الله أكبر، لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا، تراجعوا، تراجعوا، الموت وحده سيبعدني من هنا، المشاركون بهذا القمع سيدفعون الثمن واحداً تلو الآخر.”.. كلمات حماسية متسارعة تلفظ بها أحد أفراد القوات الخاصة لمكافحة الشغب التركية، بعد أن أقدم على اغتيال السفير الروسي بأنقرة، آندريه كارلوف، بإطلاق الرصاص عليه أثناء خطابه في معرض فني في العاصمة التركية.
أزمة وتداعيات ودلالات
العملية غير المتوقعة يراها المراقبون اختباراً قاسياً جداً للعلاقات التركية الروسية، التي طرأ عليها تحسن كبير في الآونة الأخيرة، انعكس إيجاباً على الملف السوري، خصوصاً بعد التوتر الكبير الذي حصل بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسية على الحدود التركية، ما يعني أن الهدف من ورائها ليس فقط كما هتف الجاني إنقاذ أهالي حلب وسوريا، من المجازر اليومية لقوات النظام المدعومة من روسيا، لكن الهدف الرئيس هو تدمير أية محاولة لاستعادة موسكو وأنقرة علاقتهما الجيدة، وربما إيقاف محاولات حل الأزمة السورية، خصوصا إذا طبقنا مبدأ البحث عن الجهة المستفيدة ودلالات توقيت الحدث، كأحد أهم قواعد التحليل .
فتش عن المستفيد
قياسا على ما سبق فإن المؤشرات تشير بأصابع الاتهام إلى طرفين لا ثالث لهما، هما المستفيد الأكبر مما حدث، خصوصا وأن حادث الاغتيال استبق بيوم واحد موعد القمة الروسية التركية الإيرانية في موسكو حول حلب، على مستوى وزراء الخارجية والدفاع، أول هذه الأطراف هو النظام الإيراني الذي يخشى من أي تقارب روسي – تركي، يؤثر على مكانته بسوريا، خصوصا بعد إعلان أنقرة رفضها الانسحاب من بعشيقة في الموصل، وإطلاق عملية درع الفرات، بدعم بري من الجيش الحر.
ومنذ تلك اللحظة ونظام الملالي يسعى لإفشال المساعي التركية، بعدما أدركت طهران، مؤخراً، أن عملية درع الفرات التركية والتوغل إلى العمق ، وتحديداً إلى مدينة الباب، جاء بضوء أخضر من موسكو، التي تجاهلت إيران في هذه الصفقة، وهو ما أغضب طهران؛ خاصة بعد أن وافقت موسكو لأول مرة على إرسال مراقبين دوليين عبر تصويتها لقرار مجلس الأمن القاضي بإرسال مراقبين دوليين إلى حلب؛ لمراقبة عمليات الإجلاء بل حتى حماية من يريدون البقاء في حلب، وهو ما يعني فعلياً إضعاف هيمنة المليشيات الإيرانية داخل حلب، ووضع المدينة العريقة تحت الوصاية الدولية، وهو مسعى تركي روسي.
وربما أمريكي يهدف لإخراج طهران من اللعبة، ما استدعى تحركات إيرانية خوفا من تداعيات ذلك على موقفها بالعراق ولبنان والبحرين، ومحاولتها لحصار دول الخليج السنية، لاسيما المملكة العربية السعودية، وحذرت على لسان رئيس تشخيص مصلحة النظام في إيران، اللواء محسن رضائي، الذي كتب في تغريدة له على حسابه الشخصي في “تويتر”: “إن أي توافق سياسي أو ميداني في سوريا خلف الستار من دون حضور إيران محكوم بالهزيمة”.
الدور التركي ومحاولات الوقيعة
بالإضافة لكل الشواهد السابقة، هناك اعتراف إيراني داخلي يدعم هذا التصور، وهو تقرير مركز الدبلوماسية الإيراني التابع للخارجية الإيرانية، الذي كشف فيه عن الغضب الإيراني من التدخل العسكري التركي في الموصل، وإصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الدفاع عن السنة العرب في العراق، لافتا إلى أن هناك أهمية قصوى للملف السوري في الصراع الجغرافي والسياسي القائم بين تركيا وإيران في المنطقة، وهو ما يزيد حدة المنافسة على الساحة السورية.
ودعا المركز إلى التحرك بقوة لإفساد التمدد التركي في العراق وسوريا، وهو التوجيه الذي نفذته طهران باستهداف ضباطاً وجنوداً أتراكاً على حدود مدينة الباب السورية، بطائرة بدون طيار أدت إلى مقتل أربعة ضباط أتراك من القوات الخاصة، وإصابة آخرين، في محاولة لإلصاق التهمة بروسيا، للوقيعة بين الجانبين، لكن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بادر بالاتصال فوراً بـ”أوردوغان”، وأكد له أن القوات الروسية، وطائرات النظام السوري لم تقم بعملية الاستهداف، فاتحاً الباب بطريقة غير مباشرة لاتهام إيران بالقيام بالعملية.
أذرع الملالي
أما الطرف الثاني المتهم بالتورط في تلك الواقعة فهي المنظمات الإرهابية، ومروجوا هذا الاحتمال يرون أن طهران أجبن من أن تقدم على هذه الفعلة بشكل مباشر؛ خوفا من ردة الفعل الروسية في حال اكتشاف فعلتها، لكن في المقابل يرى أصحاب هذا الرأي أن دولة الملالي بارعة جداً في اختراق المنظمات الإرهابية مثل “القاعدة” و”داعش” والتنظيمات الإرهابية التركية، مثل جماعة جولن، واستخدامها ضد الخصوم، فتفجيرات الرياض جاءت أوامرها من طهران من قبل قادة “القاعدة”، وبالتالي ليس مستبعداً على طهران أن تخترق منظمة “جولن” الإرهابية، المتغلغلة في مفاصل الدولة التركية، لتنفذ عمليات إرهابية وتفجيرية تخدم أجندة طهران؛ بهدف زعزعة الحكم في تركيا وإفشال أي تقارب روسي تركي، قد يخرج إيران من سوريا خالية الوفاض، وهو ما بدت ملامحه بالفعل تلوح بالأفق، ويقوي هذه الفرضية كون المهاجم من القوات الخاصة في جهاز الشرطة.
