بضعة أيام مرت على ذكرى مولدي 20 من ديسمبر سنة 2016 بالتقويم الميلادي و1437 بالتقويم الهجري الذي لم يكثرت له أحد منذ زمن طويل، شهر 12 لا يتبعه 13 أو 14 كما في عالم الرياضيات، فهو المالانهاية في سنين أعمارنا هذه، هو المحطة الأخيرة، التجربة الأخيرة، الفرح والحزن الأخير، كسرت مبادئ الرياضيات من أجل أعمارنا التي تلطخت بكل ما يخطر في ذهنك، ففي كل عام يمر علينا يوم نسميه عيد ميلادنا وفي كل مرة يأتي هذا اليوم يصبح عمرنا برقم أكثر مرتبة مما كنا عليه.
ومهما تظاهرت بالفرح إن هنأني الآخرون وقدموا لي الهدايا أو أقاموا لي حفلاً، إلا أنني أعترف بأنه ينتابني في داخلي نوع من الحزن لأنني أصبحت أكبر مما كنت عليه، لذلك كان من البديهي أن أصاب بالاكتئاب خلال هذه الفترة.
كلما كبرت كلما اقتربت من النهاية، فهو أمر حتمي لا يستطيع أي كان أن يمنع نفسه من التفكير بهذه الطريقة، متى ستسجل خاتمة مسيرتك وبم ستختمها، إن سعادتنا التي نتظاهر بها خطأ كبير راجع من أننا نقيس عمرنا بقياسات كلاسيكية لا تتعدى أكثر من تسطير الأرقام وعدها، لهذا كان من الطبيعي أن أحزن وأقلق لأن رقم عمري أصبح أكبر وهذا بالتأكيد يعني الاقتراب من الاكتمال.
كنت أفضل العزلة لأراجع حساباتي عما قدمت وما أخرت وأختنق اشتياقًا لأيام ولت لن تعود بل أصبحت دفينة الماضي وذكريات مثل السكين تنخر داخلي في كل حين، نعم.. أنا اليوم ازددت عمرًا لكن ما كان يخيفني فعلاً هو أن تكون أيامي هذه متشابهة مع السنوات الخوالي.
لكن السنة الفارطة تدهورت حالتي الصحية نوعًا ما فكنت كمن بلغ الخمسين من عمره، فهذه السنة تحديدًا كانت من أشد وأصعب وأكثر السنين تأثيرًا على نفسيتي وشخصيتي وتفاعلي مع المجتمع الذي أمكث فيه، والتي كادت تقتلني ثم أحيتني بقوة كبيرة كجهاز إنعاش القلب لمريض فقد الحياة خلال عدة ثواني، كانت من أسهل الاختبارات وأصعبها نجاحًا.
هذا العمر الذي عندما ذكر أمامي في صغري ظننت حينها أنني وقتها سأكون مع زوج وأولاد، تفكير أحمق لطفل صغير لكنني سأدخلها بكل ما أوتيت من قوة بكل ما بنيت من انكسارات وبكل ما رسمت من خيال باطل لا مكان له في هذا الواقع أبدًا، لكني تعلمت الكثير، تعلمت أن لا أحد سيدوم لك إن فنيت يومًا وأصبحت طريح الفراش عالة على أحدهم، تعلمت أيضًا أن العمر بما كسبته من علم ومعرفة وتجارب.
تعلمت أنا ما نفقده ونحن في أمس الحاجة إليه سيأتينا يومًا بعد أن تتغير الأمنيات وبعد أن ينطفئ شغف الانتظار، كنت أعلم جيدًا معنى أن تنتظر شيئًا أو شخصًا، أن تظل طويلاً في غرفة الانتظار تعد الثواني والدقائق لتكتشف بعد حين أنك تهدر عمرك سدى.
اكتشفت أنني لن أعيش لحظة جميلة دون مقابل وأن الحياة لن تهبني كل هذه المشاعر دون أن تترك غصة في حلقي، دون أن تلوي ذراعي بمسافة بعيدة أو غياب محزن، وأعرف أيضًا أنها ليست بذاك الجانب الوردي الذي اعتقدناه وأن المصاعب تجعل مني إنسانًا عصيًا على الانكسار وأن الله يختبر قدرتي على التحمل والصبر، وأعرف أنني أعيش بقلب هش غالبًا ما يغفر الزلات لكن هذا لا يزيد مكانتنا في عين الآخر ربما كل موقف حب أو كرم أو تضحية هو محض إشباع لذاوتنا، فخيارتنا المتاحة إما أنانية جدًا أو سيئة للغاية.
