لم يدخر المجتمع المقدسي في القرن العشرين، فرصة للتعبير عن حبه لمدينته إلا واستثمرها، ولم يكن ذلك من خلال الخطابات السياسية والدروس الدينية فحسب، بل نجده في الأهازيج الشعبية التي ترافق الأحوال الاجتماعية والدينية، وهذا المقال يلقي نظرة مختصرة على دور الأهازيج الشعبية المقدسية في تعزيز الانتماء للمدينة المقدسة، وبالتالي الدفاع عن عروبة المدينة والتصدي للمشروع الصهيوني.
الزواج
في مناسبات الزواج ظهر حب المسلمين والمسيحيين للقدس من خلال الأهازيج الشعبية، ورغم أنها كانت ذات صبغة اجتماعية في مناسبات الزواج، لكنها كانت تحمل معاني دينية ودلالات سياسية، د. نادية البطمة، تقدم لنا في مقالها “صفحات ثقافية مقدسية مطوية قبل نكبة 1948م”، نموذجًا من هذه الأهازيج، فهذه الأغنية كان يغنيها المسلمون:
قلي وين أزفك يا حلو يا مزيون
عالصخرة الشريفة في فاي الزيتون
قلي وين أزفك يا لمدلل وين
عالصخرة الشريفة وبين الحرمين
قلي وين أزفك يا بو العيون السود
عالصخرة الشريفة والنبي داود
ويغني المسيحيون الأغنية نفسها، ولكن بذكر الأماكن المسيحية المقدسة:
قلي وين أزفك يا حلو يا زين
في الصخرة الشريفة وبين الهيكلين
قلي وين إكليلك يا حلو يا منيح
في الصلاة الشريفة قدام المسيح
ويقول صبحي غوشة في كتابه “الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين”، إن القدس سابقًا كانت صغيرة ومعظم سكانها داخل السور، فكانت الزفة تسير إلى المسجد الأقصى المبارك لأداء صلاة المغرب أو العشاء، ثم تتوجه نحو بيت العريس، ويغني له الشباب:
جينا وجينا وجينا جيبنا العريس وجينا
عريسنا زين الشباب زين الشباب عريسنا
عريسنا يا ابن القدس يابن القدس عريسنا
العلاج في القدس
تقول د. نادية البطمة في مقالها، إن أهل لواء القدس، كانوا يتطلعون للعلاج في المدينة المقدسة، ويعتبرون حتى هذا التاريخ أن العلاج في القدس أفضل من أي مدينة أخرى، ومن أغاني العلاج في القدس:
ركبت في الحنطور قالت يا بيَى رايح القدس أداوي عينيّ
حكيم البقعة مالك عليّا ادعي بالشفا لأم العيونا
ركبت في الحنطور قالت يا خسارا رايح على القدس أداوي الحرارا
حكيم البقعة مالك محتارا يا ادعي بالشفا لأم العيونا
المولد النبوي
يحتفل أهل القدس – كعموم أهل فلسطين – بالمولد النبوي في المساجد والبيوت، وينشدون أناشيد وموشحات دينية، تعبر عن حبهم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، منها ما أورده يسري عرنيطة في كتابه “الفنون الشعبية في فلسطين”:
صلوا يا أهل الفلاح على النبي زين الملاح
من سرى بالليل حقا وأتى قبل الصباح
موسم النبي موسى
بدأ الاحتفال بموسم النبي موسى في عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان الهدف منه في ذلك الوقت حماية المدينة، فقد كانت القدس تستضيف أعدادًا كبيرة من الوافدين الأوروبيين، الذين يحتفلون بعيد الفصح، ولذلك كان على المسلمين تشكيل قوة احتياطية على أهبة الاستعداد، لحين عودة الزوار إلى بلادهم.
وقد تم أول احتفال بهذا الموسم بعد الاحتلال البريطاني في نيسان 1918م، ولكنه اتسم بالطابع الديني والمظهر الرسمي، وفي عام 1920 شهد نقطة تحول وطنية، إذ تحول إلى مواكب وطنية، ومظاهرات شعبية تعلن فيها مطالب البلاد، وبلغ من عمق المظهر الوطني أن المسيحيين شاركوا فيه، وألقى خليل بيدس خطبة حماسية ناشد فيها الشعب ببذل الأرواح والمهج للدفاع عن فلسطين وصيانة عروبتها وتحقيق حريتها واستقلالها، كما ذكر عيسى محسن في كتابه “فلسطين وسماحة المفتي الأكبر الحاج محمد أمين الحسيني”.
وفي هذا اليوم تنشد فرق الكشافة والمواطنين الأناشيد الوطنية والحماسية، وتبدأ من بداية زفة البيارق إلى المسجد الأقصى، ومنها ما جاء في كتاب “الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين”:
يا ليوث الوغى خصمنا قد طغى
فلنمت كلنا في سبيل الوطن
يا بني الشام ومصر وبني العراق
هل نسيتم ذكر عصر طبق الآفاق
وكان من نتيجة تلك الخطابات والأهازيج الشعبية، ثورة شعبية التحمت مع اليهود، وحسب كتاب “تاريخ القدس” للكاتب عارف العارف، فقد كانت نتيجة تلك الاضطرابات مقتل 9 يهود و4 عرب، وجرح 250 يهوديًا و21 عربيًا، فأعلنت على إثره الأحكام العرفية، واعتقلت السلطة عددًا من الزعماء والشبان، فزجتهم في السجون، وتألفت محكمة عسكرية بعدئذ حكمت عليهم بالسجن مددًا تتراوح بين الشهر والخمسة أعوام، وكان نصيب عارف العارف وأمين الحسيني أن حكم عليهما أولاً بالإعدام، ثم خفض الحكم إلى السجن عشر سنين.