قضية الصحراء الغربية تعدّ أحد أطول النزاعات في تاريخ القارة الأفريقية، إذ يمتد عمرها السياسي من عمر الاستعمار الإسباني الذي احتلها لأكثر من 90 عامًا، وهي من أكثر الملفات إثارة للحساسية بين الدول الأفريقية والمغربية على وجه التحديد، فقد استطاعت نسج علاقات دبلوماسية مع البعض، وتمزيقها مع البعض الآخر، لذلك لا يمكن النظر إلى محنتها على أنها قدر داخلي فحسب، فقد أثّرت تطوراتها على سياقات ومسارات سياسية أبعد من موقعها الجغرافي وأزماتها الحدودية.
قبل أن تبدأ النزاعات حول هوية هذه الصحراء التي تقع في شمال إفريقيا، تسابقت أطماع إسبانيا الاستعمارية نحو أراضيها وعندما أجبرت على الخروج منها في عام 1975 زرعت فيها ألغامًا وخلافات تغذيها صراعات الأمس ومصالح اليوم ومطامح المستقبل، فسرعان ما بدأ صراع جديد في المنطقة، تعددت فيه الأطراف وتعقدت فيه الحلول، رغم تدخل الأمم المتحدة ووسطاء دبلوماسيين آخريين.
نتقصى في هذا التقرير حكاية هذا الصراع المحتدم منذ 47 عامًا، ونحاول تتبع دوافع الفاعلين في قضية الصحراء وخلفيات مواقفهم، ومستقبل هذه المسألة التي ترسم سياسات المنطقة وتحدد خريطة صراعاتها وحلفائها.
خريطة الصحراء الغربية
خضعت منطقة الصحراء الغربية للاستعمار الإسباني خلال الفترة بين 1884-1976، وتقع هذه المنطقة شمال غرب القارة الإفريقية، وتبلغ مساحتها نحو 266 ألف كيلومتر مربع، فيما يبلغ عدد سكانها – الذين هم خليط من القبائل العربية والأمازيغية – نحو 400 ألف (حسب إحصاءات سنة 2004)، يتوزعون على مدن الصحراء الغربية الرئيسية.
أول من استوطن تلك المنطقة هم قبائل صنهاجة الأمازيغية في الفترات السابقة على دخول الإسلام المنطقة في النصف الأول من القرن الـ8 الميلادي، وأسست هذه القبائل في منتصف القرن الـ11 الميلادي دولة المرابطين التي بسطت سيطرتها على كل المنطقة وانطلقت منها إلى حكم المغرب والأندلس.
بقيت الصحراء الغربية في أغلب فترات تاريخها خارج السيطرة المركزية لأي دولة رغم الهجرات البشرية المتعاقبة عليها، لكن في بعض الفترات كانت جزءًا من الأراضي التي تحكمها الدولة المركزية التي قامت في المغرب منذ عهد الأدارسة في أواخر القرن الـ8 الميلادي، وبسبب غياب السلطة المركزية الحاكمة، بقيت المنطقة ذات بنية سكانية عشائرية مختلطة بين العرب والأمازيغ، وتعقد هذه القبائل في أغلب الأحيان اتفاقيات تتعدد بتعدد الجهات والزعامات والأطراف دعمًا لهذه السلطة أو مهادنة لتلك في دول الجوار.
تتمتع الصحراء الغربية بثروات طبيعية كثيرة، تشمل الثروة الحيوانية والصيد البحري، إذ يبلغ طول السواحل الصحراوية 600 كيلومتر على المحيط الأطلسي، إضافة إلى المعادن مثل الفوسفات الذي يشكل نحو 28.5% من المخزون العالمي، بالإضافة إلى الحديد والنحاس والمنجنيز والرخام، وغيرها من الثروات الباطنية التي قد تشمل الغاز والنفط.
أتاحت الطبيعة الجغرافية للمنطقة إمكانيات تجارية كبيرة، إذ سيطرت في فترات زمانية مختلفة على تجارة القوافل والتجارة الأطلسية على الشواطئ الصحراوية، ما منح القبائل التي تقطن الصحراء الغربية نفوذًا واسعًا. إلى جانب ذلك، تتمتع الصحراء الغربية بطابع سياحي ملائم لفعاليات المغامرة والاستكشاف، ومن أهم المناطق السياحية المشهورة في المنطقة: واحة لمسيد وبحيرة نايلة وخليج خنيفيس وشلالات أم بدعة ووادي تافودار.
