قلت في كلمة منذ أسابيع، إن هذا الدستور مكانه تحت أحذية الجيل الجديد، ولكني لم أكن أتوقع أن يحدث ذلك بتلك السرعة، فقد تواترت الأخبار أن الشيوخ والعجائز كانوا غالبية المصوتين على هذا الدستور المتخلف، الذي يحول مصر لتكية يملكها الأغنياء وكل أصحاب النفوذ والعسكريون، أمام غالبية من الفقراء والمحتاجين والمدنيين.
إحجام الشباب عن التصويت رسالة واضحة، قلتها في كلمتي (عيشوا في أوهامكم أيها العجائز)، (الصحيح لغويا أن يقال “الشيوخ”، ولكني لو نطقت بهذا اللفظ في هذا الموضع لفهمت بشكل آخر تماما، فليعذرني السادة اللغويون!).
السيد الفنان خالد يوسف (عضو لجنة الخمسين) هو أول من تحدث عن إحجام الشباب عن التصويت، لقد شهد شاهد من أهلها، وحتى إذا لم يشهد، فقد شهد ملايين الناس على ذلك، الفيديوهات تشهد، والشعر الأبيض كان سمة غالبة على الطوابير المحدودة، ورقص المصوتين والمصوتات أمام اللجان كان يزداد سخافة بسبب شيبة الراقصين، إنه دستور (شايب وعايب!).
كنت أتمنى أن يشهد الأستاذ خالد بالتزوير، فطبقا لما قاله في مناظرة تشرفت بأن أكون طرفا فيها معه، قال بالحرف “إذا غابت الرقابة الدولية فمعنى ذلك أن الاستفتاء مزور”، ولكن يبدو أن أخي خالد يوسف قد اعتبر الرقابة الشكلية الموجودة كافية، وهذا رأيه، وهو حر فيه، وله كل الاحترام، ولكني أرى أن ذلك لا يكفي بالمرة، وأن الاستفتاء قد تم تزويره بالفعل، وكان استفتاء بلا رقابة محلية أو دولية، لقد كان استفتاء خاليا من الضمانات، إنه الاستفتاء الذي حبس فيه من دعا للتصويت بلا، ورغم ذلك يتجرأون على الظهور في الشاشات ليحدثونا عن النزاهة واختيار الشعب!
أ
كتب هذه المقالة يوم الجمعة، وجيمع المؤشرات على الأرض تقول إن عدد المصوتين لا يتجاوز ثمانية ملايين غالبيتهم من العجزة والمسنين ومن حذا حذوهم في طول وعرض المحروسة، ولكن جميع المؤشرات تقول إن رقما ضخما سوف يعلن، وسيكون رقما مزورا قولا واحدا.
لجنة الانتخابات ترفع شعار “كايدة العذال انا من يومي”، كنا نتمنى أن ترفع شعارات النزاهة والشفافية، ولكن ماذا نفعل، مصر كلها اليوم تحترق “كيدا في العواذل”!
دستور الماضي لن يمنع المستقبل، بل سيكون دفعة للأمام، فقد تعلمنا خلال السنوات الثلاث الماضية كيف نكتب دساتير فاشلة، وبإمكان ملايين المواطنين المصريين اليوم أن يؤلفوا كتبا عن الفشل الذي يؤدي إلى انسداد سياسي، ويؤدي إلى دماء في الشوارع.
تحالف الثورة والثورة المضادة يتفسخ، بل إن تحالف الثورة المضادة نفسه قد بدأ بالانهيار، لأن هناك ثمنا باهظا للدم الذي سال، ولا بد أن يدفع هذا الثمن بعض أهل الحكم، كل من في السلطة الآن يسأل نفسه في سره (هل سيضحون بي؟ هل أكون كبش الفداء؟)، من أكبر رأس إلى أصغر ذنب، كلهم يحاول أن يتغدى بالآخرين قبل أن يتعشوا به.
كل واحد من أهل الحكم اليوم يعيش مشاعر متناقضة، فهو مفتَرِسٌ وفريسة، مطارِدٌ وطريدة…!
أزمة أهل الحكم كبيرة، فقد انكشف كل شيء، وشعار “يسقط حكم العسكر” يزلزل نقابة الصحفيين في تأبين الشاعر العظيم أحمد فؤاد نجم، لا تقل لي إن عم نجم رحمه الله كان مؤيدا لحكم العسكر، أنا لا أصدقك، بل أصدق عم نجم نفسه حين قال :
“الحمدلله خَبَّطْنا تحت باططنا
يا ما احلا رجعة ظباطنا
من خط النارْ …!”
لا تقل لي إن عم نجم رحمه الله قد أيَّدَ في آخر أيامه ترشيح الفريق السيسي، لأنني أصدق عم نجم أكثر حين قال :
“الحمدلله واهي ظاطتْ
والبيه حاططْ
في كل حته
مدير ظابطْ
وطبيعي حمار…!”
لا تقل لي إن عم نجم قد تراجع عن تاريخه ضد الحكم العسكري، فأنا أصدق عم نجم الشاعر الذي لم يتراجع عن كلمة كتبها، وقد كتب قائلا :
“الحمد الله ولا حولا
مصر الدولهْ
غرقانة فى الكدب علاوله
والشعب احتار”
إياك أن تقول لي إن عم نجم قد أعلن انحيازاته قبل رحيله، فأنا شاعر، وأعرف جيدا كيف أفتش عن انحيازات الشعراء الحقيقية، وها هو انحياز عم نجم رحمه الله :
“وكفايه اسيادنا البعدا
عايشين سعدا
بفضل ناس تملا المعده
وتقول اشعارْ
اشعار تمجد وتماينْ
حتى الخاينْ
وان شا الله يخربها مداينْ
عبد الجبارْ”
خلاصة القول يا من تريدون أن تفهموا ما يحدث، لقد كتبتم صفحة من صفحات الماضي، وآن لكم أن تختفوا معه، لأن قطار المستقبل قادم، وسيدوس أي مخبول يقف في وجهه.
يا شباب مصر الذين قاطعتم هذا الاستفتاء، خيرا فعلتم … هيا … قودوا السفينة …!
لا تنتظروا العجزة والمسنين، لا تعبأوا بالجيل الشايب العايب، لا تنتظروا جيل الكهول ممن هم في مثل سني، لأننا لا نفهم ما ينبغي أن تكون عليه مصر، ومن يفهمكم من الكهول أو الشيوخ سيكون مصيره السجن قريبا، وسيكون في انتظار أن تتحركوا.
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
اللهم إنك قد وهبتني لسانا وقلما فما وضعتهما إلا من أجل نصرة الحق، ولم أنصر بهما ظالما، ولم أسخرهما إلا في سبيل المظلومين، وضد الظالمين، اللهم فكما وهبتني هذه النعمة فأنعم عليّ بأن تقبض روحي قبل أن أهادن قاتلا أو خائنا.
اللهم إنني قد رضيت بما قسمت لي من هذه الدنيا طمعا فيما عندك في الآخرة، فأدخلني ووالديَّ وذريتي في حماك يا أرحم الراحمين.
اللهم إني لم أقايض أي طاغية بما آمنت به، ولم أقبل منصبا يكون به هلاكي، ولم أغمض عيني عن الظلم، فاغفر لي ما قصرت في حقك.
اللهم إنني قد قلت كلمة الحق أمام الظالمين، وجهرت بها حتى على نفسي والأقربين، فارحمني برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إن كان لي من دعوة مستجابة فإني أدخرها لمصر وأهلها، اللهم اكشف هذه الغمة، اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم نصرك الذي وعدت.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …
نُشر المقال في موقع عربي 21