الذي كان أحد أهم معاقل جماعة جولن، أو “الكيان الموازي”، وقد تخرج فعلا في كلية شرطة ذات علاقة بالكيان، وهدوؤه وطريقة تنفيذه للعملية تشيران إلى تخطيط محكم وتدريب عال، كما أن استهداف السفير الروسي تحديدا في أنقرة يعيد إلى الأذهان إسقاط المقاتلة الروسية العام الماضي، والتي تتفق كل من أنقرة وموسكو حاليا على اتهام جماعة جولن بالمسؤولية عنها، وتوصيفها كمحاولة لضرب العلاقات الثنائية بين الطرفين، ما يعني أن الشعارات “الجهادية” التي أطلقها القاتل، كانت من قبيل التمويه وتوجيه الأنظار إلى تنظيمات مثل القاعدة والنصرة وداعش أكثر من كونها تعبيرا عن منظومة أفكاره.
يدعم هذا التصور الأقرب للواقعية، أن المراكز البحثية الإيرانية والسفارات والبعثات الدبلوماسية، تعد أحد أهم الأدوات الإيرانية للتجسس، وتجنيد العملاء، ولا يستبعد بالطبع أن تكون سفارة طهران بأنقرة متورطة في الأمر، حتى أنها أول من سارع بالإعلان عن إغلاق أبوابها خوفا مما وصفته بـ – تهديدات محتملة- ، سيما وأن إيران تجهز دبلوماسييها للعمل في السفارات بشكل محترف، والسفارات عادة ما تقسم إلى السفير والوزير المفوض، ويكون الوزير المفوض ضابطا مخابراتيا محترفا، لديه تدريب متقن عن الدولة بكافة جوانبها، ومن السهل عليه تجنيد المناوئين لنظام الحكم بالدولة، سواء بالإغراءات المالية أوالسياسية بدعم حركة أو توجه ما، وربما المذهبية باستغلال الشيعة بتلك الدولة أو ذاك .
اللافت أن عمليات التجنيد الإيرانية لعملائها، لا تنحصر فقط في نقل معلومات عسكرية أو غيرها، وإنما تشمل أيضا تجنيد عملاء ينفذون عمليات إرهابية، تستهدف منشآت أو شخصيات بعينها للضغط على سلطات هذه البلاد.
رؤية مخالفة
من جهته استبعد المحلل السياسي أسامة الهتيمي تورط إيران في حادثة اغتيال السفر الروسي في تركيا، ليس لأن إيران بعيدة عن الأعمال والتنظيمات الإرهابية في المنطقة، فعلاقتها بتنظيم القاعدة معروفة، فضلا عن دعمها للعديد من الميلشيات الطائفية التي تمارس الإرهاب بمختلف أشكاله، لكن الاستبعاد يستند إلى طبيعة منفذ العملية، فهو ليس عنصرا منخرطا في جماعة أو تنظيم إرهابي في تركيا، بل هو ضابط شرطة.
وتابع الهتيمي، ولو أننا افترضنا جدلا صحة ما أشار إليه بعض الساسة الأتراك، حول علاقة الضابط بتنظيم فتح الله كولن “الكيان الموازي”، وأن تنفيذ هذه العملية ربما جاء بإيعاز من الكيان، فإن إيران ليست على علاقة قوية بهذا الكيان، الذي يعيش قائده في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم لا يصعب الربط بين العملية والدولة الإيرانية.
كذلك وعلى المستوى السياسي فإن العملية لا تصب في اتجاه المصالح الإيرانية، فليس من مصلحة إيران على الإطلاق تحريك الشعب الروسي لمعارضة الخطوات الروسية في سوريا، خاصة وأن الجميع يدرك أن ما حدث في حلب مؤخرا لم يكن ليحدث لولا التدخل الروسي، الذي هو وبحسب ما نطق به منفذ عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا دافعه لتنفيذ عمليته، في هذا الإطار فإن طبيعة منفذ العملية باعتباره ضابط شرطة تشير إلى إحدى احتمالين، الأول في أن يكون ما ذهب إليه بعض القيادات التركية من أن الضابط الذي ينتمي إلى الحرس الخاص على علاقة بتنظيم الكيان الموازي، وبالتالي فإن الكيان الموازي يتحمل مسئولية هذه العملية.
وهو في اعتقادي أمر غير مستبعد، وأما الاحتمال الثاني فهو أن منفذ العملية لا تربطه أية صلة تنظيمية بالكيان الموازي أو غيره من التنظيمات سواء في الداخل التركي، أو في ، وأن دافعه للعملية هو تأثره النفسي بما شاهده من انتهاكات وجرائم ترتكب بحق الشعب السوري في حلب.
في النهاية.. وعلى الرغم من أن التعاطي الروسي مع الموقف جاء هادئا ومطمئنا، ورغم أن سياقات التوتر قبيل إسقاط المقاتلة الروسية العام الماضي، تختلف عنها الآن، لكن في حال ظهور شبهة تواطؤ أو تخاذل أمني تركي بالموضوع، وضعف في الإجراءات الأمنية، من الصعب الجزم بما يمكن أن يصدر عن بوتين.