الاحتلال الإسباني الصحراء الغربية
سعى الإسبان إلى السيطرة على هذه المنطقة لاستعادة موقعهم على الشواطئ المقابلة لجزر الكناري على المحيط الأطلسي، وفي مؤتمر برلين (1884-1885) الذي عُقد لتنظيم الاستعمار الأوروبي والتجارة في إفريقيا خلال فترة الإمبريالية الجديدة، أقرت الدول الأوروبية بسيادة إسبانيا على منطقة الصحراء الغربية، رغم وجود معارضة فرنسية.
عقب عدة سنوات، وتحديدًا في سنة 1900 اعترفت فرنسا بسيادة إسبانيا على الصحراء الغربية في مفاوضات التسوية بينهما، وفي سنة 1932 اتفقا على ضم مناطق الساقية الحمراء ووادي الذهب أي “منطقة الصحراء الغربية” إلى التراب الإسباني.
اكتفى الإسبان في البداية بالتحصن داخل مراكز معزولة على شواطئ المحيط الأطلسي، تأسست فيها فيما بعد مجموعة من المدن مثل “العيون” و”الداخلة” و”لكويرة”، تاركين العمق الصحراوي مجالًا لسيادة القبائل الصحراوية كما كان من قبل، لكن القبائل المنتشرة في الصحراء لم ترض بهذا الحال، إذ شكّلت مقاومة مسلحة لطرد الإسبان من المنطقة، ومع ذلك لم تكن ضرباتها قوية إلا ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، تزامنًا مع موجة الاستقلال التي عرفتها دول المنطقة آنذاك.
أصرت إسبانيا في المقابل على مواصلة حكم المنطقة، رافضة التفاوض مع سكان الصحراء الغربية، خاصة أنها فقدت مستعمراتها في العالم الجديد (الأمريكتين)، ونتيجة ذلك شنّت قواتها حربًا شرسة ضد المقاومين الصحراويين، وتمكنت من القضاء على جيش التحرير سنة 1958، فخفتت العمليات العسكرية لفترة محدودة، ما مكن مدريد من نشر سيطرتها الكاملة على المنطقة والتمتع بثرواتها الطبيعية الكثيرة.
في الأثناء، أدرجت الأمم المتحدة سنة 1963 الصحراء الغربية في قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي بموجب الفصل 11 من ميثاق المنظمة الأممية، وهو ما كان دافعًا مهمًا لتجدد مطالب الاستقلال، وكان استقلال دول الجوار عاملًا مهمًا في ذلك أيضًا.
تزامنًا مع تجدد مطالب الاستقلال، عرف المجتمع الصحراوي تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية كثيرة، وتطور الوعي السياسي لدى سكان المنطقة، فبدأ التحرك من داخل المدن الصحراوية لأول مرة، وشهد عام 1970 انتفاضة “الزملة” في مدينة العيون عاصمة الإقليم.
تصدى الإسبان لهذه الانتفاضة – التي رفع المشاركون فيها شعارات تطالب بالاستقلال – بالقوة، وقتلت العديد من الصحراويين، وكان هذا الأمر إيذانًا بتأسيس “الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب” (البوليساريو)، في 10 مايو/أيار 1973 بمبادرة من شباب من أصول صحراوية، كانوا يتابعون دراستهم في جامعة محمد الخامس بعاصمة المغرب الرباط، أبرزهم الولي مصطفى السيد ومحمد عبد العزيز وولد الشيخ بيد الله، ويتبنون الفكر اليساري الاشتراكي.
ما إن تأسست البوليساريو حتى بدأت العمل العسكري ضد الإسبان وأججت مظاهر العداء ضد المحتل، ما أجبر الحكومة الإسبانية على الإعلان في السنة الموالية عن عزمها تنظيم استفتاء لتقرير المصير في الصحراء خلال الأشهر الست الأولى من سنة 1975.
كان ظن البوليساريو أن الإسبان سيتخلون عن المنطقة لفائدتهم، خاصة أن مدريد أجرت معهم لقاءات في سبتمبر/أيلول 1975 كان محورها الاستقلال ومستقبل العلاقات بين الطرفين، لكن الحكومة الإسبانية عقدت في نوفمبر/تشرين الثاني “اتفاقية مدريد” مع المغرب وموريتانيا، تم بموجبها نقل سلطة تسيير الصحراء إلى إدارة مؤقتة مشتركة بين الدول الثلاثة.
