لما بلغ الانقسام السياسي الليبي عام 2014 ذروته وانشطرت المؤسسات الليبية بين حكومتين وبرلمانين وجيشين وبنكين مركزيين، تساءل المتابعون عن مآل هذا الانقسام الّذي بلغ حدًا لا يطاق وتساءلوا خاصة عن شكل المخرج من هذا المأزق شديد التعقيد، في تلك الأثناء كان تنظيم الدّولة يتمدد كسرطان خبيث في جسد ليبيا المنهك والفاقد لمقومات الدفاع الذاتي فيستحوذ على سرت وينشئ الجيوب والخلايا في بني وليد وطرابلس وبنغازي وصبراتة وأماكن كثيرة غيرها مستفيدًا من الفوضى التي غطت بقاعًا كثيرة.
كان الاتفاق السياسي الموقع في ديسمبر 2015 في الصخيرات المغربية برعاية أممية بعد زهاء سنة من الحوارات والمشاورات يتوفر على إطار كفيل بطي صفحة الخلاف المستحكم بين الفرقاء، فالشخصيات الجدلية في المشهد الليبي ستغيب عن مواقع القرار عملاً ببنود هذا الاتفاق الذي أتى فيما أتى به بخارطة طريق لكل من الفرقاء الليبيين فيها موقع ونصيب، كما نص هذا الاتفاق على نقاط بالغة الأهمية في سياق علاج الوضع الاجتماعي والاقتصادي والأمني، في هذه الجزئية بالذات قضت فلسفة الاتفاق السياسي بتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية من خلال دمج الكتائب والتنظيمات التي شاركت في الثورة وأسقطت النظام من خلال لجنة الترتيبات الأمنية التي أنشئت للغرض.
الآن وبعد زهاء سنة من توقيع الاتفاق السياسي تبددت الهالة الإيجابية التي صاحبت توقيعه وكذلك تلك التي رافقت دخول المجلس الرئاسي العاصمة طرابلس في الـ30 من مارس الماضي، في ذلك اليوم المشهود نزل سعر الدولار الأمريكي مقابل الدينار الليبي بشكل ملحوظ مترجمًا حالة التفاؤل التي عمت الأوساط الليبية بدخول المجلس الرئاسي الذي كان يمثّل بما له من شرعية دولية وبما جمعه من معاني الوفاق والوحدة بارقة أمل لليبيين، وهنا إذ نقول إن المعاني الإيجابية التي جاء بها المجلس الرئاسي قد تبددت فليس الأمر تحاملاً أو قسوة في التقييم بقدر ما هو تقدير يعتمد مقارنة بين ما كان عليه الوضع وما أصبح بعد سنة من دخول المجلس الرئاسي إلى العاصمة.
تسبب إغلاق الآبار والمواني النفطية وخاصة في منطقة الهلال النفطي منذ إعلان راس لانوف وإلى حدود اتفاق المجلس الرئاسي مع آمر حرس المنشآت النفطية الصيف الماضي في خسائر اقتصادية ومالية جسيمة تُرجمت من خلال التراجع الكبير للدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية، مما عقّد وضعية المؤسسات البنكية التي بدأت تفقد ثقة الليبيين، وهو ما أدى إلى حركة سحب كبيرة ومتواصلة للأموال المودعة مما أحدث شحًا فادحًا في السيولة المالية لدى البنوك فقدت بعده قدرتها على تغطية طلب المواطنين من النقد المحلي.
أما ترجمة ذلك على أرض الواقع فكان طوابير طويلة وازدحامًا شديدًا جدًا لعموم المواطنين وخاصة لموظفي القطاع العام منهم أمام البنوك واضطر بعضهم أحيانًا كثيرة إلى قضاء الجزء الأخير من الليل أمام البنوك طمعًا في الحصول على مبلغ زهيد لا يتجاوز المئتي دينار ليبي هو أقصى ما يمكن لكل صاحب حساب لدى المصارف الليبية الحصول عليه يوميًا وهو وضع يضطر الكثيرين للوقوف في طوابير الانتظار الطويلة أكثر مرة في الأسبوع الواحد، طبعًا ورث المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق هذا الوضع عن سابقيه، وليس بأي حال من الأحوال مسؤولاً عن بداياته.
