بعد أن أجهزت موسكو على حلب في 22 من ديسمبر الحاليّ، سارعت إلى استثمار الانتصار العسكري برسم خارطة طريق لسوريا عرف بإعلان موسكو هدفه المعلن تعميم تجربة حلب على كامل الأراضي السورية باستثناء مناطق جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) وداعش والتركيز على محاربة الإرهاب بمشاركة الحلفين الإيراني والتركي والدفع بسوريا نحو تسويةٍ سياسية عبر مفاوضاتٍ مباشرة بين المعارضة والنظام تفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية والإبقاء على الأسد لفترة لم تحدد بعد، إضافةً إلى التأكيد على الحفاظ على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا والالتزام بالقرارات الدولية وأهمها 2254.
كل هذه الأمور اتفق عليها الحلف الثلاثي (إيران – تركيا – موسكو) شريطة أن تكون موسكو هي المنصة الأساسية للحل السياسي علها تبرر تدخلها العسكري وتنسي العالم جرائمها بحق الشعب السوري عبر تعزيز الفكرة القائلة إنها راعية للسلام.
الحل الروسي مطب سياسي وصك استسلام للمعارضة
الحل الروسي مليء بالمطبات السياسية فهو بالمدى القريب يميل أكثر إلى تحقيق بيان فيينا وينسف بنود جنيف 1، إذ كيف يمكن إنهاء الصراع السوري مع إبقاء الأسد في السلطة وهو المسبب الأول لكل الجرائم بحق الشعب السوري، كما أن شرط رحيله وإنهاء حكمه هو المطلب الوحيد للشعب السوري، وبرحليه يكمن مفتاح الحل وغير ذلك يعني العودة إلى المربع الأول، فمن غير المقبول وجوده في السلطة ولو ليوم واحد فما بالكم بمقولة لافروف الحل الروسي لا يتطرق إلى مصير الأسد مباشرة، وهو جوهر الخلاف وأساس كل الحرب المستمرة منذ 2011.
ثم ماذا يعني غياب أي دور عربي في تحديد الحل السوري دون حتى مشاركة النظام أو المعارضة وفي الوهلة الأولى بدا وكأنه خارج نطاق الأمم المتحدة، صحيح أن بوتين أخبر واشنطن بمضمون الإعلان ولكن هذا لا ينفي التفرد الروسي في سوريا، كما أن الخلافات بين الحلفاء الثلاث ما زالت قائمة وهي ذاتها الخلافات التي أجهضت كل المفاوضات السابقة وإن تم السكوت عنها حاليًا ريثما تهندس موسكو الحل، فهي حتمًا لن تزول خصوصًا أن تركيا طالبت بخروج كل المليشيات الأجنبية من سوريا وهو على ما يبدو الشرط التركي الذي بموجبه تنازلت عن رحيل الأسد، إلا أن إيران المدركة لخطورةٍ الأمر عملت مسبقًا على تجهيز الفيلق الخامس الإيراني والذي أعلن أنه الفيلق لجيش الأسد وهذا كلام عارٍ عن الصحة فهو لا يضم ولا سوري واحد وقد يكون البذرة التي ستزرعها إيران بعد خروجها من سوريا تمامًا كما زرعت حزب الله في لبنان.
بالمقابل كيف ستقبل المعارضة السياسية غير المتهيئة لأي تسوية سياسية وقد افتقدت للكثير من أوراق التفاوض بعد حلب التي كانت بيضة القبان لكل الأطراف المتحاربة، فرياض حجاب الذي أعلن قبوله التفاوض من غير شروط مسبقة هل إعلانه مبني على وعود من قبل تركيا التي تحولت من دولة داعمة للثورة إلى دولة الوسيط وكذلك السعودية وقطر.
الفصائل العسكرية المتبقية في سوريا هل ستقبل أيضًا بحل سيفرض عليهم بالقوة وهو على ما يبدو الخطر المحدق بهم، فبعد حلب باتت إدلب مهددة بمصير مشابه لحلب إذا ما رفضت الفصائل الرضوخ للحل السوري، فهل ستستطيع لجم القوة الروسية لا سيما أن ديمستورا الموظف الدبلوماسي قام بضربة استباقية للفصائل عندما أعلن استئناف المفاوضات في الثامن من نوفمبر القادم وكأنه يقدم للمعارضة صك استسلام أخير مفاده إن لم تقبلوا بالرؤية الروسية للحل فستكون إدلب قندهار أو سربرنيتشا أخرى.
إذًا لا يوجد ميزان عادل في الحل الروسي فروسيا الواضحة بالحافظ على بقاء الأسد سيحقق لها ربما تهيئة الأجواء لخريطتها المخالفة لتطلعات الشعب السوري.
ومع غياب إجابات حقيقة وكل الثغرات في إعلان موسكو يتضح أن الحرب ستستمر وقتًا طويلًا حتى تتضح رؤية جدية حقيقة تلبي جزءًا قليلاً من تضحيات الشعب السوري أولها الحديث بشكل مباشر عن رحيل الأسد بتحديد مكان وزمان بشكل مباشر، إضافةً إلى تطبيق بنود جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 بمرحلة انتقالية كاملة الصلاحيات وليس حكومة وحدة وطنية، وغير ذلك سيقود إلى فوضى أخرى ستترجم في تعنت روسي والاستمرار في المحرقة السورية على جثامين الشعب السوري، ولكن علينا أن نجيب على سؤال مهم لماذا روسيا تسرع في الحل السياسي السوري.