جاءت اتفاقية مدريد بعد أيام قليلة من “المسيرة الخضراء”، وهي مسيرة شعبية تمت يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 بدعوة من الملك الحسن الثاني، شارك فيها 350 ألف مغربي واتجهت نحو الصحراء الغربية من أجل الضغط على إسبانيا لمغادرة المنطقة، ورفع المشاركون في المسيرة الأعلام المغربية والقرآن الكريم.
جاء تنظيم المسيرة الخضراء إثر صدور قرار محكمة العدل الدولية في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 1975، الذي يعترف بوجود بيعة قانونية بين سكان الصحراء وملك المغرب قبل استعمار إسبانيا للإقليم وكذلك وجود علاقة مع موريتانيا، ومع ذلك نصَّ القرار أيضًا على أن الصحراء الغربية لم تكن أرضًا خلاء قبل الاحتلال الإسباني، وأن العلاقات القائمة لم ترق يومًا إلى مستوى السيادة ولا يُمكن أن تؤثر على حق سكان الإقليم في تقرير مصيرهم السياسي.
في 26 فبراير/شباط 1976، أبلغت إسبانيا الأمم المتحدة أنها ألغت وجودها العسكري والإداري في المنطقة وتنازلت نهائيًا عن مسؤولياتها فيها، وتركت الحكومة الإسبانية الأراضي الصحراوية تحت إدارة المغرب وموريتانيا، كل منهما في المناطق التي تسيطر عليها: الساقية الحمراء للمغرب ووادي الذهب لموريتانيا، فيما احتفظت مدريد باستغلال الفوسفات من مناجم بوكراع، كما احتفظت بقواعد عسكرية قبالة جزر كناريا.
وكان المغرب لا ينفك يُطالب بالصحراء الغربية بصفتها جزءًا لا يتجزأ من أراضيه التاريخية، واشتد تمسكه بها بعد تخليه عن المطالبة بموريتانيا سنة 1969، فيما تطالب موريتانيا هي الأخرى بالصحراء الغربية منذ 1957، وتعتبر السيادة عليها استكمالًا لوحدتها الترابية ولتوحيد مجموعة البيظانْ التي تشكل من الناحية الديمغرافية أهم مكونات الشعب الموريتاني.
الصراع المسلح
تباينت الآراء بخصوص اتفاقية مدريد، فبينما رحبت موريتانيا والمغرب بالاتفاقية، لضمانها سيادتهما على المنطقة، رفضت جبهة البوليساريو الأمر، ونفس الشيء بالنسبة إلى الجزائر التي كانت حينها أكبر داعم للبوليساريو.
في اليوم التالي للانسحاب الإسباني من المنطقة، أعلنت جبهة البوليساريو قيام ما أسمتها “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” على الجزء الذي تسيطر عليه من الصحراء، معتبرة أن المغرب قوة احتلالية في الصحراء، ودعت إلى إعطاء سكانها “حق تقرير المصير” طبقًا لمبادئ الأمم المتحدة في “تصفية الاستعمار”.
اتخذت البوليساريو من مخيمات تيندوف في جنوب غرب الجزائر مقرًا لها، وشكّلت أول حكومة صحراوية برئاسة محمد الأمين أحمد في 6 مارس/آذار 1976 وضمت عددًا من الوزارات الميدانية التي سارعت إلى تنظيم واستكمال الهياكل التنظيمية والإدارية.
أطلقت الحكومة الصحراوية على المناطق التي تسيطر عليها وهي 20% من مساحة الصحراء اسم “المناطق المحررة” أو “المنطقة الحرة”، أما المنطقة المتبقية والخاضعة للحكم المغربي فتعتبرها البوليساريو منطقة محتلة، وبالمقابل فإن الحكومة المغربية تعتبر المناطق الواقعة تحت سيطرة البوليساريو منطقة عازلة.
تقيم البوليساريو حاليًّا، علاقات دبلوماسية مع 38 بلدًا تعترف بها كجمهورية ذات سيادة، معظمها دول إفريقية والبقية دول ذات توجه اشتراكي، وتتمتع بعضوية كاملة في الاتحاد الإفريقي، إلا أنها ليست عضوًا في الأمم المتحدة ولا جامعة الدول العربية، إذ لا يعترفان بها كدولة.
