ذكر لنا مؤرخ الشام نجم الدين الغزي (ت1651) عنوانًا رئيسًا للدولة الصفوية التي أنشئت في بداية القرن السادس عشر، حيث قال: “قتلت علماء أهل السنة وأكابرها”(١)، فالأساس الذي قامت عليه الدولة الصفوية هو التطهير الطائفي وهذا ما نشاهده حاليًا في الأراضي العراقية والسورية، وهذا السوء الكبير يعود إلى بؤرة الاستقطاب الشيعية التي بنتها عائلة إسماعيل شاه الصفوي المتشيعة باعتبار أنها أول سلالة استطاعت توحيد بلاد فارس وما حولها في إطار دولة ذات استقطاب شيعي، والمتأمل فيها، يجد أنها أقيمت على أسس طائفية.
قاسم سليماني يتجول حول قلعة حلب
وكل تلك الأعمال كانت بسبب مخالفتهم لهم في المذهب، وقد تجدون هذا في خطاب الكاشاني خطيب طهران الذي صرح: “لقد انتصر المسلمون على الكفار في حلب”، والناظر إلى حال الدولة المنافسة لهذا الفكر الصفوي، ألا وهي الدولة العثمانية – كراعية للفكر السني – لا يجد منها هذه السياسة البشعة!
إذ لم يكن للدولة العثمانية عصابات ومليشيات تقوم بعمل قبيح لتدمير الدول، واحتلال البيئات المختلفة، وهذا ما فعلته إيران عن طريق مليشياتها، فأدخلت الفرقة الدينية، وحطمت البلدان فوق ما بها من احتلال، والمشكلة أن كل ذلك يقع في سبيل خدمة مصالح الدول العظمى، فتصبح إيران وكأنها أداة لتنفيذ المآرب الغربية.
وإن عدنا للوراء قليلًا لنتعرف على سبب ضياع بغداد(٢) في الربع الأول من القرن السابع عشر، هو خيانة مسؤول العسكر “الصوباشي بكر” قائد الانكشارية العثمانية في بغداد، إذ بعدما قام بعملية حصار بغداد وقتل فيها من قتل، أعلنت الدولة العثمانية خروجه على الدولة وتآمره على المسلمين، وهو لم يتم هذا العمل لولا أنه وجد تشجيعًا من القطب المنافس للعثمانيين وهم الصفويون، والدليل تلك الرسالة التي أرسلها إلى الشاه عباس الأول، وأخذ يستغيث به لينجده من عقاب العثمانيين، فكان مُنى عباس أن يأخذ بغداد، فحرك جيوشه واستغل الفرصة، وسيطر عليها عام 1624م.
إننا نلمح من هذا الأمر أن أبناء المنطقة هم أحد أهم النقاط التي تدخل منها إيران إلى تفتيت الشعوب وتقسيمها وجعلها ألعوبة بيد الغرب، ولكم خير مثال فيما يحصل في سوريا، فبعد أن نفذت إيران مصائبها في سوريا، إذ إن التدخل في بداية الثورة السورية كان لراعي إيران الأول في الثورة السورية حسن نصر الله، وهذا الأمر لم يصب في مصلحة إيران فقط! إنما ساعد الدول الكبرى كروسيا وأمريكا لتحرك فيها الأمور كما تريد، فروسيا الداعم الرسمي الأول للنظام السوري بتشجيع إيران، وأمريكا هي “العدو المقرب” من هذا النظام كذلك.
إن الإرهاب الإيراني، تابع للسياسة الصفوية التي كانت متبعة آنذاك، وذلك بسبب التشابه الكبير بين موازين السياسة بين العصرين، فكان القمع والإعدام سياسة للتخلص من الثورات الداخلية عليها، كما فعل الشاه إسماعيل في حربه الداخلية التي حرق(٣) بها محمد قارة (حاكم أبرقوه) في مدينة “يزد” وهو أسير في سجنه، بعد أن تغلب عليه! وكل معارضي النظام الإيراني عرب وكرد ممن كانوا من أهل السنة والجماعة، لاقوا المصير نفسه على مشانق رافعات البناء!
