ضربة جديدة تلقتها تركيا في جدار علاقتها بروسيا، لكنها هذه المرة من نوع خاص، فالقضية لا تتعلق بسقوط طائرة أو استهداف مواطن على أراضيها، بل باغتيال الممثل الرسمي لموسكو في أنقرة، لتضع حادثة مقتل السفير الروسي لدى تركيا أندريه كارلوف العلاقات الروسية التركية على المحك، في اختبار قد يكون الأقسى والأصعب في تاريخ البلدين.
لم يدر بمخيلة المسؤولين في تركيا أو روسيا على حد سواء، أن تذهب بهم الأقدار إلى هذا النفق، خاصة قبيل ساعات من انطلاق الاجتماع المزمع عقده في موسكو بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران بشأن الأزمة السورية، ورغم تفهم الطرفين لملابسات الحادث ودوافعه إلا أن وقع الحادثة لا شك سيلقي بظلالها القاتمة على العلاقات بين البلدين، فهل تنجح الدبلوماسية التركية في امتصاص الغضب الروسي، وإجهاض مخططات إساءة العلاقات مع موسكو؟
الأولى من نوعها
اغتيال السفير الروسي في أنقره هو الأول من نوعه الذي يتم فيه استهداف دبلوماسيين على مر تاريخ العلاقات بين البلدين، وهو ما يضفي على هذه الجريمة مزيدًا من الأهمية والحساسية في آن واحد، فضلاً عما يتطلبه من دراسة متأنية لتفاصيلها وأبعادها والجهات التي تقف خلفها.
التطور النوعي في تنفيذ العملية يضع العديد من علامات الاستفهام، فبعد أن كانت مثل هذه العمليات تتم في السابق سواء كانت بتفجير أو محاولة انتحارية في سرية وتخفي من قبل الجاني عن عيون المحيطين به، تحولت إلى التنفيذ على الهواء مباشرة، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، في مشهد أقرب للدراما منه للإرهاب.
اختيار ضابط سابق بقوات الحراسات الخاصة بأنقرة، وتسلله إلى جوار السفير بهذه الطريقة التي تناقلتها وسائل الإعلام، دون أن يستوقفه أحد، أو يتيقن من هويته، علامة استفهام أخرى، ثم السؤال الأبرز: أين الحراسة الخاصة بالسفير الروسي والتي من المفترض أن ترافقه أينما رحل؟ كل هذه الشواهد تعزز فرضية أن هذه العملية تطور ملحوظ في فكر المخططات الإرهابية سواء قامت بها جماعات أو استخبارات دول بأكملها.
ضربة جديدة لتركيا
لا شك أن مقتل السفير الروسي بأنقرة صدمة جديدة للأتراك لا سيما في هذا الوقت الحرج الذي تمر به تركيا، بدءًا بمحاولة الانقلاب الفاشلة، مرورًا بزيادة وتيرة العمليات الإرهابية التي تستهدف جميع فصائل الشعب التركي، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي تواجهها، وصولاً إلى تأزم الوضع في سوريا والذي ألقى بظلاله على المشهد التركي برمته.
ملامح الصدمة باتت واضحة في ردود الفعل التركية السريعة على الحادث، التي سعت وبكل قوة إلى تصفية المنفذ فورًا كخطوة أولية، أعقبها العديد من التصريحات التي تركز على طمأنة الجانب الروسي وتعزيز العلاقات بين البلدين، وعدم التأثر بهذا الحادث، وهو ما تعاملت معه موسكو بهدوء وتفهم حتى الآن.
ومما يعزز من تأثير هذه الصدمة أنها جاءت بعد مرور عام تقريبًا على حادثة إسقاط المقاتلة الروسية من طراز “سوخوي 24” على الحدود السورية التركية في الرابع والعشرين من نوفمبر من العام الماضي، والتي بسببها دخلت العلاقات التركية الروسية إلى نفق مسدود من القطيعة السياسية والاقتصادية فضلاً عن التراشق الإعلامي المتبادل هنا وهناك.