سرعان ما تطور الأمر إلى مواجهات عسكرية مباشرة في الصحراء بين الأطراف المتصارعة، دار أغلبها في الجزء الموريتاني من الصحراء متجاوزًا نطاق الأراضي الصحراوية أحيانًا، كما تعرضت موريتانيا سنة 1977 لهجوم من قوات جبهة البوليساريو وهي حديثة العهد بالاستقلال، أدّت في النهاية إلى استنزاف الدولة الهشة، ما أدى إلى تذمر قادة الجيش من الصراع المرهق، فقرروا الإطاحة بحكومة أول رؤساء البلاد المختار ولد داداه، في يوليو/تموز 1978.
فرضت هذه التحولات على الطرف الموريتاني الانسحاب من صراع الصحراء الغربية، فوقعت مع جبهة البوليساريو اتفاق سلام بالجزائر يوم 5 أغسطس/آب 1979 بعد مفاوضاتٍ مكثفة استضافتها فريتاون، لكن القوات المغربية سبقت مسلحي البوليساريو ودخلت وادي الذهب وفرضت سيطرتها عليه، في 14 من نفس الشهر.
بداية المفاوضات
انحسر الصراع بعد ذلك بين البوليساريو بدعم من الجزائر والمغرب، لكن استنزاف قوة الجيشين المغربي والصحراوي، فرض على طرفي النزاع الدخول في مرحلة دبلوماسية بدأت منذ لحظة توقيعهما في 6 مايو/أيار 1988 خطة سلام مقترحة من طرف الأمين العام للأمم المتحدة، فقد أنشأت الأمم المنظمة الأممية الدولية بعثة في 30 أغسطس/آب 1988 مكلفة بالاستفتاء في الصحراء الغربية المعروفة اختصارًا بـ”بعثة المينورسو” بقرار من مجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 690/1991، وطبقًا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة رقم (S/22464).
بموجبها، اتفق الطرفان سنة 1991 على وقف إطلاق النار، وبدأت جولات من المحادثات برعاية أممية وإقليمية للتوصل إلى تسوية دائمة للصراع الطويل، لكن كل هذه الجهود فشلت بدءًا بمخطط التسوية الذي اقترحه الأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكويلار مرورًا بجيمس بيكر وفان والسوم، وانتهاءً بكريستوفر روس.
جدير بالذكر، أن الأمم المتحدة لم تشرع في البحث عن حل لأزمة الصحراء الغربية إلا بعد عقد من اندلاع الحرب في المنطقة، إذ كانت منظمة الوحدة الإفريقية هي الهيئة التي بادرت إلى إيجاد حل تصالحي في الصحراء منذ اشتعال الحرب، لكن انسحاب المغرب من المنظمة الإفريقية سنة 1984 (نتيجة اعتراف المنظمة بـ”الجمهورية العربية الصحراوية” كعضو فيها) حال دون وصول مساعي الأفارقة إلى أي حل، وهو ما دفع منظمة الأمم المتحدة لتسلم مهمة الإشراف على الملف سنة 1988.
حاليًّا، يقترح المغرب منح المنطقة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، وهو ما رفضته البوليساريو التي تصر على إقامة استفتاء لتقرير المصير يشارك فيه الشعب الصحراوي، ونتيجة لهذا الاختلاف تعرف المنطقة بين الحين والآخر تجدد الاشتباكات بين الطرفين، ما دفع المغرب إلى تدشين جدار رملي حول مدن السمارة والعيون وبوجدور لعزل المناطق الصحراوية الغنية بالفوسفات والمدن الصحراوية الأساسية، وجعل هذا الجدار أهم الأراضي الصحراوية في مأمن من هجمات مسلحي البوليساريو.
