بعد ثمانية أشهر من المواجهات الضارية التي خاضتها قوات “البنيان المرصوص” المدعومة من حكومة الوفاق الوطني الليبية، ها هي مدينة “سرت” الساحلية تتحرر بشكل كامل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ليسدل الستار على أحد أكبر معاقل التنظيم في ليبيا.
الإعلان الرسمي عن تحرير المدينة الساحلية لا شك أنه يشكل فرحة عارمة لدى جموع الشعب الليبي، خاصة بعد المجازر التي ارتكبها هذا التنظيم ضد المئات من الليبيين والأجانب، إلا أنه في الوقت نفسه يضع العديد من التساؤلات عن مستقبل المدينة بعد تحريرها، وهل يعني هذا التحرير نهاية الوجود الداعشي فوق الأراضي الليبية؟ إضافة إلى ملامح الخارطة السياسية الجديدة لليبيا بعد هذا النجاح الذي حققته جبهة السراج، وانعكاسات ذلك على علاقتها بجبهة حفتر الشرقية.
سرت تتحرر من قبضة داعش
أعلن الجيش الأمريكي رسميًا إنهاء عملياته العسكرية في مدينة سرت، بعد أن تم تحريرها بالكامل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حيث قالت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا والمسماة بـ”أفريكوم”: “بالشراكة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، كللت العملية بالنجاح، وأتاحت دحر وهزيمة هذا الكيان، واستهدفت سفن وطائرات مقاتلة ودون طيار مواقع التنظيم خلالها 495 مرة”.
من جانبه صرح رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، بأن عملية تحرير مدينة سرت قد تمت بنجاح، حيث هنأ في كلمة مسجلة له الشعب الليبي بهذا الانتصار، مشيدًا بتضحيات عناصر “البنيان المرصوص” ضد التنظيم الذي سيطر على مدينة سرت في مطلع 2015 وحولها إلى أهم قاعدة له خارج العراق وسوريا، في ظل ما تمتلكه هذه المدينة من موقع استراتيجي مهم على امتداد الساحل الليبي، وقربها من أكبر حقول ومواني النفط في ليبيا.
رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج
ثمانية أشهر من المواجهات الضارية
منذ سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على مدينة سرت في مايو الماضي، أعلنت حكومة فايز السراج عزمها خوض مواجهات لدحره من المدينة، بمساعدة بعض القوات الدولية في مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا، ورغم عدم تأييد البرلمان الليبي لخطوات السراج فإنه وبدعم خارجي أعلن المضي قدمُا في قراره من خلال الاستعانة بقوات “البنيان المرصوص”.
وانطلقت أولى معارك تحرير سرت في مايو الماضي، وتكللت باستعادة القوات الليبية بوابة أبو قرين غرب المدينة لتخط بيديها أولى انتصاراتها في معركة التحرير، وفي يونيو نجحت القوات في استعادة قاعدة “القرضابية” الجوية جنوب المدينة، كذلك ميناء سرت وجزيرة الزعفران، فضلاً عن طرد التنظيم من منطقة سوارة.
المعركة التي استمرت ثمانية أشهر تقريبًا سقط فيها ما يقرب من 720 شهيدًا، فضلاً عن 3296 جريحًا من صفوف قوات “البنيان المرصوص”، بينما سقط من التنظيم الإرهابي 1200 عنصر
وفي الثالث من أغسطس اشتركت القوات الجوية الأمريكية لأول مرة في المعركة، حيث شنت أولى غاراتها على سبعة مواقع منها مستشفى ابن سينا ومجمع واغادوغو للمؤتمرات وجامعة سرت، ومن ثم تحرير الحي الثالث بالمدينة، بعد مواجهات استمرت لعدة أيام، ليصاب التنظيم بضربة موجعة دفعته إلى الانسحاب نحو الجيزة البحرية، وهو المكان الذي أجبر فيه العائلات والأطفال على ارتداء الأحزمة الناسفة بعد منعهم من الخروج، واستخدامهم كدروع بشرية في مواجهة القوات الليبية.
وفي نهاية سبتمبر بدأ العد التنازلي لإحكام السيطرة على مدينة سرت بالكامل، وذلك بعد دخول منطقة الجيزة البحرية آخر معاقل داعش، حيث حوصر التنظيم في بقعة لا تتجاوز مساحتها ألف متر مربع، ليسدل الستار تمامًا على هذه المعركة في 17من ديسمبر حين تم الإعلان رسميًا على تحرير المدينة من قبضة داعش.
المعركة التي استمرت ثمانية أشهر تقريبًا سقط فيها ما يقرب من 720 شهيدًا، فضلاً عن 3296 جريحًا من صفوف قوات “البنيان المرصوص”، بينما سقط من “داعش” 1200 عنصرًا، حسبما أشار عضو المكتب الإعلامي لغرفة عمليات تحرير سرت أحمد الروياتي، ليبقى السؤال قائمًا: هل تحرير سرت من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تعني نهاية التنظيم ووجوده داخل الأراضي الليبية؟
720 شهيدًا من قوات “البنيان المرصوص” خلال معاركها لتحرير سرت
هل انتهى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”؟
تفاؤل الكثيرين بدحر التنظيم من أحد أكبر معاقله في ليبيا، لا بد أن يشوبه بعض الترقب، فرغم نجاح العملية بصورة كبيرة، فالعقيدة المتطرفة لدى الكيانات الإرهابية تؤهلهم للحفاظ على عدد من الخلايا النائمة في كثير من أنحاء البلاد.
