الإجابة على هذا السؤال تكون من خلال فهم الواقع السياسي وإدراك المصالح الظاهرة والخفية، ومنطق الواقع السياسي والمصالح الظاهرة الآن يقول إن على روسيا أن تبتلع كبرياءها، وتغض الطرف عن أي أثر لهذه الواقعة، ولا تقوم بدور الكاوبوي، كما فعل بوش ورفاقه، على الأقل في الوقت الحالي.
وكذلك على تركيا أن تسارع بتقديم خالص الأسف والتعازي للجانب الروسي، وتسارع كذلك في القبض على الجناة، واتخاذ خطوات كافية لإقناع الجانب الروسي أن مرتكب هذه الجريمة النكراء سوف يلقى جزاءه، كما لو كان المجني عليه تركيًا.
وقد كان المرجح أن هذا هو الذي سوف يحدث، وبالفعل قد حدث، أما منطق المصالح الخفية، فهي غير خافية من جهة أخرى، ولكنها دائمًا ما تغيب في كثير من التحليلات لدى كثيرين.
الاتفاق الروسي الأمريكي
ومنطلق هذه المصالح هنا يقوم على العلاقة بين الجانبين الروسي والأمريكي، والتي وصلت إلى قمتها أوائل عام 2013م، بل وقبل ذلك، والاتفاق الذي تم بينهما، عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب المحسوب من الشرق الأوسط، لتولي قبلتها تجاه المارد الصيني، من أجل محاصرته، كما فعلت سابقًا مع الاتحاد السوفيتي.
تركيا تخلط الأوراق الأمريكية
لا شك أن تركيا استطاعت في السنين القليلة الماضية، خاصة بعد اندلاع الثورة السورية، أن تخلط كثيرًا من الأوراق الأمريكية في المنطقة، الرامية إلى تقسيم جديد للمنطقة يقوم على الإثنية والطائفية، أو مبدأ الكانتونات الصغيرة الضعيفة، وهي إن لم تكن استطاعت أن توقف العبث الأمريكي، إلا أنها قد عطلته بصورة كبيرة، كما جعلت الكلفة الأمريكية كبيرة أيضًا، ولا تزال أمامها بعض الفرص المتاحة.
كذلك أحسنت تركيا استخدام الورقة الروسية، وإن كان ذلك قد جاء متأخرًا، وتمكنت من فرض كلمتها في الساحتين السورية والعراقية، برغم كل المحاولات الأمريكية والإيرانية والعراقية والكردية والداعشية والسورية، والعقبات التي كانت تلقاها من هذه القوى جميعًا.
وربما كان الانقلاب الفاشل في تركيا هو عنوان بداية وتحول كبير في المسار التركي على الأصعدة كافة، حيث كان كورقة التوت الأخيرة التي فضحت الجانب الأمريكي وعرَّته تمامًا، ولم تترك لتركيا خيارًا، وإن كان قد جاء متأخرًا كما ذكرنا.
وهنا التقت المصالح التركية الروسية بقوة، وسوف تندم أمريكا أوباما كثيرًا، إن لم يتداركها ترامب، من خسارة القوة التركية في المنطقة، كما ستندم أوروبا أكثر لاستجابتها لأمريكا في عدم القبول لتركيا في المحيط الأوروبي.
روسيا والمعضلة التركية
تحمل روسيا في ذاكرتها التاريخية أحقادًا وأطماعًا لا تخفى في تركيا، لكنها لا تستطيع خسارة تركيا، على الأقل في الوقت الحالي، فهي تمثل لها قوة كبيرة لها ثقلها ووزنها الإقليمي والدولي، تستطيع معها وبها أن تحقق الكثير من طموحاتها، حيث تطمع في النهاية إلى إقامة تحالف دولي قوي يناظر الحلف الأمريكي الأوروبي الرأسمالي بمؤسساته، وليس فقط في تحقيق مصالح حاليّة في الواقع السوري الشامي العراقي، فهذا يقع على طريق الاستراتيجية الكبرى، كما يقع في هذه الاستراتيجية الواقع الليبي، ولا يغيب عنه اليمني كذلك.
لكن ليس معنى هذا أن روسيا سوف تغض الطرف كليًا عن واقعة قتل السفير، ولكنها ستستخدمها حتمًا كورقة ضغط على الجانب التركي، لا سيما في إدارة المفاوضات الحالية التي تناقش الإقليم السوري للفوز بمكاسب أكثر والحصول على تنازلات لصالحها من الجانب التركي، الذي سوف يلقى على أقل تقدير إن أحسن إدارة الوضع، ضغوطًا نفسية هائلة، كما هو معروف في حروب المفاوضات.