دعم عربي للبوليساريو
ليبيا أولًا
دعم الرئيس الليبي المخلوع معمر القذافي البوليساريو منذ بدايات التأسيس، بهدف مقاومة الاستعمار الإسباني، أي أن دعمه لم يكن قائمًا على أساس دعم الجبهة كحركة انفصالية تهدف إلى الاستقلال عن المملكة المغربية، إذ قال القذافي في هذا الشأن سنة 1987:
“أستطيع أن أتكلم عن قضية الصحراء أكثر من أي طرف آخر لأن البوليساريو، نحن الذين أسسناها عام 1972، ونحن الذين دربناها وسلَّحناها لتطرد الاستعمار الإسباني من الساقية الحمراء ووادي الذهب، ولم نسلحها لإقامة دولة، ولم نقل لهم: انضموا إلى موريتانيا أو الجزائر أو المغرب أو لا تنضموا، دربناها وسلحناها لتحرير الأراضي العربية من الاستعمار الإسباني”.
دعم القذافي جبهة البوليساريو ماليًّا وعسكريًّا، كما وفر التعليم لأطفال الصحراء، ومع ذلك عارض نظام القذافي في البداية خلق دولة صحراوية في المنطقة، باعتبار عدم وجود أي فائدة منها وأنها لن تساهم في توحيد المنطقة، فضلًا عن وجود علاقات قوية بين القذافي والنظام الموريتاني.
لكن خروج موريتانيا من الصراع سنة 1979، غيّر الموقف الليبي، إذ تنامى دعم البوليساريو وهذه المرة لأجل تأسيس دولة مستقلة، وفي 15 أبريل/نيسان 1980، اعترفت ليبيا بما يسمى الجمهورية الصحراوية، ونتيجة ذلك أعلن المغرب قطع علاقاته الدبلوماسية مع الدولة الليبية.
لم يدعم نظام القذافي جبهة البوليساريو بالمال والسلاح فقط، إنما دعمها دبلوماسيًا أيضًا، إذ قدّم الدعم المالي لعدد من الدول الإفريقية من أجل كسب مساندتها لـ”الجمهورية الصحراوية” من جهة، وعزل المغرب الذي يعادي القذافي ملكه الحسن الثاني من جهة أخرى،إضافة إلى توحيد جميع القبائل الصحراوية من تشاد إلى موريتانيا تحت إمرته.
قصف الكيان الإسرائيلي للمنشآت النووية العراقية، والخشية من دعم مغربي لتشاد في حربها ضد ليبيا، والرغبة في التخفيف من العزلة المفروضة على البلاد، كل هذه الأسباب دفعت نظام القذافي إلى الحد من المساعدات المقدمة للبوليساريو والدخول في مفاوضات مع الرباط لتعزيز العلاقات مع المغرب.
وفي 13 أغسطس/آب 1984، تم توقيع اتفاقية وجدة بين المغرب وليبيا، بعد مفاوضات سرية بين الطرفين، والإطار الذي تم الاتفاق عليه بين المغرب وليبيا سمي “الاتحاد الإفريقي العربي”، من أجل ترك الباب مفتوحًا لانضمام دول أخرى.
لم يدم التحالف المغربي الليبي طويلًا، إذ توترت العلاقات المغربية الليبية من جديد في يونيو/حزيران 1986، وأُلغيت الاتفاقية تبعًا لذلك، ومع ذلك ظلت المساعدات الليبية للبوليساريو قليلة وضئيلة، ما أضعف الجبهة ودفعها للتفاوض مع الرباط.
الجزائر ثانيًا
تلقت جبهة البوليساريو في بداية تأسيسها دعمًا غير محدود من الجزائر، إذ انتشرت معسكرات تدريب الصحراويين في البلاد إبان السبعينيات، وتم مدّ الجبهة بالسلاح لمحاربة المستعمر الإسباني ومن ثم محاربة المغرب وموريتانيا وإقامة “دولتهم”، وتتبنى الجزائر أطروحة تقرير المصير للشعب الصحراوي والتشبث بمبدأ “استقلال” الصحراء الغربية.
فضلًا عن الدعم المالي والعسكري، لقيت الجبهة دعمًا دبلوماسيًا كبيرًا من الحكومة الجزائرية، إذ سعت الجزائر لإقناع عدد من دول العالم للاعتراف بما يسمى “الجمهورية الصحراوية” بشكل جعل منظمة الوحدة الإفريقية تعترف رسميًا بالحكومة الصحراوية كعضو فيها عام 1984، ورد المغرب على ذلك بالانسحاب من المنظمة في العام نفسه.