لماذا ترغب موسكو بحل سياسي؟
منذ أن تدخلت روسيا في سوريا في 30 من سبتمبر العام الماضي وهي تضع أمام عينها نيتها أن تدخلها في سوريا لن يكون للأبد، فالمقولة القائلة إن أمريكا تريد استنزاف روسيا في سوريا خاطئة، فموسكو تدرك تمامًا ما تقوم به وتضع حدًا لكل توجهاتها في سوريا وتنتظر ساعة الصفر لتثبت للعالم أنها لن تغرق في سوريا بل جعلت من سوريا مستعمرة لها لتواجه بها دول الغرب وتعيد تشكيل خارطة التحالفات المبنية عل أنقاض الحرب العاملة الثانية وما اختيارها للعاصمة الأستانة أن تكون منصة للمفاوضات إلا رسالة لدول الغرب أن جنيف أكل عليه الدهر والأستانة تشكل رمزية كبيرة لموسكو، فروسيا تريد أن تؤكد أنها بصدد تشكيل حلف جديد وعلى الجميع أن يقبل به.
أما في يتعلق بأسباب عدم استمرار الحملة العسكرية والغوص أكثر في سوريا فهي تتعلق أولًا بأسباب اقتصادية، فالسياسية الخارجية الروسية كشفت مدى الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها وتكلفة الحملات العسكرية بلغت أرقام هائلة جميعها تنعكس على الاقتصاد الداخلي، فمن غير المنطقي بالنسبة لروسيا تحمل المزيد من التكاليف في الوقت التي تصر فيه فرنسا وبريطانيا على فرض عقوبات اقتصادية.
السبب الثاني متعلق بالأخلاق بسبب الجرائم التي ارتكبتها في سوريا لأنها الطرف الأقوى وكل جرائم المليشيات الطائفية تتحمل وزرها كونها الطرف الأساسي على الساحة، فلم يعد بالإمكان الاستمرار أكثر من ذلك.
استطاعت روسيا منذ تدخلها في سوريا تحقيق معظم أهدافها الميدانية على الأرض السورية فأوقفت الجبهة الجنوبية وطوقت غوطة دمشق وعدة مناطق وحولت كل الفصائل التي تدعمها أمريكا (موك وموم) إلى إدلب وحصرتهم بقطاع ضيق وتركتهم يصفون بعضهم ضمن اقتتال داخلي له مبرراته وهذا يمهد للحل الذي تنوي روسيا فرضه بالقوة.
الحل الروسي تم التنسيق له مع الإدارة الجديدة للبيت الأبيض دونالد ترامب، وهذا اتضح من خلال تصريحات الإدارة الأمريكية أن الحل الروسي لم يهمشنا بل جاء تكملةً للدور الأمريكي وهذا بمعناه يدل على تنسيق كامل بين روسيا وواشنطن على إخراج الحل بشكل ثنائي وقد يتحمل الحل إنهاء الدور الإيراني في المنطقة عن طريق ضم كل الدول وتضامنها مع روسيا لأجل هذا المطلب الذي بات يهدد الجميع، فتركيا والسعودية وقطر ودول الخليج مهددون اليوم بخطر التمدد الإيراني لذا فإن تحقيق هذا المطلب عن طريق موسكو وواشطن يتطلب وضع ضريبة على الدول العربية تفضي إلى تنازلات من قبل الجميع للحفاظ على أمنهم القومي الداخلي، فلا يمكن إخراج إيران من سوريا دون السيطرة الروسية على سوريا من خلال شرعية دولية كاملة.
بدأت تتضح أكثر الخطة الروسية للحل على إثر الخلاف الحاد المتنامي بين روسيا وإيران وخاصةً بعد أن سيطرت إيران بمليشياتها على القصر الجمهوري وغياب تمام لدور النظام، وعندما أدركت إيران سيطرة روسيا على الجيش السوري راحت تشكل الفيلق الخامس التابع بالمطلق لإيران والذي كما أشرنا سابقًا قد يكون الأصبع الأخير لها مستقبلًا في سوريا.
بينما اللاعب الخفي “إسرائيل” على تنسيق كامل مع الروس أملًا في إنهاء الدور الإيراني في المنطقة وهو على يقين أن كل ما يحدث سيصب أولًا وأخيرًا في تحقيق وضمان سلامة أمن إسرائيل والتأكيد على ضمان الجولان وحماية حدودها مع سوريا.
إدارة ترامب واضحة جدًا في إنهاء الدور الإيراني بالشرق الأوسط وهذه نقطة مشتركة بين الروس وأمريكا تمهد للحل وفق النظرة الروسية.
كل هذه المعطيات قد تمهد للبناء عليها في مؤتمر كازخستان، علمًا أن كل الفصائل بالشمال السوري سيتم تصنيفها إرهابية ما لم تلتزم بالقرار التركي وفق الاتفاق الروسي التركي الإيراني في الوقت القريب العاجل، وهذه الفصائل لم يبق لها رصيد أخلاقي بسبب استمرار الخلافات والتشرذم وعدم وجود صيغة واضحة للتوحد، فما يجري الحديث عنه من توحيد للفصائل على قسمين إحداها معتدلة وأخرى إسلامية سلفية لن يحقق إلا مصيدة أخرى لهم، فهم بهذا المنظور سيكونون عالة على الشعب السوري لأنَّ مشاريعهم لا تناسب تطلعات السوريين في تحقيق دولة مدنية ديمقراطية.
فاليوم هم بأمس الحاجة للانصهار تحت جسم عسكري واحد وإسقاط جميع الرايات والمشاريع السياسية المغلفة بطابع مذهبي، فيجب الإعلان عن تشكيل جيش سوريا الحر ليكون نواة صلبة أمام أي مشروع مستقبلي أو حل روسي لا يناسب ولا يحقق الحرية للسوريين.