ترجمة وتحرير نون بوست
في خضم الحرب الجديدة ضد ظاهرة الأخبار الزائفة على شبكة الإنترنت، تبرز مسؤولية شركات الإنترنت الكبرى التي سمحت بانحراف الأمور والابتعاد أكثر فأكثر عن الحقيقة.
فمن خلال تصريحات أبرز المسؤولين السياسيين عن ظاهرة الأخبار الزائفة، أو ما يعبر عنه بالشائعات أو بكل بساطة “الأكاذيب”، يمكن أن نستنتج شيئًا واحدًا وهو أن هذه الظاهرة تؤثر على مجال السياسة بشكل كبير، وبعد أن قضى نحو سنتين في حوارات ونقاشات مع مسؤولي شركة فيسبوك بشأن تأسيس فرق مكلفة بمكافحة الأكاذيب والمغالطات في شبكة الإنترنت، غير وزير العدل الألماني هايكو ماس من أسلوبه، وبدأ يطالب المدعين العامين والقضاة في ألمانيا بأن يكونوا أكثر حزمًا في مواجهة هذه الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أن الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي مارتن شولز، المنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، أكد على أن أوروبا يجب عليها فرض قوانين جديدة، لأن تعبير إدارة فيسبوك عن التزامها بمكافحة هذه الظاهرة ليس كافيًا ولا يمكن للدول أن تسمح بترك الأمر رهينة لمدى صدق نوايا هذه الشركة.
لماذا أطلقت الطبقة السياسية فجأة صيحة فزع بشأن هذه الظاهرة التي تفشت على الانترنت؟
يمكن أن نفسر ذلك بالتأثير الكبير الذي أحدثته الشائعات على مسار الحملة الانتخابية الأمريكية، وهو ما أدى لتحقيق دونالد ترامب لانتصار كبير ومفاجئ، زرع الرعب في قلوب الطبقة السياسية التقليدية، وفي ألمانيا أيضًا بدأ موعد الانتخابات البرلمانية يقترب، وعبر الكثيرون عن خوفهم من انتشار التلاعب السياسي ومغالطة الرأي العام، من أجل خلق زلزال سياسي كالذي حصل في الولايات المتحدة.
عن هذا الأمر يقول كونستانتين فون نوتس من حزب الخضر الألماني: “لا يمكننا السماح بحدوث أمر مماثل في ألمانيا، إن هذه الممارسات تؤدي لتآكل ثقة الناس في الديمقراطية وفي مؤسسات الدولة”.
صمت مواقع التواصل الاجتماعي
في ظل تفاقم هذا المشكل، لا تبدو الشركات المعنية بالأمر بصدد بذل جهد جدي للتصدي للأخبار الزائفة، ومن ينتظر من إدارة فيسبوك مثلاً أن تلتزم بشكل كامل بوقف هذه الظاهرة فهو كمن ينتظر معجزة لن تتحقق، فعمالقة شبكة الإنترنت أظهروا إلى حد الآن قدرًا كبيرًا من انعدام المسؤولية، وعدم الاكتراث للآثار الاجتماعية لشبكات التواصل الاجتماعي، ليس فقط من الناحية الأخلاقية والسياسية، بل حتى من الناحية المادية، حيث إن هذه الشركات تكسب مليارات الدولارات سنويًا، ولكنها تسعى بكل الطرق لدفع أقل قدر ممكن من الضرائب، وهي لا تخجل من الانتقال لبلدان بعيدة حيث الملاذات الضريبية وانعدام سيادة القانون، حتى تتمكن من التهرب من الضرائب وحماية بياناتها وعدم التعرض للمساءلة.
وفي ظل الجدال المتواصل عن صعود ظاهرة التطرف اليميني وخطاب التعصب والكراهية في أوروبا، كان واضحًا أن فيسبوك يتصرف بكل نفاق، حيث إنه رفض في عدة مناسبات إزالة منشورات تحرض على الكراهية، بتعلة أنها لا تتعارض مع ما يسميه “المعايير الاجتماعية”.
ورغم أن فيسبوك نفسه يقول إن هنالك قوانين محددة وأن سياساته تمنع نشر المحتويات الجنسية الفاضحة، وخطابات التحريض على الكراهية والعنف بين مستخدمي فيسبوك، فمن الناحية العملية لا يبدو أنه يطبق هذه القواعد بشكل تام.
الآلة هي التي تقرر
إذا قبلنا بإيكال مهمة التعامل مع الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية الذي تنشره الحركات اليمينية المتطرفة، إلى الشركات الكبرى مثل فيسبوك، فإننا نسمح في هذه الحالة لهذه الشركات بتقدير الأمور بنفسها ووضع المعايير والمبادئ الأخلاقية التي تضبط هذا المجال، بحسب تقديراتها الذاتية لما هو صحيح وما هو خاطئ.