لكن دبلوماسية أنقرة حينها نجحت في احتواء الأزمة سريعًا، حيث بادر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتصال هاتفي بنظيره فلاديمير بوتين على الفور، أزال وبصورة كبيرة تلك الغيوم التي عكرت صفو الأجواء بين البلدين لتدخل مرحلة جديدة من الدفء والتعاون المشترك، تجسد في التنسيق الجيد لحلحلة الوضع في حلب وهو ما أقلق العديد من القوى الإقليمية والدولية كما سيرد ذكره لاحقًا.
سقوط الطائرة الروسية من طراز “سوخوي” على الحدود السورية التركية في نوفمبر 2015
رد الفعل الروسي وتدويل الحادث
أبدت موسكو تفهمًا سياسيًا واضحًا حيال هذا الحادث، وهو ما تجسد في التصريحات الرسمية الصادرة عن الرئيس فلاديمير بوتين، والذي أعلن أن اغتيال السفير كارلوف استفزاز يستهدف العلاقات الطيبة بين روسيا وتركيا والتسوية في سوريا.
الناطق الرسمي باسم الرئيس الروسي أفاد أن اجتماعًا جرى بين بوتين، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية سيرغي ناريشكين، ومدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ألكساندر بورتنيكوف، حيث استمع إلى تقاريرهم المفصلة بشأن اغتيال السفير.
كما شدّد الرئيس الروسي خلال الاجتماع على ضرورة معرفة “من وجَّه يد القاتل”، مؤكدًا أن الرد الوحيد على اغتيال السفير هو تعزيز محاربة الإرهاب، وتطويق نفوذه في دول المنطقة جميعها.
فتحت مديرية التحقيق للقضايا الهامة والخاصة بمكتب التحقيق الفيدرالي الروسي قضية جنائية على أساس جريمة بموجب الجزء 3 من المادة 361 من القانون الجنائي [قانون الإرهاب الدولي، والذي تسبب في وفاة شخص
وفي نفس الوقت أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي الروسي، عن فتح تحقيق دولي بشأن مقتل السفير الروسي لدى تركيا بموجب المادة 361 من القانون الجنائي بوصفه “عمل إرهابي دولي”.
وقالت لجنة التحقيق الروسية في بيان: “على إثر مقتل سفير روسيا لدى تركيا أندريه كارلوف، فتحت مديرية التحقيق للقضايا الهامة والخاصة بمكتب التحقيق الفيدرالي الروسي قضية جنائية على أساس جريمة بموجب الجزء 3 من المادة 361 من القانون الجنائي [قانون الإرهاب الدولي، والذي تسبب في وفاة شخص].
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين
فتش عن المستفيد
التقارب التركي الروسي الذي وصل أعلى درجاته في الآونة الأخيرة، سواء على مستوى العلاقات بين البلدين أو على مستوى التنسيق والتفاهم فيما يتعلق بالملف السوري، أقلق الكثير من القوى الإقليمية والدولية المهتمة بما يحدث في سوريا، أو التي لا ترغب في تقارب بين أنقره وموسكو يأتي على حسابها أو يسحب البساط من تحت حضورها الإقليمي، لذا كان البحث عن المستفيد من هذا الحادث من أبرز الطرق وأقصرها التي تقودنا إلى تطويق دائرة الاتهام في هذه العملية.
ورغم وجود بعض الأصابع التي تلوح إلى تورط المخابرات التركية في هذا الشأن، فإن الخبراء والمحللين فندوا تمامًا هذه الفرضية الصفرية، خاصة أنها لا تصب مطلقًا في صالح أنقره، فضلاً عن توقيتها الخطير والذي يأتي قبيل ساعات من الاجتماع الثلاثي مع روسيا وإيران لمناقشة الأزمة في سوريا، وما قد يسببه هذا الحادث من إحراج الجانب التركي، وإضعاف موقفه فيما يتعلق بالوضع في حلب.
