“نأمل ان يشعل السفير الأمريكي الجديد في العام القادم شمعة الحانوكا (عيد الانوار اليهودي) في السفارة الامريكية في القدس، المدينة التي أشعل فيها المكابيون هذه الشعلة قبل 2200 سنة”.
بهذه الكلمات صرّح السفير الإسرائيلي في واشنطن رون دريمر قبل يومين، في دعوة منه للرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب تنفيذ وعده لـ”إسرائيل” بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
ترامب الذي كرر مرارًا في حملاته الانتخابية، أنه سيقاوم أي محاولة من الأمم المتحدة لفرض إرادتها على “إسرائيل”، وسينقل السفارة الأمريكية إلى القدس حال انتخابه رئيسًا، بات اليوم أقرب لهذا القرار بكل تحد للقوانين الدولية والتحذيرات من عواقب ذلك، إذ ما يزال اللوبي الصهيوني يدفع بالرجل نحو الوفاء بوعده لـ”إسرائيل”.
السفير الإسرائيلي في واشنطن رون دريمر
كان السفير الإسرائيلي ديرمر قد صرح بهذا الكلام، بعد أسبوع على اعتماد ديفيد فريدمان سفيرًا للولايات المتحدة لدى الكيان الإسرائيلي. حيث جاء في البيان الذي نشره الرئيس المنتخب ترامب بشأن تعيين فريدمان، أن “لدى السفير الجديد مهام كثيرة يضعها نصب عينيه، أهمها هو نقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس”.
فهل ينوي ترامب تفجير انتفاضة غضب جديدة في الأراضي المحتلة بتطبيق هذا القرار، وسحق هوية المدينة العربية الإسلامية، التي حاول أسلافه من الرؤساء السابقين تفادي تطبيقه خشية على “الأمن القومي” الأمريكي، وخشية على “إسرائيل” نفسها من نار الغضب؟
من أي بدأت الحكاية..الخلفية التاريخية
رغم مرور 36 عامًا على قرار الاحتلال الاسرائيلي، ضم الجزء الشرقي من مدينة القدس إليها عام 1980 -والذي احتلته بعد حرب سنة 1967- وإعلان المدينة عاصمة لها، إلا أن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي –بما فيه الولايات المتحدة آنذاك- لا يعترف بالقدس كعاصمة لـ”إسرائيل”، ويعتبر القدس الشرقية جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يعترف بضمها للدولة العبرية.
كما أبقت الكثير من دول العالم، قنصلياتها في المدينة، بهدف خدمة الفلسطينيين القاطنين فيها، رغم استمرار الاحتلال الإسرائيلي. وكان لافتًا أن الكثير من دول العالم، قررت عقب القرار الإسرائيلي بضم “القدس الشرقية” عام 1980، نقل سفاراتها من “القدس الغربية” إلى “تل أبيب” رغم إقرارها بأن الشطر الغربي من المدينة أراضٍ إسرائيلية.
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشيه دايان يتجول برفقة جنوده في القدس بعد احتلالها عام 1967
إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية وقعت مع “إسرائيل” في 19 كانون الثاني 1982 وبالتحديد في اليوم الأخير لولاية الرئيس الأمريكي رونالد ريغان على وثيقة خطيرة، تتناول وضع القدس العربية المحتلة وسميت “اتفاق إيجار وشراء الأرض” حصلت الحكومة الأمريكية بموجبها على قطعة أرض من أملاك الوقف الإسلامي والأملاك الفلسطينية الخاصة في القدس الغربية المحتلة عام 1948 لبناء السفارة الأمريكية عليها.
دونالد ريغين ومناحيم بيغن
وكانت الحكومة الأمريكية قبل التوقيع على هذه الوثيقة تعتبر القدس كياناً منفصلاً –كما تحدثنا- خارج نطاق السيادة الإسرائيلية. واعتُبر التوقيع على هذه الوثيقة اعترافًا ضمنيًا أمريكيًا بسيادة “إسرائيل” على القدس المحتلة، وفي الوقت نفسه يحرم القانون الدولي الحصول على أرض من سلطة الاحتلال عن طريق الاستئجار أو الشراء.
وفي عام 1990، اتخذ الكونغرس الأمريكي قرار رقم “106”، والذي نص على نقل السفارة الأمريكية من “تل أبيب” إلى القدس المحتلة، وصدر قانون نقل السفارة الأمريكية في عام 1995، وذلك بعد أربعة أسابيع من توقيع اتفاق طابا (أوسلو) في البيت الأبيض بين دولة الاحتلال والمفاوضين الفلسطينيين، والذي تم فيه الالتزام بعدم المساس بوضع القدس، وتأجيل بحثها إلى مفاوضات الحل النهائي.