إذا قبلنا بهذا القرار، فإن فيسبوك سوف يعتمد أولاً وأخيرًا على برمجيات حاسوبية معقدة، تمامًا مثل أغلب عمالقة الإنترنت الذين تركوا مهمة إدارة هذه المواقع لبرمجيات معقدة، انطلاقًا من إيمانهم بأن “أكبر المشاكل التي يواجهها الإنسان توجد حلول لها باعتماد التكنولوجيا، وإذا لم تنفع هذه التكنولوجيا فيجب اعتماد المزيد من التكنولوجيا”.
وبالتالي فإن الخوارزميات الذكية والمتطورة هي من ستتولى احتساب فرضيات وإمكانيات أن تكون الرسالة المنشورة على الإنترنت صحيحة أو خاطئة، وتصنيفها إلى مقبولة أو غير مقبولة، وذلك رغم أن مؤسس فيسبوك مارك زوكربرغ بنفسه اعترف مؤخرًا بأن هذه المسائل “معقدة جدًا من الناحية التقنية والفلسفية”، وهو ما يضع علامات استفهام بخصوص ترك هذه المسائل للآلة.
فيسبوك يستفيد من نشر الأخبار الزائفة
ربما يكون مارك زوكربرغ على حق، وربما يكون خياره بعدم التدخل فيما ينشر على فيسبوك خيارًا مدفوعًا بالرغبة في عدم تحمل المسؤولية عما يتم نشره وما يروج في أوساط الرأي العام، فهذا هو الأسلوب الجديد الذي تعتمده الشركات التي تحقق استفادة كبيرة من الإنترنت، حيث إنها تسعى بكل الطرق لضمان تنصلها من المسؤولية عن كل المضاعفات والنتائج الخطيرة التي تسببها هذه الظواهر في شتى المجالات.
فشركة فيسبوك تجني مليارات الدولارات من نشر محتوى لا تنتجه بنفسها، ولا تبذل من أجله أي جهد، ونفس الأمر ينطبق على شركات أخرى ضخمة تحقق عائدات خيالية من العالم الافتراضي، مثل شركة آر بي إن بي المتخصصة في الوساطة لتأجير واستئجار السكن دون أن تكون هي المالكة لهذه العقارات، وشركة أوبر التي اجتاحت قطاع سيارات التاكسي دون أن تمتلك أي سيارة تاكسي، هذا الأسلوب الجديد الذي تعتمده هذه الشركات يجعلها في حل من أي مسؤولية، وبالتالي فهي لا تكترث لظروف عمل الموظفين وكل الجوانب الأخلاقية المحيطة بمجال نشاطها.
ولكن في بعض الحالات تكون الأمور أقل تعقيدًا مما تبدو عليه، حيث يمكن في حال ملاحظة منشورات مثيرة للشك أو تتضمن تحريضًا على العنف على مواقع التواصل الاجتماعي، إبلاغ الشرطة المحلية بهذا الأمر، وهنالك قوانين تعاقب من يقوم بالتعدي على الآخرين بسبب تعبيرهم عن آرائهم، ويمكن أن يتعرض هذا المخالف للملاحقة القضائية والعقوبة إذا ثبت تورطه في هذه التجاوزات.
ما هو صحيح وما هو خطأ؟
يواصل وزير العدل الألماني هايكو ماس دعواته لتغيير القوانين ولإعادة الأمور إلى الطريق الصحيح، حيث يقول: “الافتراء والثلب والإساءة للآخرين هي ممارسات لا تشملها حرية التعبير، ولذلك يجب ملاحقة مرتكبيها في المحاكم، كما حذر الوزير في الأسبوع الماضي من أنه في حالة ثبوت إقدام شخص على ممارسة الثلب والافتراء على شخصية عامة، فإنه سيواجه حكمًا بالسجن يصل إلى خمس سنوات”، ولكن تظل التساؤلات عن مدى تجاوب المدعين العامين والقضاة مع هذه الدعوات التي صدرت من الوزير لمزيد من الحزم في مواجهة هذه الظاهرة.
أما بالنسبة لمستعملي الإنترنت، فإنه بإمكانهم الاعتماد على حدسهم وعلى فهمهم الصحيح للطبيعة البشرية، من أجل تصنيف سيل الأخبار المتدفقة عليهم إلى حقائق وأكاذيب، حتى لو كانت هذه الطبيعة البشرية بصدد الانحراف نحو المزيد من السوء.
المصدر: شتيرن