مع نهاية التسعينيات، بدأ معدل الاعتراف بالبوليساريو يتراجع، حيث سحبت العديد من الدول اعترافها، لكن بقيت الجزائر وفية لها، تستقبل قيادة الجبهة ولاجئيها وتقدم لهم الدعم الكامل في سبيل تحقيق أهدافهم وإقامة “دولتهم” في الصحراء الغربية، مبررة موقفها برفض كل أشكال الاستعمار من أي جهة كانت، فقد دعمت الجزائر سابقًا العديد من الحركات التحررية في إفريقيا وغيرها من بقاع العالم، وترى في الصحراء منطقة محتلة والبوليساريو جيش تحرير.
تستند الجزائر في موقفها أيضًا إلى القانون الدولي، فالأمم المتحدة منذ 1923 تقول إن الصحراء الغربية إقليم غير محكوم ذاتيًا، والأقاليم غير المحكومة ذاتيًا تستحق حسب ميثاقها الاستفادة من تنظيم استفتاء تقرير المصير، وهو ما تطلبه الجزائر.
أما المغاربة فيرون أن السبب الوحيد خلف دعم جارتهم الشرقية للبوليساريو هو “عداء الجزائر لبلادهم” و”استغلالها أزمة الصحراء الغربية لإضعاف الرباط محليًا وخارجيًا خاصة في إفريقيا”، وقد تكون العلاقات الثنائية المتدهورة بين البلدين منذ استقلالهما، التي وصلت إلى حد نشوب حرب الرمال بينهما سنة 1963، سببًا وجيهًا لفهم حالة التصادم المستمرة بينهما.
ورغم دعم الجزائر لجبهة البوليساريو، فإنها ترفض أن تكون طرفًا في الصراع الدائر في الصحراء، فيما يصر المغرب على اعتبارها طرفًا مباشرًا في هذا النزاع وينادي بضمها للمفاوضات التي تجري بخصوص هذا الملف، لكن الجزائر ترفض ذلك.
تأثير الملف على العلاقات المغاربية
بين الجزائر والمغرب
تطالب الجزائر بمنح الشعب الصحراوي “حق تقرير مصيره”، منددةً بما تصفه بـ”تعنّت” المغرب في تسوية النزاع في الصحراء الغربية، لكن المغرب يرفض هذه المطالب ويرى في ذلك تدخلًا جزائريًا في الشؤون الداخلية للمغرب.
في مقابل ذلك، دائمًا ما تتهم المملكة المغربية الجارة الشرقية بدعم جبهة البوليساريو وباستضافة قادتها على أراضيها، وهو ما يعقد الوصول إلى حل لمشكلة الصحراء الغربية المتواصلة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
في ظل هذا التوتر المتواصل، ارتفع إنفاق البلدين على الأسلحة، إذ يحاول كل من المغرب والجزائر تكثيف صفقاتهما العسكرية وتنويع تحالفاتهما في المنطقة، فضلًا عن الحصول على التقنيات المتطورة والبحث عن منافذ استخباراتية جديدة، لا سيما أن الجزائر تتهم الرباط أيضًا بدعم “حركة تقرير مصير منطقة القبائل” التي يُطلق عليها “الماك”، وهي جماعة انفصالية مقرها باريس وتصنفها الحكومة الجزائرية منظمة إرهابية تسعى إلى زرع الكيان الصهيوني على حدودها الغربية.
بين المغرب وتونس
تشهد العلاقات التونسية المغربية توترًا غير مسبوق إثر استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، خلال القمة اليابانية الإفريقية التي عقدت بتونس في أغسطس/آب 2022.
عقب استقبال سعيد لغالي بوصفه رئيس “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” المعلنة من جانب واحد، سارع المغرب باستدعاء سفيره في تونس حسن طارق للتشاور، ووصفت الخارجية المغربية الاستقبال الذي خصه سعيد لغالي بـ”العمل الخطير وغير المسبوق”، وأكدت أن هذا العمل “يسيئ بشكل عميق إلى مشاعر الشعب المغربي، وقواه الحية”.
قررت تونس الرد بالمثل، واستدعت سفيرها لدى الرباط محمد بن عياد، وإلى الآن سفارتا البلدين دون سفراء، ويعد إقدام الرئيس قيس سعيد على استقبال إبراهيم غالي تحولًا كبيرًا في الدبلوماسية التونسية، إذ لم يسبق أن استقبلت تونس أي مسؤول ضمن جبهة البوليساريو.