ففي ظل حالة الفوضى وغياب الاستقرار تصبح الأرض خصبة لنمو هذا الفكر مرة أخرى، ومع الاعتراف الكامل بقدرة هذا التنظيم في تجنيد أعضائه وإقناعهم بأفكاره المتطرفة، يصبح الحديث عن الكشف عن وجود أنصار جدد لداعش في مدن ومناطق أخرى من البلاد أمرًا مقبولاً من الناحية الشكلية والموضوعية، وهو ما أشار إليه رئيس حكومة الوفاق الليبي بقوله: “معركة سرت انتهت، ولكن الحرب على الإرهاب في ليبيا لم تنته، لذا علينا توحيد القوى العسكرية في جيش وطني واحد”.
العديد من الخبراء حذروا من ردة الفعل لدى التنظيم عقب خسارته لأكبر معاقله في ليبيا، خاصة وهو يمتلك العديد من الإمكانيات والتكتيكات التي يستطيع من خلالها لملمة أوراقه، وإعادة رسم خارطة انتشاره من جديد
التخوفات من وجود خلايا نائمة لهذا التنظيم في بعض المناطق الليبية الأخرى، ليست وجهة نظر داخلية فحسب، بل هي تخوفات دولية أيضًا، وهو ما كشف عنه وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، الذي قال خلال مشاركته في منتدى عن السلام والأمن في إفريقيا الذي عقد مؤخرًا بالسنغال: “هزيمة داعش في سرت خطوة مهمة جدًا، إلا أنها ليست سوى مرحلة، والأمر لم ينته بعد، لأن هناك مجموعات توزعت على أراض شاسعة، كما أن هناك من ينتمي إلى تنظيم القاعدة”.
العديد من الخبراء حذروا من ردة الفعل لدى اتنظيم الدولة عقب خسارته لأكبر معاقله في ليبيا، خاصة وهو يمتلك العديد من الإمكانيات والتكتيكات التي يستطيع من خلالها لملمة أوراقه، وإعادة رسم خارطة انتشاره من جديد، مستغلاً حالة اللا استقرار التي تحياها معظم المدن الليبية، وهو ما يقودنا إلى مخطط “الفوضى”.
مئات الجرائم ارتكبها تنظيم داعش في ليبيا
الفوضى وإعادة ترتيب الأوراق
لن يجد تنظيم الدولة ما يبكي عليه بعد خسارته أكبر معاقله في ليبيا، سوى أن يعيد النظر في استراتيجياته المتبعة، من أجل خلق جو عام مناسب يستعيد من خلاله بعضًا من قوته المفقودة، لذا كان مخطط “الفوضى” هو الأسلوب المرجح من قبل العديد من الخبراء ممن حذروا من أن خسارة سرت قد تدفع بالتنظيم لتنفيذ المزيد من الهجمات الشرسة في مناطق أخرى متفرقة من ليبيا التي تمثل بعدًا استراتيجيًا مهمًا للتنظيم كونها تقع في منطقة حيوية في شمال قارة إفريقيا.
صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير لها توقعت أن تجتاح الفوضى العارمة مناطق عديدة في ليبيا، في محاولة انتقامية من داعش لاستعادة السيطرة على بعض المكتسبات التي خسرتها في الآونة الأخيرة، مضيفة أن ليبيا تعاني هي الأخرى من شبح الخلايا الإرهابية السرية التي تشن هجمات متفرقة دون معرفة الجهة التي تقف ورائها.
التقرير أشار أيضًا إلى أن نجاح التنظيم في الذوبان السريع بين ثنايا المجتمع الليبي الذي يعاني في كثير من قطاعاته من الجهل والأمية، يدفع إلى القول بأن قدرة “داعش” على ترتيب الأوراق كبيرة، وأن نسبة نجاحها في تحقيق ذلك ليست بالقليلة، وهو ما يجب أن يوضع تحت مجهر العناية والترقب من قبل المهتمين بالشأن الليبي داخليًا وخارجيًا.
صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير لها توقعت أن تجتاح الفوضى العارمة مناطق عديدة في ليبيا، في محاولة انتقامية من “داعش” لاستعادة السيطرة على بعض المكتسبات التي خسرتها في الآونة الأخيرة
طرابلس.. هل تصبح المحطة القادمة؟
تعاني مدينة طرابس العاصمة من فوضى عارمة خلال السنوات الماضية، جرّاء العنف الدائر هناك بين الفصائل المتناحرة، ومن ثم من الممكن أن تصبح الهدف الثاني لمتشددي داعش بعد سرت، وهو ما أشار إليه تقرير الـ”واشنطن بوست“.