وبالمقابل فإننا نرى الدولة العثمانية قامت بإنشاء أساس حقيقي للتعامل مع شعوب المنطقة، تمثل باحترام الأعراق السائدة والمذاهب القائمة والديانات المحلية، بإنشاء معاهدات مع مناطق الكرد(٤) – على سبيل المثال لا الحصر – واعتبرتهم عرقية أصيلة وذات قيمة، واشتهرت قبائل الكرد في تلك الفترة بالطاعة لخليفة المسلمين السلطان سليم الأول، وكانت المعاهدة تضم أكثر من بند منها أن تكون المناطق الكردية مستقلة عن أي حكم، مع الحفاظ على العادات القبلية الوراثية بها، ويساهم الأكراد في الحروب التي تقام في المنطقة، باتحاد كردي عثماني غير مباشر الحكم، احترم الوجود الكردي ولم يتسلط عليه، عن طريق العهود والالتزامات، وحفظ كرامة أهل المنطقة، وحتى لم يحول مذهبه ليستغله فيما بعد، كي يصنع منه مليشيات لتقاتل في سبيل استغلال موارد المنطقة.
انظروا إلى سياسة إيران، إنها تتبع سياسة الصفوية، السياسة التي تستعمل الدين في سبيل الهيمنة، وهو الهدف الأكبر الذي جعل إسماعيل شاه يتشيع، فكانت لوازم هذا الفكر أن تدخل لتغيير عادات الشعوب، وأكره الملايين على حياة ليست لهم، فأودى بحياة نصف الشعب السوري، وجعلهم يقاسون الهجرة والنزوح، والإكراه لكثير منهم أنْ يعيشوا في بقاع لا عادات إسلامية فيها، فإما يهاجرون إلى بلاد لم يعتادوا على الحياة في ظروفها، وإما يلاقون مصيرهم المحتوم ويقتلون، وتقطع قلوبهم، فتغدو بلادهم أرضًا قاحلة، سهلة البيع والشراء للقاسي والداني، ويجعلها مرتعًا سائغًا، تسيل فيه الدماء، وتنهمر الدموع بغير حصر.
إن الوعي الذي يشكل الدولة في التعامل مع غيرها من الدول هو الذي يجب عليها أن تضعه نصب أعينها، وشعارًا على ناصيتها، لا أن تقوم باقتحام الدول بغباء وعنجهية غير مسبوقة، فالسياسة الخارجية لأي دولة إما أن تتسم بالمدنية والحضارة، وإما أن تكون مصدرًا للقلاقل التي يلعنها وينبذها كل عاقل، والدولة التي تبني أساسها في التعامل مع الدول الأخرى على الفساد والفتنة وتقسيم الأمة، وفق أقليات وأكثريات، هي التي – حتمًا – لن تستمر، فهذه الدول الصفوية الموغلة في عمق التاريخ؛ التي سببت الدمار والهلاك للشعوب قد انتهت، ولكن وليدتها ذات الأربعين عامًا، إيران، تسببت بتحقيق أحلام الصفويين وزيادة في السيطرة على هذه الجغرافيا، فإلى متى سنبقى متقطعين ومتشرذمين في مواجهة هذا الإرهاب؟ وإلى متى سنبقى غير مدركين لدورنا المهم في المنطقة؟
المصادر:
١ الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة، نجم الدين الغزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997، 1/210.
٢ زندكاني شاه عباس أول، نصر الله فلسفي، [مرجع فارسي]، تهران، 1391هـ ش، ج1، ص1816.
٣ لب التواريخ، يحيى القزويني، تصحيح مير محدث، بلا دار نشر، تهران، 1384 هـ ش، ص 246.
٤ العثمانيون وتكوين العرب الحديث، سيار الجميل، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1989، ص326.