كانت تونس تعتمد “الحياد” فيما يخص قضية الصحراء الغربية، فقد حرصت السلطات على عدم الانزلاق وتبني أي موقف من القضية يمكن أن يسبب لها مشاكل سواء مع الجزائر أم المغرب، لكن مع قيس سعيد بدأت المواقف تتبدل وظهر ذلك في امتناع تونس في أكتوبر/تشرين الأول 2021 عن التصويت لمصلحة قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بتمديد عمل بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية “مينورسو” لمدة سنة إضافية، وهو ما أثار حفيظة المغرب.
بين الجزائر وموريتانيا
صحيح أن موريتانيا فضلت الانسحاب من الصحراء سنة 1979، إلا أنها بقيت طرفًا مهمًا في هذا النزاع، بسبب مساعي كل من المغرب والجزائر الحثيثة إلى اجترارها لحلفها، وفي كل مرة ينجح أحد الطرفين في كسب تأييدها، لكن ذلك لا يدوم طويلًا.
حاولت نواكشوط دائمًا النأي بنفسها بعيدًا عن الصراع المستمر بين المغرب والجزائر، وأن تتبنى سياسة مستقلة عن هاتين الدولتين والموازنة بينهما قدر الإمكان، إلا أنها بقيت الحلقة الأضعف في المعادلة الإقليمية، حتى أصبح من المألوف أن تبقى علاقاتها جيدة مع المغرب إذا كانت سيئة مع الجزائر والعكس صحيح.
مع ذلك، اتبعت موريتانيا في بداية حكم الرئيس محمد ولد الغزواني نهجًا مختلفًا، فقد حاولت استغلال الصراع بين المغرب والجزائر لصالحها، ولعب أدوارًا متقدمة على المستوى الدبلوماسي في المنطقة، بهدف تعزيز حضورها على مستوى المغرب العربي، بعد سنوات من الغياب على المستوى الإقليمي والانكفاء على المسائل الداخلية، فضلًا عن الحصول على امتيازات اقتصادية.
تحقيق تلك الطموحات كان يتطلب من موريتانيا قيادة جهود مصالحة بين البلدين، عبر استغلال الإمكانات التي لديها، إذ تعد موريتانيا البلد الوحيد الذي يملك حدودًا مشتركة مع كل من المغرب والجزائر، فضلًا عن كونها بوابة لهذين البلدين إلى السوق الغرب إفريقية، إلى جانب الاستثمار في حياد موقفها تجاه النزاع في الصحراء، لكن محاولاتها باءت بالفشل.
بعد تلك المحاولات رجعت موريتانيا إلى سابق عهدها، دولة تابعة، في كل مرة تنحاز إلى صف دون إرادتها في أغلب الأحيان، رغم محاولاتها المتكررة تبني خيار الحياد والإبقاء على علاقتها مع الجزائر والمغرب بالدرجة نفسها حتى لا تخسر الطرفين.
بين ليبيا والمغرب
تعد ليبيا أول دولة احتضنت البوليساريو وهو ما أثر على العلاقات الليبية المغربية في عهد معمر القذافي، كما ظلت العلاقات بين البلدين متوترة، رغم سقوط القذافي وتراجع ليبيا عن دعمها الكبير للجبهة، إذ دعم حكام البلاد الجدد الطرح المغربي للملف، فقد قال أبو القاسم علي مبعوث المجلس الوطني الانتقالي الليبي: “لن تبقى ليبيا طرفًا داعمًا لجبهة البوليساريو ما بعد نظام العقيد معمر القذافي، بل ستدعم الوحدة الترابية للمملكة”.
توجهات السلطة الجديدة، جعلت العلاقات المغربية الليبية تتحسن شيئًا فشيئًا، حيث احتضن المغرب في أكثر من مرة مفاوضات سلام بين مختلف الأطراف الليبية لحل الأزمة في البلاد، حتى إنه احتضن المفاوضات الأبرز التي عرفت باجتماعات الصخيرات في نهاية سنة 2015، بين مختلف الأطراف الفاعلة في ليبيا على طاولة واحدة، لبحث حل لأزمة بلدهم المنكوب، فكان أن توصلوا إلى اتفاق سياسي لتسوية الأزمة الليبية، اتفاق أفرز حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج.
