قد يستغرب البعض من التغطية الإعلامية الكبيرة لإعلان السعودية، أمس، عن موازنتها الجديدة لعام 2017، وللعلم وبعيدا عن أهمية الاقتصاد السعودي سواء على المستوى العالمي أو المنطقة العربية بشكل خاص، فإن موازنة 2017 مختلفة لأنها الموازنة الأولى منذ كشف المملكة عن روية 2030، وهي الخطة التي تواجه تحديات ضخمة، لذلك كانت الأنظار تتجه إلى إعلان الرياض أمس، على أمل سماع ما يشير إلى تحسن جديد في أوضاع اقتصاد المملكة التي تعاني سنوات عجاف بسبب هبوط النفط.
الجميع كان ينتظر نتائج 2016 الذي كان يعد عاما صعبا على المملكة، وكذلك الأرقام المتوقعة للموازنة الجديدة، فعلى مستوى نتائج العام الحالي جاءت الأرقام إيجابية جدا، فقد انخفض العجز إلى 297 مليار ريال (79 مليار دولار)، ليفقد نحو 70 مليار ريال عن مستواه القياسي الذي سجله في 2015 بنحو 367 مليار ريال والذي بلغ نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن العجز انخفض عن تقديرات الحكومة في خطة الميزانية الأصلية 2016 والتي بلغت 326 مليار ريال.
حملت الحكومة السعودية المواطنين والعمالة الوافدة ضريبة عجزها عن تدبير إيرادات بديلة عن الإيرادات النفطية
الأرقام صارخة في الواقع لدرجة أن بعض المحللين قالوا إن “المالية العامة للسعودية لم تشهد مثل هذا التحسن منذ مطلع التسعينات عقب انتهاء حرب الخليج”، كان هذا رأي جيسون توفي الخبير الاقتصادي المعني بمنطقة الشرق الأوسط لدى مؤسسة كابيتال ايكونوميكس ومقرها لندن، وذلك حسبما نقلت عنه “رويترز”، فيما رفض البعض الأخر مثل هذه النظرة مؤكدين أن الغموض ما زال يكتنف آفاق الاقتصاد السعودي.
عموما تخطط الرياض لزيادة إنفاقها العالم القادم إلى 890 مليار ريال مقارنة بـ 840 مليارا في التقديرات الأولية لعام 2016، كما سترفع الإنفاق على البنية التحتية بنسبة 69%، بعد أن شهد هبوطا حادا خلال 2016، في الوقت ذاته تتوقع حكومة المملكة أن يساعدها ارتفاع أسعار النفط والإيرادات غير النفطية على مواصلة خفض العجز في العام المقبل ليصل إلى 198 مليار ريال أو ما يعادل 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ليكون العجز الرابع على التوالي الذي تحققه البلاد.
النظرة بالرغم من أنها إيجابية ولكن هناك بعض الملاحظات بين سطور الموازنة التي كشفت عنها السعودية وأهمها:
آمال انتعاش أسعار النفط
تعتمد السعودية على صعود النفط بشكل أساسي في هذه الموازنة، وهو رهان غير مضمون، فالمملكة تتوقع ارتفاع الإيرادات النفطية بنسبة 46% إلى 480 مليار ريال العام القادم، وذلك في الوقت التي تعهدت فيه السعودية بخفض إنتاجها في إطار اتفاق أوبك، كما أن سعر النفط الحالي نحو 55 دولارا للبرميل وهو لا يزيد سوى 25% عن متوسطه في 2016.
وما يزيد الأمر غموضا ما قاله وزير الطاقة السعودي خالد الفالح من إن الرياض استندت في موازنة 2017 إلى سيناريو “متحفظ” لأسعار النفط، ولم يفصح الوزير عن السعر المحدد بالموازنة، فيما أبدى تفاؤله بأن أسعار النفط العالمية سترتفع عن المستويات الحالية في السنوات المقبلة، إلا أنه عاد وأكد أن السعودية تمضي قدما في مشروعاتها التنموية بغض النظر عن أسعار النفط، وهذا ما يتعارض من توقعات الزيادة بنحو 46%.
6.7 % زيادة بالإنفاق العسكري
لعل بند الإنفاق العسكري من أهم العناصر الرئيسية التي ينظر إليها باهتمام، فالأرقام أظهرت أن المملكة تخطط لزيادة نسبتها 6.7% في الإنفاق على الدفاع في 2017 ليصل إلى 191 مليار ريال (50.8 مليار دولار)، وهو رقم قياسي يعزز من ترتيب السعودية ضمن أكبر الدول في مجال الإنفاق العسكري في العالم، فيما تخطط لخفض الإنفاق على قطاع الأمن والمناطق الإدارية -إنفاق مستقل متعلق بالمجال العسكري- إلى 96.7 مليار ريال انخفاضا من 102.3 مليار.
وزير المالية السعودي محمد الجدعان
وبرغم هذه الزيادة إلا أن ما حدث العام الماضي يشير إلى أن هذه الأرقام ستكون أكبر من ذلك، فقد كان من المخطط في الأصل في ميزانية 2016 أن يبلغ الإنفاق العسكري 179 مليار ريال لكن الإنفاق العسكري في واقع الأمر تراوح حول 205.1 مليار، ومن المتوقع أن تواصل الرياض شراء أسلحة تقدر بمليارات الدولارات من دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لقواتها البرية والبحرية والجوية، الأمر الذي يعزز توقعات الارتفاع.
