي السماء يشار إليه بالبنان، إنها “جنوب إفريقيا”!
أثبتت جنوب إفريقيا للعالم أجمع أن التخلف والتقدم لا علاقة لهما لا بالعرق واللون، وأن الأجناس البشرية متماثلة، فقط المشكلة تكمن في الثقافة البدائية وما تطبّع به الإنسان من أفعال، وتشبّعه من آبائه وأجداده، وفي تلك العادات والتقاليد التي تتحكم في طريقة عيشه ومعاييره في الحكم على أبسط الأمور، فها هي جنوب إفريقيا تقفز في شتى المجالات العلمية منها والصناعية وحتى الزراعية وتصدّر للعالم علماء ومفكرين ومبدعين في جميع التخصصات التي سُخّرت لخدمة مشروعات النهضة والازدهار، بدلًا من المهاجرين الباحثين عن مأوى بعدما سأموا الحروب واعتادوا الجوع، وهيأوا أنفسهم للموت دون الحياة ودون السؤال عن اللحظة والمكان كما الحال في معظم دول القارة السمراء، فهي كالشمعة المنيرة، لكن مجرد بقعة في صحراء معتمة!
فمع الثورة الصناعية الهائلة التي حظي بها العالم، وكل هذا الضجيج الصناعي في شرق الأرض وغربها لم تتمكن هذه القارة من الاستفادة مما يحيط بها، فكانت صماء إزاء كل هذا الضجيج لا تسمع إلا نفسها ولا ترى سوى صراعات البقاء بينها، ولا تستشعر سوى الموت رغم ما تتمتع به من ثروات طبيعية هائلة، اللهم إلّا شراء مزيد من الأسلحة لمزيد من الاقتتال والإبادة الجماعية والتهجير القسري لسكانها بمجاعات ونقص لأبسط متطلبات الحياة فظلّت رافضة كل أيدي النجدة والإنقاذ الممتدة نحوها!
لكن جنوب إفريقيا كانت استثناءً، أشبه بلغز أو ومعادلة رياضية عويصة مثيرة للدهشة لا حل لها ولا تفسير، ففي المجال الطبي كانت أول عملية جراحية ناجحة لنقل وزراعة قلب من إنسان لإنسان قد تمت في جنوب إفريقيا، وفي التسعينيات الميلادية أعلن رئيس وزرائها فورستر وبكل فخر عن نية بلاده تطوير مبدأ فريد لتخصيب اليورانيوم، وإقامة هيئة مستقلة لتخصيب اليورانيوم.
أما في المجال الزراعي استطاعت جنوب إفريقيا على الرغم من أن مساحاتها الصالحة للزراعة لا تكاد تتجاوز 10% من مساحاتها الإجمالية، أن تنتج فائضًا متنوعًا يزيد على حاجاتها الزراعية لتضطر لتصديرها للخارج، فهي تنتج كميات مهولة من البطاطس والفول السوداني وقصب السكر والصوف التي تعتبر ثاني أكبر بلد مصدرة له في العالم، إضافة إلى أنّ قطاع الماشية مزدهر ونشّط جدًا، وفي الجانب السياحي يزوروها سنويًا قرابة المليون سائح كمصدر دخل أساسي لها.
هذا التقدم الهائل في شتى المجالات فتح لها بابًا متدفقًا من المهاجرين والباحثين عن لقمة العيش من جيرانها الذين تشرّبوا ثقافة الموت من أثداء أمهاتهم، هذا الباب أوقع جنوب إفريقيا في مأزق كبير منذ ذلك الحين فلا هي تستطيع عزل نفسها عن القارة، ولا الانفتاح والتضحية بمنجزها الثقافي والحضاري!
لكن السؤال هنا ما الذي حمل جنوب إفريقيا على أن تجدف وحيدة عكس تيار القارة الجارف، وتقفز بكل هذه القوة من قاع التخلف إلى قمة الازدهار؟
فلو أن المسألة كانت تتعلق بدولة في الغرب أو الشرق لظننا أن السبب بيولوجي ولكدنا أن نمنح تلك البحوث الركيكة التي ظهرت في السبعينيات الميلادية وزعمت أن ثمة تمايز بين البشر فرصة لأن ترى النور مجددًا، لكن المأزق هنا أن جنوب إفريقيا جزء من ذات القارة التي توصم بالتخلف واعتادت تصدير ضحايا الفقر والعوز!
قد يقول قائل ربما الاستعمار البريطاني ساهم بشكل كبير في خلق هذه المعجزة ومهد لها الطريق القويم نحو ميلاد جديد من خلال إرساء ثقافة المؤسسات وثقافة فصل السلطات داخل الدولة، لتمكّنها من مراقبة بعضها البعض، فلا تستبدّ سلطة بحكم ولا تنفرد برأي، كسبب رئيسي من عدة أسباب.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيًا بعدها ودون مقدمات، ماذا عن باقي المستعمرات الإنجليزية في باقي أنحاء القارة؟ لم لم يكن لها ولو جزء بسيط من تلك الحظوة التي انفردت بها المستعمرة الجنوبية من تنمية ونهضة؟!
هل لأنها راهنت على المورد البشري بدلاً من الخام فحققت المراد، بينما هم راهنوا على سلطاتهم المستبدة واستسلموا لأيدلوجياتهم المختلفة مع اختلاف أمزجتهم فضلوا الطريق الذي مهّده الاستعمار؟ أم أنّ وراء الأكمة ما ورائها؟