التغير المفاجئ في الموقف الإسباني من ملف الصحراء، حسّن علاقات مدريد مع المغرب وأنهى خلافًا دبلوماسيًا كبيرًا بين البلدين
في الأثناء توترت العلاقات بين الجزائر وحكام ليبيا الجدد، خاصة أن الجزائر لم تدعم ثورة فبراير/شباط 2011 لما كان يربطها من علاقات قوية بنظام معمر القذافي ورغبتها في وضع حد للثورات العربية حتى لا تصل نسماتها إليها.
لكن مع انتخاب عبد المجيد تبون على رأس الحكم في الجزائر، تغير الوضع قليلًا، إذ عادت الجزائر إلى ليبيا سعيًا منها لإعادة حليفها القديم إليها وقطع الطريق على المغرب، فكان أن غابت الرباط مرة أخرى عن الملف الليبي، وأصبحت ليبيا أقرب إلى الجزائر منها إلى المغرب.
المحتل القديم
لطالما حاول نظاما المغرب والجزائر ضم مدريد إلى صفهما، لكن دائمًا ما عبر الإسبان عن دعمهم لجبهة البوليساريو بطرق ملتوية يسودها الغموض، ما جعلهم أكثر قربًا إلى الجزائر، فمثلًا استضافت مدريد إبراهيم غالي زعيم جبهة البوليساريو، أواخر أبريل/نيسان 2021، بـ”هوية مزيفة” للعلاج إثر تدهور وضعه الصحي جراء إصابته بفيروس كورونا، ما ساهم في توتير العلاقات بين مدريد والرباط.
كما رفضت مدريد الإعلان الرئاسي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي اعترفت واشنطن بمقتضاه بسيادة المغرب على الصحراء، وأظهرت حينها انحيازها للبوليساريو، واعتبرت على لسان وزارة خارجيتها أن القرار الأمريكي لا يخدم نزاع الصحراء، بل يزيده تعقيدًا، لأنه يقوم على ما وصفته “القطبية الأحادية”.
لكن السنة الماضية حملت معها تغيرات جديدة، إذ أقر رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في مارس/آذار 2022 أن مبادرة “الحكم الذاتي” المغربية المتعلقة بالصحراء الغربية المتنازع عليه “بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”.
هذا التغير المفاجئ في الموقف الإسباني من ملف الصحراء، حسّن علاقات مدريد مع المغرب وأنهى خلافًا دبلوماسيًا كبيرًا بين البلدين، لكنه كان سببًا في توتر العلاقات بين إسبانيا والجزائر واستدعت هذه الأخيرة سفيرها من مدريد وهددت بمعاقبة هذا البلد الأوروبي.
الموقف الأمريكي من الصحراء الغربية
منتصف ديسمبر/كانون الأول 2020، حدث تحول فارق في ملف الصحراء، إذ اعترف الرئيس الأمريكي حينها دونالد ترامب بسيادة المملكة المغربية على الصحراء الغربية ودعم حل الحكم الذاتي في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة.
بعد هذا الاعتراف بدا المغرب في موقف مريح بعض الشيء، إذ نظم مناورات عسكرية “الأسد الإفريقي” لأول مرة في منطقة المحبس الصحراوية غير البعيدة عن مخيمات تندوف، وأعطى هذا الاعتراف زخمًا كبيرًا للطرح المغربي.
تمكن المغرب من استغلال القرار الأمريكي لدعم دبلوماسية القنصليات التي اعتمدها في السنوات الأخيرة، إذ ارتفع عدد القنصليات الأجنبية بالمنطقة إلى 29 قنصلية، منها 17 في الداخلة و12 بمدينة العيون (كبرى حواضر الصحراء)، وتستعد دول أخرى لفتح قنصلياتها في المنطقة.
ومؤخرًا اعترفت “إسرائيل” بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المتنازع عليها، ويدرس الكيان الإسرائيلي فتح قنصلية له بمدينة الداخلة، الأمر الذي اعتبره المغرب اختراقًا كبيرًا لصالحها في ملف الصحراء الغربية، إذ يعمل الإعلام المغربي المحسوب على السلطة للترويج داخليًا وخارجيًا أن المملكة حققت إنجازًا تاريخيًا ستخلده الأجيال، إلا أن هذه القضية لم تراوح مكانها منذ عقود، وما زالت معيارًا أساسيًا في تحديد الأعداء والحلفاء.