الوافدين ضحية الإصلاحات
يعتبر الوافدين أو العمالة الأجنبية في المملكة هم كلمة السر في توقعات زيادة الإيرادات في موازنة 2017، فقد قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان إن السعودية سترفع تدريجيا الرسوم الشهرية التي تدفعها الشركات في المملكة لتوظيف العمالة الأجنبية بدءا من 2018، ويزيد تدريجياً حتى 2020، موضحا أن مستوى الرسوم سيتوقف على نسبة الأجانب في القوة العاملة بالشركة.
الجدعان ذكر أن حكومة بلاده رأت أن من المناسب أن يدفع المقيم “مقابلا ماليا بسيطا” على المرافقين، سيكون 100 ريال (26.7 دولارا) لكل مرافق شهرياً في 2017، ثم يزيد تدريجياً سنوياً ليصل إلى 400 ريال في 2020، مبررا أن المقابل المالي سيكون عن الخدمات التي تقدمها الدولة من مرافق وغيرها ويستخدمها مرافقو العمالة الوافدة إلى البلاد.
بالطبع هذه الرسوم ستوفر إيرادات ضخمة للبلاد التي يمثل الأجانب نسبة 33% من إجمالي عدد السكان، وتشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء في السعودية، إلى أن عدد الأجانب قد بلغ 10.07 مليون نسمة عام 2015.
الديون ورفع الدعم
يعد إلغاء دعم الطاقة بشكل خاص من أبرز السياسات الاقتصادية الواردة في الميزانية السعودية لعام 2017، حيث تخطط الحكومة لإلغاء الدعم للطاقة تدريجيا لكن المواطنين المستحقين سيتلقون “دعما نقديا مباشرا” لمساعدتهم على التأقلم مع الأوضاع الجديدة.
وفيما يخص الديون فإنه بحسب الموازنة المعلنة تخطط السعودية على مدى السنوات الأربع المقبلة لتنويع إصداراتها من أدوات الدين على الصعيد المحلي والدولي لتشمل الصكوك، وستسعى المملكة أيضا لبيع أدوات مقومة بعملات مختلفة وفقا للظروف والطلب في السوق، وهذا سيكون توجه جديد على المملكة، بعد أن جمعت في أكتوبر الماضي، نحو 17,5 مليار دولار أمريكي، في أول عملية اقتراض لها عبر طرح سندات في السوق الدولية.
تعتمد السعودية على صعود النفط بشكل أساسي في هذه الموازنة، وهو رهان غير مضمون، فالمملكة تتوقع ارتفاع الإيرادات النفطية بنسبة 46% إلى 480 مليار ريال العام القادم
الدخل الاستثماري نقطة التحول
ويبقى في النهاية التحدي الأهم أمام المملكة خلال هذه الموازنة، هو قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية، بالإضافة إلى العمل على توجيه الإنفاق الحكومي نحو استثمارات يمكن من خلالها أن تحقق التنوع الحقيقي لاقتصاد البلاد الذي يعتمد بشكل رئيسي على عائدات النفط، وهذا انسجاماً مع “رؤية المملكة 2030″، للوصول بالمملكة إلى مستقبل زاهر وتنمية مستدامة.
وبحسب تقرير “جدوى للإستثمار” حول الميزانية السعودية للعام 2017، فقد أقرت المملكة زيادة الإنفاق في ميزانية عام 2017 مقارنة بمستوى الإنفاق سواء التقديري أو الفعلي في ميزانية 2016، ولكن، إذا أخذنا في الحسبان مبلغ الـ105 مليار ريال التي صرفت كمدفوعات متأخرة للمقاولين، فإن إجمالي الإنفاق الفعلي عام 2016 يكون قد بلغ 930 مليار ريال، ما يعني أن الإنفاق عام 2017 أقل من عام 2016، وهو الأمر الذي قد يقوض الاتجاه نحو استثمارات متنوعة.
ولكن من المقرر أن يكون المصدر الأساسي لنمو إيرادات المملكة خلال موازنة 2017، هو الدخل الاستثماري، حيث يرجح أن يعزز صندوق الاستثمارات العامة عائدات الاستثمار بفضل فعالية أسلوبه في إدارة الثروة السيادية، كذلك، قررت الميزانية نمو كبير في رسوم ومصاريف الخدمات عام 2017، بحسب تقرير “جدوى للإستثمار”.
عموما أنهت السعودية عاما ناجحا من التقشف، وتستقبل عاما جديدا تعاني فيه المتاجر من أثار التقشف السلبية في صورة تراجع في مبيعاتها والمستهلكين تراجعا في قدرتهم الشرائية، وذلك بعد أن خفضت الحكومة السعودية في سبتمبر الماضي، من مزايا موظفي الدولة عبر إلغاء بعض العلاوات والبدلات والمكافآت، وخفض رواتب الوزراء بنسبة 20%، إضافة لخفض مكافآت أعضاء مجلس الشورى بنسبة 15%.
وألغت أيضا مشروعات بقيمة تريليون ريال (267 مليار دولار)، فيما ارتفع معدل البطالة بين السعوديين في الربع الثالث 2016 إلى 12.1% مقارنة بـ11.6% في الربع الثاني، حسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودية، على كلا تواجه السعودية مجموعة من التحديات هذا العام، تحتاج إلى أكثر من التقشف لتجاوز العام بأقل الخسائر.
ختاما: حملت الحكومة السعودية المواطنين والعمالة الوافدة ضريبة عجزها عن تدبير إيرادات بديلة عن الإيرادات النفطية، وهذه السياسة ربما تكون نجحت في 2016، لكن من الصعب أن تنجح كل عام لأن المواطن أو الوافد لن يستطيع أن يدفع الضريبة كاملة، وعلى الحكومة تنويع الاقتصاد بشكل حقيقي وليس تنويع الإيرادات من خلال مزيد من الضرائب والرسوم والديون وفقط.