كنت أعتقد أيضًا أنني سأعاني مجددًا إذا أحببت أحدًا، كنت أدري جيدًا لذلك لم أقترب لأنني خشيت الهجران وحاولت ألا امتلك شيئًا كي لا تؤلمني الخسائر، لم أقترب كثيرًا لأنني كنت أتفادى ذلك الشعور بالتعلق.
لا أنكر أن تلك المصاعب التي عايشتها كان لها نوعًا ما فضل عليّ، فهي التي جعلتني أستفيق من كل شيء حولي ومن كل شيء يضعفني وينال مني، كم من صفعة لم توقظني استحقت الثانية والثالثة، لأقوى مجددًا، لكي أتجنب التصنع والادعاء أنني بخير.
الآن عليّ أن أكون قوية رغم الأشياء التي تحثني على البكاء، لهذا كنت أتجنب كل شيء من حولي، من يدري ربما إذا قرأت سأصادف شيئًا يشبهني حد الألم، أن تكون تلك الكلمات ذاكرة إضافية تندمج مع ذاكراتي لتنجب لها الماضي كأنه واقع يمر من أمامي من جديد.
لم أكن أعلم أن كل يوم يمر من عمري لن يعود حينها، لم أعلم أن الأيام الجميلة لن تعود وكل الصور الرائعة لن تتكرر، لم يكن لي وقت للتفكير بهذه الطريقة لأن آمالي كانت تكويني، كنت فقط أتظاهر بأنني بخير دائمًا مهما عصفت بي الحياة، ربما كنت أخشى شفقة الآخرين عليّ لهذا غالبا ما كنت أتظاهر بالنوم حين تفتح باب الغرفة عليّ وأتحاشى المجالس العائلية لكي لا يقتحم أحدهم خلوتي وينتشلني من عزلتي، هذا هو طبعي منذ صرختي الأولى في هذه الحياة أنني كنت ولا زلت إنسانة غير اجتماعية لا تحب الاختلاط بالناس ولا الاقتراب منهم.
لطالما حاولت الهروب من كل شيء، لطالما حاولت أن أغلق هاتفي لعدة أيام، لطالما حاولت عدم الرد والرؤية والسماع حتى، لطالما حاولت المضي وفقط المضي، لطالما حاولت أن أكتب فقط لنفسي، والعزلة بالمعنى الآخر، لكنني لم أستطع دائمًا كان هناك ما هو أقوى ما هو أقرب للقلب بالمعنى الأصح، لطالما تعلمت وتألمت وتأقلمت حتى بالنهاية ذهبت بعدها بلا شيء.. فارغة.
لطالما حاولت أن ألملم فتاتي وأذهب حيث شئت إلى لا مكان، لكنني كنت دائمًا أطلب المساعدة وأفشل المضي بنفسي، كنت ولا زلت من أصحاب اللحظات المؤقتة، أصحاب الأيام السريعة والذكريات القوية تلك الأخيرة هي فقط ما تبقى وحدها كغريب ببلاد الغربة.
استنتجت بعدها أن كل المشاكل التي نقع فيها ما هي إلا درس نستوعب منه مفهومي العيش والتعايش، نخسر من ظنناهم أصدقاء لندرك قيمة الأوفياء من حولنا، نخسر الفرص الثمينة لنفهم كم هي الفرص شحيحة فنحرص بعدها ألا نجعل الفرص تنسل من أيدينا، نفقد الأشياء التي اعتدناها لنعلم أنه لا شيء يجيء ولا يرحل، نسلك الطرق الصعبة لنفهم أن الصعوبة ليست عائقًا للاستمرار.
النتيجة المعاكسة من المواجهات السيئة في حياتنا تبدو أروع مما نتوقع، من الذي قال لنا لا داع لأن نفهم الحياة؟ بل علينا أن نفهم ما تؤول إليه مساوئ الأمور من جمال.
ختامًا أقول كل عام وكل محب للحياة وكل ساعٍ لتحقيق ذاته وكل مسلم مسالم غيور على وطنه ودينه بألف خير.