المواطن الليبي مازال يجد نفسه سنة بعد توقيع الاتفاق السياسي أمام نفس هذه الوضعية الحرجة التي تطورت بشكل دراماتيكي في بعض الأحيان
لكن المواطن الليبي ما زال يجد نفسه سنة بعد توقيع الاتفاق السياسي أمام نفس هذه الوضعية الحرجة التي تطورت بشكل دراماتيكي في بعض الأحيان بتحول طوابير الانتظار هذه في بعض منها إلى مسرح لأعمال عنف بلغت حدّ القتل، وهو ما تكرر في حوادث مؤسفة إثر شجار إما بين المنتظرين في الصفوف أو بين بعضهم وحراس المصارف.
قلنا إن دخول المجلس الرئاسي العاصمة طرابلس كان مشوبًا بكثير من التفاؤل الذي صاحبه انخفاض قيمة الدولار الأمريكي واليورو بشكل ملحوظ أمام الدينار الليبي غير أن هذا التعافي في قيمة الدينار لم يكن إلا مؤقتًا، إذ لم يطرأ على المؤشرات الاقتصادية والمالية أي تغيير رغم ما قام به المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق من مساعٍ حثيثة إما لدى الدول الداعمة للاتفاق السياسي، أو على مستوى مصرف ليبيا المركزي الّذي يبدو أن مديره لم يكن متعاونًا كما ينبغي مع سلطة المجلس الرئاسي.
كما أن إعادة فتح المواني النفطية بعد الاتفاق مع آمر حرس المنشآت النفطية في الصيف الماضي لم يأت بأي جديد، إذ مرت قيمة الدولار من نحو 3 دينار ليبي عند دخول المجلس الرئاسي إلى ما يقارب 7 دينار في غضون 9 أشهر.
تدهور الدينار الليبي وعودته في ظل وضع سياسي غير مستقر
وقد تسبب هذا التدهور السريع في قيمة العملة الليبية في حالة اختناق مادية للكثير من الليبيين الذين يسافرون إلى الخارج بانتظام طلبًا للتداوي أو للدراسة، ويضاف إلى هذا الوضع الاقتصادي الصعب الانقطاع المتكرر للكهرباء والّذي لم تنجح حكومة الوفاق برغم ما أعلنت عنه من مساعٍ ورغم تغييرها لمجس إدارة شركة الكهرباء في القضاء عليه أو في الحد منه، كما يضاف إليه ترهل وضعف البنية الخدمية والإضرابات المتكررة في مصالح أمنية أو لوجستية حساسة كما حدث مؤخرًا في مطاري معيتيقة ومصراتة وهي كلها مؤشرات على أن سلطة المجلس الرئاسي شكلية وقدرته على معالجة الأوضاع الخدمية والاجتماعية دون المأمول بكثير.
تسبب هذا التدهور السريع في قيمة العملة الليبية في حالة اختناق مادية للكثير من الليبيين الذين يسافرون إلى الخارج بانتظام طلبًا للتداوي أو للدراسة
أحدث دخول المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني إلى العاصمة طرابلس انقسامًا بين الكتائب المشكلة لتحالف فجر ليبيا بين مؤيدين ورافضين، ورغم أن هذا الانقسام لم يتحوّل إلى حرب مفتوحة بين الطرفين فالاشتباكات التي ما فتئت تشهدها العاصمة طرابلس بين هذا الطرف أو ذاك تنبئ بتدحرج الوضع شيئًا فشيء نحو مربع من العنف الشامل، كما أن الأطراف الداعمة للاتفاق السياسي لم تنجح في الانفتاح على أصدقاء الأمس من أعضاء المؤتمر الوطني من الراسخين في رفض الاتفاق بما يقوي جبهة دعاة الوفاق ويحصّنها، معطى أفقد المجلس الرئاسي طيفًا واسعًا من المؤيدين الموضوعيين للاتفاق السياسي الذين ظلوا على هامش الفعل السياسي رغم ظهورهم على سطح الأحداث من حين لآخر، وليس أدل على ذلك من سيطرة الحرس الرئاسي على القصور الرئاسية وتسليمها إلى حكومة الإنقاذ الوطني والمؤتمر الوطني العام إثر خلاف مع المجلس الرئاسي يعزى إلى عدم دفع رواتب القوات التي تؤمن هذه المقرات وفضلاً عن كل ذلك فإنه من المعلوم أن جزءًا من التشكيلات العسكرية التي تدعم حكومة الوفاق إنما تدعمها من منطلق مصلحي ومادي بحت.
