لن نتحدّث اليوم عن نجمٍ من نجوم كرة القدم، ولا عن أسطورة من أساطير السباحة أو التنس أو ألعاب القوى، بل سيكون حديثنا عن أحد أبطال الرياضات الميكانيكيّة، التي يعتمد تحقيق النّجاح فيها على الانسجام بين الإنسان والآلة، ألا وهي رياضة سباقات سيّارات الفئة الأولى (فورمولا1)، التي اختُتم موسمها الحالي قبل عدّة أسابيع، بتتويج سائق فريق مرسيدس الألماني نيكو روزبرغ، بلقب بطولة العالم للمرّة الأولى في تاريخه، بعد منافسةٍ حامية الوطيس مع زميله في فريق مرسيدس، البريطاني لويس هاملتون، نجح خلالها الألماني في التفوّق على منافسه البريطانيّ الذي يُعدّ أحد أساطير اللعبة، ليحضر إلى الأذهان إنجازًا عمره 34 عامًا، كان بطله والده كيكي، الذي حقّق بطولة العالم للفورمولا عام 1982.
كيكي والد نيكو روزبرغ
لم يكن سائق فريق ويليامس، الفنلندي كيكي روزبرغ، يعلم أن المولود الذي أنجبته زوجته الألمانيّة سينا في مدينة فيسبادن الألمانيّة، بعد 4 أيامٍ من فوزه بلقب سباق ديترويت صيف عام 1985، يحمل في جيناته مورّثات التفوّق والبطولة، وأنّه سيكمل من بعده مشوار إنجازاته الحافل في عالم سباقات الفورمولا1، والذي بدأ منذ عام 1978 واستمرّ حتّى عام 1986، حيث اعتزل البطل الفنلنديّ وفي رصيده ألقاب 5 سباقاتٍ عالميّة، ليتفرّغ لتأسيس فريقٍ خاصٍ به للمشاركة ضمن سباقات السيّارات العالميّة، مستفيدًا من الثروة التي جمعها من خلال إنجازاته في عالم الفورمولا1، والتي أتاحت له الانتقال بعائلته الصغيرة من مدينة فيسبادن الألمانيّة حيث تنحدر أسرة زوجته، إلى إمارة موناكو الثريّة التي تقع جنوب غربي فرنسا على شاطئ البحر المتوسّط.
صورةٌ من طفولة نيكو روزبرغ
وفي موناكو قضى الطفل نيكو معظم حياته، حيث حظي بطفولةٍ مترفةٍ تعهده خلالها والداه بمختلف سبل الرعاية والرفاهيّة والتعليم، حتّى غدا قادرًا على التكلّم ب5 لغاتٍ هي: الألمانيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة والإيطاليّة والإسبانيّة، دون أن يلتفت أبوه لتعليمه لغة أجداده الفنلنديّة بدعوى عدم جدواها! وهو السرّ في تفضيل الابن جنسيّة والدته الألمانيّة على جنسيّة والده الفنلنديّة، عند دخوله عالم الفورمولا بعد سنوات.
وبحكم عمل أبيه، كان نيكو يقضي معظم أوقاته في حلبات السباق، فقد كان ابن 6 أعوامٍ عندما صعد أول سيارة سباقٍ بجوار أبيه، وابن 11 عامًا فقط عندما بدأ بالتدرّب ضمن حلبات سباقات الفورمولا للصغار (الكارتنغ)، وهناك تعرّف على زميله البريطاني لويس هاملتون، الذي أصبح ألدّ منافسيه فيما بعد، واعتبارًا من عام 2001، بدأ روزبرغ الابن خوض غمار المنافسات الرسميّة، فشارك ضمن سلسلة سباقات BMW للناشئين، وأنهى عامه الأوّل في المركز ال18، قبل أن يقفز إلى صدارة الترتيب في نهاية عام 2002، ليدرك الأب بأن ابنه بات جاهزًا للمشاركة ضمن منافسات الكبار، فيمنحه مقعدًا ضمن فريق (روزبرغ) للسيّارات الذي أسّسه بنفسه منذ عام 1994.
نيكو روزبرغ سائقًا لفريق ويليامس
واعتبارًا من مطلع عام 2003، بدأ نيكو روزبرغ المشاركة ضمن سلسلة سباقات الفورمولا3، فأنهى موسمه الأوّل في المركز الثامن، وارتقى إلى المركز الرابع في موسمه الثاني، ليتحوّل مطلع عام 2005 إلى فئةٍ أرقى من السباقات تُدعى GP2، فيشارك على متن سيّارة لوتس التابعة لشركة ART الفرنسيّة، وينهي الموسم متصدّرًا ترتيب تلك الفئة، ممّا شجّع شركة ويليامس العريقة في عالم الفورمولا1، على توقيع عقد شراكةٍ مع السائق الصاعد، على أمل تكرار نجاحات والده معها في فترة الثمانينيات.