لماذا قتل السفير الآن؟
لذلك فإن قتل السفير الروسي الهدف الأبرز منه هو وأد التحالف التركي الروسي وضربه في مقتل، ولعل من فعل ذلك ربما أراد إحداث قطيعة على غرار حادثة المقاتلة الروسية التي أسقطها الجانب التركي في العام المنصرم، ولكن الأمور تغيرت كثيرًا.
من الفاعل؟
وفي رأيي لا يخرج فاعل ذلك عن اثنين رئيسين، ثالثهما ورابعهما خادم لأحدهما.
أما الأول فهو الفاعل الإيراني الشيعي، الذي يتفق في بعض مصالحه مع روسيا، وبصورة أقل مع تركيا، ولكن يقلقه بشدة التقارب التركي الروسي، لأنه حتمًا سيتضارب مع مصالحه ويضر بها كثيرًا، لا سيما وقد زاد نهمه وشراهته بعد سقوط حلب، وأبدى اتخاذ خطوات أخرى مشابهة أو أشد بأسًا في غيرها من حواضر عالمنا الإسلامي، ليس العراق وحسب، ولكن اليمن والبحرين، وما هو أبعد من ذلك.
وقد كثرت في هذه الآونة الأخيرة الأحاديث الكثيرة عن الحرب القادمة بين الجانبين التركي والشيعي الإيراني.
الفاعل الثاني هو الأمريكي، ولعله أقوى المرجحين لذلك، فهو الذي يضره بقوة هذا التحالف، كما أنه يعلم جيدًا مدى المعارضة والرفض التركي لمصالحه في المنطقة، وكيف وقفت تركيا حائطًا منيعًا لتحقيق أغراضه في سوريا والعراق وغيرهما، وربما يكون المراد إحداث هذه الوقيعة بين الجانبين قبل وصول ترامب للبيت الأبيض، وهو الذي يحمل أجندة مشتركة في ظاهرها مع كل من روسيا وتركيا، كما صرح مرارًا.
كما أن أمريكا لا يروق لها أن تخسر تركيا لعدوها التاريخي روسيا، حتى وإن كان بينها وبين ذلك العدو اتفاقات ومواءمات خفية، ومصالح حيوية مشتركة، فهذا شيء آخر.
وأما الثالث والرابع، فكلاهما فاعلين خادمين للمصالح الأمريكية، إما بالتوجيه المباشر أو الاستخدام غير المباشر، فإن أمريكا تحسن استخدام الأطراف وتوجيهها جيدًا، وربما يكون الفاعلين الذين تستخدمهم أكثر من ذلك، وهذا حقيقي بالفعل، والنتيجة واحدة في النهاية، فكلاهما وغيرهما يخدم بأفعاله على أرض الواقع المخططات الأمريكية بالمنطقة، والفاعِلَيْن هما تنظيم الدولة وجماعة فتح الله كولن.
وإن كان الأقرب هو الثاني، فهو الذي يملك الألوف من الخلايا النائمة في مؤسسات الدولة التركية، وإن كانت الماكينة الإعلامية العالمية ربما تحاول خلط أوراق الفاعل للتمويه والتغطية والتعمية، كما هو معتاد دائما.
الغرض أنه في النهاية سوف يغلب منطق الواقع السياسي والمصالح المشتركة، ولا تتأثر بذلك العلاقات التركية الروسية، فإن مصالحهما المشتركة أكبر بكثير من الوقوف عند هذه الواقعة، ولكن نؤكد على الأقل في الوقت الحالي.
خلاصة تركية
يتضح جليًا صعوبة الموقف التركي، الذي يبدو في العالم السني كأنه الوحيد الذي يملك استراتيجية ورؤية تجاوز حدوده السياسية لتصل إلى أطراف بعيدة من العالم الإسلامي، الذي يكاد يقف وحيدًا كلاعب منفرد أمام جملة من اللاعبين من الذئاب والثعالب يلتقي مع بعضهم في جملة من المصالح الضيقة وآخر أضيق، ويحاول جاهدًا الاستفادة من المشترك، والكل يتحد ضده في الخفاء، والكل يريد أكله، ولا أحد أصلاً يريده، فهو الحاضر البغيض، لا جرم فهو في نظر الجميع يمثل حاضرة الإسلام السياسي السني، ويحمل على عاتقه إرث الخلافة الإسلامية، التي لا يفتأ عن إعلان الطموح إليها، وأفعاله على أرض الواقع يمكن ترجمتها في هذا السياق، حتى وإن بدا الأمر أملاً بعيدًا، حتى وإن بدا لكثيرين خلاف ذلك، فإن غدًا لناظره قريب، والأيام حبلى بملاحم تأتي، والله المستعان.