احتوت ديباجة القانون الأمريكي آنذاك على كافة المزاعم والأطماع اليهودية في مدينة القدس العربية. وتنكَّر القانون في الوقت نفسه لتاريخ وواقع القدس والسيادة العربية الإسلامية عليها، لاسيما وأن السيادة على القدس ثلاثية الأبعاد: فلسطينية أولاً، وعربية ثانياً، وإسلامية ثالثاً. وتضمن القانون ثلاثة بنود: الأول أن تبقى القدس موحدة غير مجزأة أي تكريس الاحتلال الإسرائيلي للقدس بشطريها المحتلين، وشرعنته. والثاني: يعترف بالقدس الموحدة عاصمة لـ”إسرائيل”، ويدعم الاحتلال بالضم والتهويد والدفاع عنه. والثالث: يلزم الإدارة الأمريكية بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وإقامة مبنى السفارة فيها حتى عام 1999 أو متى يحين الوقت لذلك.
بليل كلينتون في أحد زياراته لإسرائيل نهاية التسعينيات
القانون الذي وافق عليه آنذاك مجلس الشيوخ بأغلبية ساحقة (93) مقابل (5) أصوات ضده، وأعلن الرئيس بيل كلنتون حينها أنه لا يؤيد القانون ولكنه سيلتزم بتنفيذه. وصمتت حينها معظم الدول العربية صمتاً مريباً، وتفاوتت بعض الردود التي صدرت عنها بين التعبير عن شكر الرئيس كلنتون (لأنه لم يؤيد القانون ولكنه وقّع عليه) وبين إبداء الدهشة والأسف.
تلى ذلك، توقيع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش في 30 أيلول 2002 قانوناً أقره مجلس الشيوخ الأمريكي ينص على أن “القدس الموحدة” عاصمة للكيان الإسرائيلي، مما أثار حينها الغضب والاستنكار الشديدين في جميع العواصم العربية والإسلامية. وقد اعتبرت الدول العربية ذلك القانون خطيرًا ويهدد الاستقرار في المنطقة، ويدل بشكل كامل على الانحياز الأمريكي لدعم الاستعمار الاستيطاني اليهودي في القدس وفلسطين وبقية الأراضي العربية المحتلة وتبنيه والدفاع عنه.
جورج بوش وأوباما
وأخيرًا، في محطة الرئيس الأمريكي بارك أوباما، حاولت إدارته تفادي تطبيق القرار قدر المستطاع، خوفًا من تفجير حالة من الغضب لدى الفلسطينيين وانعكاس ذلك بالطبع على دولة الاحتلال، حيث أرجئ أوباما أكثر من مرة نقل سفارة بلاده لدى الكيان الإسرائيلي من تل أبيب إلى القدس المحتلة، بالرغم من الضغط الكبير الذي كان يلعبه اللوبي الصهيوني على الإدارة الأمريكية، وبحسب القانون الذي تم تمريره في عام 1995، ولكن القانون كان يجيز للرئيس تأجيل العملية لمدة ستة أشهر لأسباب تتعلق “بالأمن القومي”.
نقل السفارة يعني انتفاضة جديدة
مجلة فورين بولسي الأمريكية حذرت من أن “المضي قدمًا في خطة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لنقل السفارة الأمريكية لدى إسرائيل إلى القدس المحتلة، يهدد باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، واصفة تلك الفكرة بأنها مروعة لإسرائيل وفلسطين وللشرق الأوسط”.
وقالت الصحيفة في تقرير نشرته أمس إنه “من بين كثير من الطرق التي تنذر بالخطر في انقلاب ترامب على السياسة الخارجية التقليدية للولايات المتحدة، واحدًا من تعهداته الأكثر إثارة للخوف والقلق بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس”. وقد قطع مرشحون آخرون نفس الوعد، مثل بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، وقالوا إنه بمجرد تنصيبهم، سيقومون بنقل السفارة.
الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000
وتضيف الصحيفة أن “ترامب يبدو أقل ميلًا منهما للتراجع عن هذه الفكرة، وما نحن بانتظاره الآن سيكون خطأ هائلًا، ليس فقط للفلسطينيين ولكن لسمعة أمريكا وموقفها الدبلوماسي وأيضًا للأمن القومي الإسرائيلي”.
وتتابع الصحيفة قائلة إن إصرار ترامب على إعطاء انطباع أنه ينوي حقا نقل السفارة بمجرد توليه الحكم، يبدو جزءًا من تحول أكبر تستعد إدارته للقيام به نحو اليمين المتطرف في “إسرائيل”. وهو التحول الذي يشير إليه اختياره لديفيد فريدمان، المؤيد للاستيطان والمعروف بمواقفه المتشددة، سفيرًا لواشنطن في “إسرائيل”. واعتبرت الصحيفة أن هذا التعيين خطوة مقلقة بما يكفي على افتراض موافقة مجلس الشيوخ عليه.