الصحيفة رأت أن العنف الدائر في العاصمة من شأنه أن يتسبب في مزيد من تقويض سلطة الحكومة وعدم تشجيع الأجانب على العودة، كما أن التوتر المشتعل بين الميليشيات والقبائل الموجودة هناك، قد يساعد خلايا داعش في الانتشار والذوبان بداخلهم، واستقطاب البعض على حساب الآخر، ومن ثم بناء قاعدة جديدة لها في طرابلس.
واختتمت الصحيفة الأمريكية تقريرها بالقول إنه كلما تفاقمت حالة عدم الاستقرار في ليبيا، زادت احتمالية إعادة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بل وتشكيل جماعات متطرفة أخرى في البلاد.
الأمن المفقود أكثر ما يخيف الليبيين في طرابلس
ماذا عن “البينان المرصوص”؟
بعد النجاح الذي حققته جماعة “البينان المرصوص” في سرت، أثار بعض الخبراء عددًا من التخوفات بشأن الصدام المرتقب بين هذه القوات وحكومة فايز السراج، خاصة أنها – أي القوات – ليس لها تمثيل رسمي في مؤسسات الدولة، مما يعزز من احتمالية أن تتحول إلى “وحش كاسر” يسعى لالتهام كل من أمامه في ظل حالة الضعف التي تعاني منها أجهزة الدولة الرسمية.
الأنباء التي تشير إلى رفض بعض الكتائب داخل هذه القوات لحكومة الوفاق، بسبب ميوعتها في التعاطي مع معركة التحرير الأخيرة في سرت، وما قد يترتب على ذلك من رفضها لأوامر المجلس الرئاسي، وتمردها على قرارات الحكومة الحالية، تدفع إلى ضرورة احتواء هذه القوات بصورة سريعة داخل القوات الحكومية لإضفاء الشرعية عليها من جانب، وضمان ولائها من جانب آخر، وهو ما أفصح عنه رئيس جهاز الحرس الرئاسي نجمي الناكوع، والذي تعهد بفتح الباب أمام الشباب للالتحاق بالحرس الرئاسي، وأن الأولوية ستكون للعناصر التي خاضت الحرب ضد الإرهاب خلال الفترة الماضية.
لا شك أن طمأنة قوات “البنيان المرصوص” بإلحاقهم بقوات الحرس الرئاسي في هذا الظرف الاستثنائي الذي تمر بها ليبيا، يعمل على إحداث حالة توازن عسكري وسط انتشار كتائب كثيرة خارج إطار الشرعية، ومن شأن هذه المنظومة “الحرس الرئاسي”، ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار بعد حالة الفوضى التي شهدتها طرابلس مؤخرًا، إضافة إلى إمكانية بناء جيش ليبي موحد، بعد ضخ دماء ثورية جديدة فيه، وقد يكون هذا الجهاز هو النواة الحقيقية لمؤسسة عسكرية قوية في ليبيا، في ظل غياب كامل لمثل هذه المؤسسة سواء في الغرب أو الشرق.
تتضمن روشتة كوبلر لمستقبل ليبيا، ست نقاط، أولاً: معالجة الوضع السياسي عبر الحوار، ثانيًا: تعديل الإعلان الدستوري، ثالثًا: القضاء على التشكيلات المسلحة المتناحرة في طرابلس، رابعًا: الحفاظ على المكتسبات الأمنية في كل من سرت وبنغازي عبر إنعاش الاقتصاد المحلي، خامسًا: الحفاظ على حقوق الإنسان خلال التعامل مع ملف المهاجرين، سادسًا: ضرورة عودة بعثة الأمم المتحدة إلى طرابلس تدريجيًا وسريعًا من أجل لعب أدوارها بشكل فعال
خطة كوبلر السداسية
بإعلان أمريكا نهاية عملياتها العسكرية في سرت، يصبح الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات بين أطراف الأزمة الليبية نهاية 2015 غير صالح للاستخدام، وهو ما أشار إليه مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر، الذي سعى إلى تقديم خطة سداسية تضمن مستقبلاً ليبيًا مستقرًا وآمنًا.
في تقريره إلى أعضاء مجلس الأمن الدولي عن الوضع في ليبيا، قدم كوبلر ورقة تضمنت مقترحات لحل الأزمة التي وصفها بأنها مستفحلة وتشهد تعقيدات يومية، حيث تكونت من ست نقاط، أولاً: معالجة الوضع السياسي عبر الحوار، ثانيًا: تعديل الإعلان الدستوري، ثالثًا: القضاء على التشكيلات المسلحة المتناحرة في طرابلس، رابعًا: الحفاظ على المكتسبات الأمنية في كل من سرت وبنغازي عبر إنعاش الاقتصاد المحلي، خامسًا: الحفاظ على حقوق الإنسان خلال التعامل مع ملف المهاجرين، سادسًا: ضرورة عودة بعثة الأمم المتحدة إلى طرابلس تدريجيًا وسريعًا من أجل لعب أدوارها بشكل فعال.