الأمريكان
بنظرة مدققة نجد أن الجانب الأمريكي من أكثر المستفيدين من هذه الحادثة، وذلك لأكثر من بعد، أولاً تراجع الوجود الأمريكي وفقدان تأثيره في سوريا وحلب، وتهميش دوره في القضية بعد أن كان اللاعب الأول بها طيلة السنوات الماضية، وتمحور القوى المؤثرة في التحالف الروسي التركي الإيراني، ثانيًا محاولة إفشال الاجتماع المزمع عقده في موسكو اليوم حتى تعود الأزمة إلى المربع “صفر” مرة أخرى على أمل أن تعود واشنطن للساحة مرة أخرى، ثالثًا قلق الأمريكيين من التحالف الروسي التركي لما يتضمنه من قوة وحضور إقليمي قد تؤثر على نفوذ أمريكا في المنطقة.
فتح الله غولن
على الرغم من نفي شبكة “غولن” صلتها بالحادث، العديد من أصابع الاتهام توجه إليها بصورة كبيرة، خاصة بعد تورطها قبيل عدة أشهر في محاولة انقلاب فاشلة أجهضها النظام التركي في يوليو الماضي، وهو ما ألمحت إليه بعض المصادر الأمنية التركية.
مخططات فتح الله غولن للإطاحة بنظام أردوغان لا تخفى على أحد، ورغم وجوده في أمريكا فقد نجح في تكوين “شبكة موازية” في الشرطة والجيش والقضاء والخدمة المدنية بهدف الإطاحة بالدولة، حسبما أشارت المصادر التي رفضت الكشف عن هويتها.
وانطلاقُا من هذه الفرضية تسعى الحكومة التركية إلى محاولة الكشف عن العلاقة بين منفذ العملية مولود ألتن طاش وبين منظمة “غولن” للوقوف على مدى تورط القيادي الهارب في هذه العملية أم لا، لكن هذا لا ينفي أنه من أكثر المستفيدين من هذا الحادث وإن لم تكن له علاقة بها.
الانفراد الروسي التركي بالسيطرة على القرار داخل حلب لا سيما الجانب الشرقي منها أصاب طهران بالقلق، إحساسًا منها أن بساط النفوذ داخل الأراضي السورية يسحب من تحت أقدامها
محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا يوليو الماضي والمتهم فيها فتح الله غولن
إيران
العديد من الدوافع أيضًا تداعب أذهان الإيرانيين للتورط في هذه الجريمة، لا سيما بعد تباين وجهات النظر بين طهران وموسكو في الآونة الأخيرة بشأن اتفاق التهدئة والإجلاء في حلب، والذي جاء بتنسيق روسي تركي عززه قرار أممي بما لا يروق للقيادة الإيرانية.
الانفراد الروسي التركي بالسيطرة على القرار داخل حلب لا سيما الجانب الشرقي منها أصاب طهران بالقلق، إحساسًا منها أن بساط النفوذ داخل الأراضي السورية يسحب من تحت أقدامها لحساب الحليف الروسي، وهو ما لا ترضى به طهران، حتى لو قبلته مؤقتًا، ومن ثم بات العمل على إفساد العلاقة بين تركيا وروسيا أمرًا واردًا لهدم هذا التحالف الذي جاء على حساب إيران.
أوروبا
سباق المستفيدين من اغتيال السفير الروسي في تركيا لم يخل من البعد الأوروبي أيضًا، خاصة بعد التوتر في العلاقات التركية الأوربية في الفترة الأخيرة، جراء تسويف وتأجيل الجانب الأوروبي البت في مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وهو الهدف الذي تسعى أنقره لتحقيقه منذ فترة، وقدمت لأجله الكثير من التضحيات كان في مقدمتها إيواء الملايين من اللاجئين.
رد الفعل التركي حيال الموقف الأوروبي كان بالتلويح بالانضمام لتحالف شرقي خالص، يضم روسيا وإيران والصين والهند وبعض الدول الأخرى، وهو ما رأته أوروبا خطرا عليها وعلى دورها الإقليمي، لذا كان السعي لإحداث شرخ في هذا التحالف قرارًا يصب في صالح القارة العجوز.