وقالت فورين بوليسى إنه سيكون من الصعب التنبؤ برد الفلسطينيين على هذا الوضع، لكن هناك احتمال كبير بانفجار الغضب وربما العنف، لأن “القدس هي القضية الأكثر حساسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثلما ظهر في اندلاع الانتفاضة الثانية ومواقف أخرى. ولو رأى الفلسطينيون أن مستقبل المدينة التي يعتبرونها عاصمة دولتهم المستقبلية تعرقله السياسة الأمريكية فإن الرد الغاضب والعنيف في شكل انتفاضة عفوية، أو حتى منظمة ربما يكون لا مفر منه، وإن لم يكن وشيكًا”.
إلى ذلك، فقد صرح كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات قبل أيام قليلة بأن نقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس يعني “الاعتراف بالقدس الموحدة التي تضم القدس الشرقية المحتلة، أي الاعتراف بضم إسرائيل للقدس الشرقية”. وأضاف عريقات أنه سيقدم استقالته على الفور من منصبه كبير المفاوضين الفلسطينيين، لأنه لا يستطيع بعد ذلك “أن يوهم الفلسطينيين بأن حلا للقضية لا يزال ممكنًا، بعد أن تلاشى حل الدولتين بنقل السفارة”.
صائب عريقات: سأقدم استقالتي حال تطبيق القرار
وأشار عريقات أن “نقل السفارة إلى القدس يعني أن تغلق الولايات المتحدة سفاراتها في كافة العواصم العربية، مؤكدًا أن الشعوب العربية ستثور في الشوارع ولن تدع السفارات الامريكية في البلاد العربية تتمكن من مزاولة عملها”، على حد تعبيره.
هل سيحدث ذلك فعلًا؟
لكن هل سيكون هناك من يوقف القرار فعليًا هذا في حال تطبيقه من قبل ترامب، وهل ستثور الشوارع العربية على السفارات الأمريكية كما يقول عريقات؟
الجواب ربما يكون هنا: لا !
يقول الكثير من المحللين والمتابعين للشأن الفلسطيني إن الإدارات السابقة في الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن على استعداد كامل وشجاع لتطبيق هذا القرار، خشية من تفجير حالة من الغضب لدى الشعب الفلسطيني والدول العربية، وتأليب المجتمع الدولي عليها، وبالتالي جلب الخطر لنفسها، من خلال الكراهية المتصاعدة ضدها في العالم العربي والإسلامي، بسبب دعمها الكامل والمباشر لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
إلا أن الحالة العامة التي تمر فيها الدول العربية الآن، بعد الربيع العربي والثورات المضادة التي أوقفت مده، تمنعها من أن يكون لها حراكًا قويًا وكبيرًا ومؤثرًا ورافضَا للسياسة الأمريكية. حيث تحاول كل دولة الاهتمام قدر المستطاع بشؤونها الداخلية، وحل مشاكلها التي لا تنتهي، إذ تعاني مصر الويلات بعد الانقلاب العسكري الذي قاده المشير عبد الفتاح السيسي في 2013، وسوريا تدمرها آلة الحرب التي تتفاقم يومًا بعد يوم منذ 5 سنوات، والعراق واليمن وليبيا ليست ببعيد عن الحالة التي تمر بها سوريا، إلا أن درجة الخراب والدمار تتفاوت بنسب ودرجات معينة بين دولة وأخرى. أما حال باقي الدول العربية فهو ليس بالأفضل مطلقَا، فإما فقر أو حروب أو نزاعات عربية-عربية لا تنتهي. وأما الخليج منذ أن تتدخل في اليمن بحربه ضد الحوثيين لم يعد كما كان، إضافة إلى التطورات التي طرأت على الوضع الاقتصادي له، وأثرت بشكل كبير على المجتمع وارتفاع الأسعار والميزانيات.
هذا كله ربما يسهل على الإدارة الأمريكية تنفيذ وعودها لإسرائيل، دون أن تجد لها حسيبًا أو رقيبًا، إلا اللهم دعوات الشجب والاستنكار والاستهجان، التي أصبحت السلاح الوحيد المتبقي في يد الحكومات العربية والإسلامية، لمجابهة أخطارها والتخفيف من روعة الفظائع التي تعاني شعوبها منها، على يد عدوها.
إلا أن التعويل الوحيد ربما يكون على الشعب الفلسطيني نفسه، والذي ثار كثيرًا ضد الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الاستيطانية والتهويدية للمدينة المقدسة، حيث كانت الانتفاضة الأولى والثانية، والهبات الشعبية التي اشتعلت فيما بينهما وبعد الثانية، آخرها كان ما عرف بـ”هبة القدس” التي تستمر آثارها حتى هذا اليوم، نتيجة للاستفزازات الإسرائيلية المتكررة وانتهاك قدسية المسجد الأقصى واقتحام باحاته وتدنيسه.
فهل سيبقى ترامب مصرًا على قراره ويضرب بكل هذه التحذيرات عرض الحائط؟ وهل سنشهد انتفاضة شعبية فلسطينية جديدة؟ ربما تقود لحرب مسلحة جديدة مع الكيان الإسرائيلي، كتلك التي وقعت في الأعوام الأخيرة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بقطاع غزة؟