وبعد فترةٍ تجريبيّةٍ قصيرةٍ أواخر عام 2005، أصبح نيكو روزبرغ سائقًا رسميًّا لفريق ويليامس لعام 2006، إلى جانب الأسترالي مارك ويبر، ودشّن مشاركاته في عالم الفورمولا1 بسباق جائزة البحرين الكبرى، والذي أنهاه في المركز السابع، وهو ذات المركز الذي أحرزه في جائزة أوروبّا الكبرى، لينهي موسمه الأوّل في الترتيب ال17 برصيد 4 نقاطٍ فقط، ولم تكن نتائجه في موسميه التاليين مع فريق ويليامس أفضل بكثير، فقد أنهى عام 2007 في الترتيب التاسع، وعام 2008 في الترتيب ال13، قبل أن ينتفض في موسمه الرابع ويجمع 34,5 نقطة، وضعته في المركز السابع على سلّم ترتيب عام 2009، ممّا أغرى مسؤولي مرسيدس لاستقدامه لتمثيل فريقهم اعتبارًا من مطلع موسم 2010، إلى جوار الأسطورة الألمانيّة مايكل شوماخر، بطل العالم 7 مرّات.
روزبرغ وهاملتون زميلا مرسيدس اللدودان
ورغم تفوّقه على زميله الأسطوريّ شوماخر، الذي كان يعيش أواخر مراحل مسيرته الرياضيّة، لا يمكن وسم الأعوام ال3 الأولى لروزبرغ مع مرسيدس بالنّجاح، فقد أنهى موسميه الأوّل والثاني في المركز السابع، قبل أن يهبط إلى المركز التاسع في نهاية عام 2012، الذي شهد صعوده الأوّل إلى منصات التتويج، بفوزه بلقب جائزة الصّين الكبرى، ثالث مراحل سباقات الموسم ال20.
وفي العام التالي بدأت مرسيدس عهدًا جديدًا باستقدام السائق البريطانيّ لويس هاملتون، بطل العالم لعام 2008، لمزاملة روزبرغ في قيادة الفريق الطامح، الذي قام بتطوير معدّاته وسيّاراته لتصبح أكثر تنافسيّة، وهو ما لمسه روزبرغ بوضوح خلال سباقات عام 2013، التي شهدت فوزه بلقب جائزتي موناكو وبريطانيا، لينهي الموسم في المركز السادس، قبل أن يقفز إلى المركز الثاني خلف زميله هاملتون عام 2014، بتحقيقه ألقاب 5 سباقاتٍ كبرى، وهو ذات الإنجاز الذي كرّره العام الماضي، بإحرازه ألقاب 6 سباقاتٍ كبرى، قرّبته كثيرًا من تحقيق بطولة العالم، لولا تألّق زميله البريطانيّ هاملتون، الذي كرّس نفسه بصفته واحدًا من أساطير اللعبة عبر تاريخها، بتحقيقه لقب بطولة العالم للمرّة الثانية تواليًا، والثالثة خلال مسيرته، حارمًا البطل الألمانيّ ذا ال30 عامًا من تحقيق حلم حياته الوردي.
نيكو روزبرغ يحتفل مع مشجّعيه بعد تتويجه بطلًا للعالم
ولم تنل صدمة الإخفاق في التتويج من عزيمة البطل الألماني المجتهد، بل زادت من اتّقاد جذوة حلمه المنشود، فاستهلّ الموسم الحالي بشكلٍ مبهر، من خلال فوزه بألقاب السباقات ال4 الأولى في كلٍّ من أستراليا والبحرين والصّين وروسيا، قبل أن يستأنف تألّقه بإحراز ألقاب 5 سباقاتٍ أخرى في كلٍّ من أذربيجان وبلجيكا وإيطاليا وسنغافورة واليابان، ليتقدّم بفارقٍ مريحٍ من النقاط على زميله هاملتون، في مفاجأةٍ لم ينتظرها مسيّرو فريق مرسيدس، الذين لم يخفوا دعمهم المطلق للسائق البريطاني، دون أن ينال ذلك من معنويات الألمانيّ الشّجاع، الذي صمد حتّى اللحظة الأخيرة، ورفض التنازل عن حلمه القديم، ليُعلن نفسه بطلًا جديدًا للعالم يوم 27 من شهر نوفمبر الماضي، عشيّة إنهائه سباق جائزة أبو ظبي الكبرى في المركز الثاني، الذي كان كافيًا لتحقيق حلم طفولته، بالتربّع على عرش بطولة العالم للفورمولا1.
الابن يكرّر إنجاز والده
وعلى طريقة كبار النجوم، أعلن روزبرغ اعتزاله اللعبة بعد أيامٍ من تتويجه باللّقب العالمي، مفضّلًا أن تحتفظ أذهان النّاس بصورة البطل في ذروة مجده، تلك الصورة التي اجتهد البطل الألمانيّ في سبيل إتمامها بالشّكل الأمثل، على مدى أكثر من 10 سنواتٍ قضاها داخل حلبات الفورمولا، ليصل أخيرًا إلى قمّة الجبل، ويبلغ أقصى درجات الرضى والسعادة، بتحقيق حلمه وحلم أبيه البطل السابق، الذي أراد لابنه أن يسير على خطاه، فإذا به يكرّر إنجازه العظيم، مثبتًا مقولة: فرخ البطّ عوّام.