ما بين تقوية العلاقات وإضعافها
تباينت ردود الفعل حيال انعكاسات هذا الحادث على مستقبل العلاقات بين روسيا وتركيا، حيث رأى فريق أنه سينعكس سلبًا على العلاقات بين البلدين، خاصة أن موسكو تنظر للحادث كونه مسألة “كرامة وطنية” حسب وصف البعض، لا سيما أن جرح موسكو من إسقاط المقاتلة الحربية على الحدود السورية التركية لم يندمل بعد، بينما رأى آخرون أن ما حدث سيعزز من قوة العلاقات بين الجانبين، خاصة وأن هناك تفهم روسي لما حدث، خاصة يقينها التام أن هناك أيادٍ خفية تسعى لإفشال اجتماع اليوم في موسكو بشأن الأزمة السورية، وهو ما كشفته تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب الحادث.
التوقعات في معظمها تميل إلى ترجيح كفة الرأي الثاني، والذي تشير إلى تقوية العلاقات بين البلدين وتزيد التنسيق والتفاهمات بينهما بصورة كبيرة لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب ومحاربته بصورة جدية، وهو ما قد يسهم في زيادة احتمالية التوصل إلى رؤية مشتركة في اجتماع اليوم بشان الوضع في حلب.
تنسيق روسي تركي لإجلاء المدنيين من حلب
هل تنجح الدبلوماسية التركية في الاختبار؟
“إن اغتيال السفير أندريه كارلوف كان استفزازًا يهدف للإضرار بالعلاقات بين روسيا وتركيا والتي دخلت مرحلة التطبيع” بهذه الكلمات استهل الرئيس التركي رجب طيب الرئيس التركي نجح في خطب ود نظيره الروسي من خلال العزف على وتر الوضع في حلب، وضرورة العمل بجانب الروس على القضاء على الإرهاب بشتى السبل، وذلك قبيل ساعات من الاجتماع المقرر لمناقشة هذه القضية، حيث قال في كلمته: “أدين هذا الاغتيال الشنيع لسفير روسيا، أندريه كارلوف، إننا الآن على اتصال وثيق مع روسيا، خاصة، بشأن سوريا ووقف إراقة الدماء في حلب، إن هذا العمل الإرهابي يمثل هجومًا على الشعب التركي، إنه استفزاز صريح”.
تصميم موسكو على عقد الاجتماع المزمع اليوم لبحث الوضع في حلب، وإيفاد أردوغان وزير خارجيته لحضور اللقاء، رغم هذا الظرف الاستثنائي، يعكس رغبة الطرفين في مواصلة جهود مكافحة الإرهاب من جانب، وتفهم كلا الجانبين لملابسات الحادث وأبعاده من جانب أخر.
الصحف الروسية ألقت الضوء على تصريحات أردوغان وتكاتف جميع الأجهزة الأمنية والسياسة التركية لمتابعة الحادث والتواصل للأيادي المتورطة فيه استجابة لما طالب به الرئيس الروسي، خاصة تشديد الرئيس التركي على تواصله المستمر مع بوتين لمتابعة مستجدات الحادث.
تصميم موسكو على عقد الاجتماع المزمع اليوم لبحث الوضع في حلب، وإيفاد أردوغان وزير خارجيته لحضور اللقاء، رغم هذا الظرف الاستثنائي، يعكس رغبة الطرفين في مواصلة جهود مكافحة الإرهاب من جانب، وتفهم كلا الجانبين لملابسات الحادث وأبعاده من جانب أخر.
نجاح الدبلوماسية التركية في تخطي عقبة إسقاط المقاتلة الروسية على الحدود مع سوريا، فضلاً عما فرضته مستجدات الوضع في سوريا من ضرورة تكاتف الجهود الروسية التركية جنبا إلى جنب، إضافة إلى حاجة كل دولة للأخرى لدعم وتعزيز دورها الإقليمي في مواجهة الغرب وأمريكا، يبعث بالتفاؤل حيال قدرة أنقرة على امتصاص غضب موسكو، وإفساد مخططات المؤامرة التي تستهدف إحداث شرخ جديد في العلاقات بين البلدين.