وليس دعم هذه التشكيلات لحكومة الوفاق وللاتفاق السياسي إلا بحساب ما يدره عليهم من حظوة وحصانة، والجدير بالذكر في هذا السياق أن حكومة الوفاق لم تنجح البتة في كبح جماح هذه التشكيلات إذا عنّ لمنتسبيها ارتكاب انتهاكات أو تجاوزات أو جرائم ولا في إيقاف نزيف الاختطافات التي استهدفت رموزًا سياسية أو دينية.
كانت الحرب على الإرهاب إحدى العناوين الكبرى التي أتى بها الاتفاق السياسي ويحسب للمجلس الرئاسي نجاحه في جمع جهود الكتائب المشاركة في حرب التحرير في بوتقة واحدة وفي خطة مشتركة بهدف القضاء على تنظيم الدولة وتحرير مدينة سرت، وقد تحقق هذا الهدف بالفعل لكن بعد دخول الطيران الأمريكي على الخط بأكثر من 450 غارة وبعد أن فقدت قوات البنيان المرصوص أكثر من 600 شهيد ورغم مطالبات الكتائب المرابطة في الجبهات بالمزيد من العناية بالجرحى والمصابين وبتوفير الذخيرة والأسلحة بما يحد من الخسائر البشرية، فإن جهود المجلس الرئاسي على هذا المستوى ظلت بدورها دون المأمول بكثير.
بيد أن هذا التقصير يبدو من الناحية الاستراتيجية أقل أهمية إذا قارناه بإخفاق المجلس الرئاسي عن تحقيق اختراق في معسكري رافضي الاتفاق في المعسكر الشرقي، فالرئاسي لا يزال عاجزًا عن إخضاع رافضي الوفاق هناك، وإذا كان أحد أهداف الاتفاق السياسي هو توحيد المؤسسات وإيقاف الاقتتال (أساسًا إيقاف مشاريع خليفة حفتر التوسعية والانقلابية) فقد فشل على الأقل في هذا الأمر كما فشل كذلك في التصدي لمحاولات ابتزاز أعضائه من المؤيدين لحفتر ومن الرافضين للاتفاق الّذي هم بموجبه (ويالا المفارقة) أعضاء في هذا المجلس، وهنا نتحدث أساسًا عن كل من علي القطراني وعمر الأسود ويضاف إلى كل هذا نجاح المعسكر الرافض للاتفاق وللثورة في المعسكر الشرقي في عزل المجلس الرئاسي عن جانب من عمقه الشعبي في المنطقة الغربية، حيث سبق لرئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني في تصريحه لموقع ليبيا هيرالد أن وضع خليفة حفتر والصادق الغرياني مفتي الديار الليبية في كفة واحدة بكونهما من رافضي الاتفاق دون أن ينتبه إلى ما للغرياني من نفوذ ومن حظوة ومكانة دينية وسياسية.
أما هناك حيث المنطقة الشرقية فيتمدّد خليفة حفتر وتتضخم لديه الأنا العسكرية بشكل سريالي ويعطي اللواء المتقاعد لنفسه الترقية تلو الأخرى، حيث أضحى منذ أكثر من سنة فريقًا قبل أن ينال مؤخرًا منصب المشير، كما يجسر حفتر على السيطرة على المواني النفطية بقوة السلاح وبسطوة الأموال ضاربًا عرض الحائط بحظر السلاح المفروض على ليبيا وبسلطة المجلس الرئاسي وبالاتفاق السياسي نفسه، ويبدو أن للرجل أكثر من سبب لفعل ذلك على الأقل إذا صوبنا الأنظار نحو الطائرات والخبراء الّذين تضعهم دول داعمة للاتفاق السياسي على ذمته في قاعدة بنينا ليدك بها خصومه وهو ما لا يقصر حفتر في القيام به مطلقًا وذلك في حد ذاته دليل إخفاق للاتفاق السياسي.
في الأحوال الطبيعية تمنح الحكومات مهلة تسعين يومًا للحكم على صواب خياراتها وسلامة نهجها، وبما أن حكومة الوفاق الوطني في ليبيا جاءت في ظروف غير طبيعية لا تزال قائمة إلى الآن من المنطقي إعطائها ما يزيد عن هذه الشهور الثلاث حتى تحقق ما هو منوط بعهدتها، أما وقد تجاوزت حكومة الوفاق تسعة أشهر دون تحقيق ما كان منتظرًا على الصّعد السياسية والأمنية والاقتصادية فإنه بات لزامًا التفكير في بدائل أخرى تفك حالة الجمود في المشهد الليبي ولو كان ذلك بديلاً للاتفاق السياسي نفسه الذي أصابته حالة من العطالة إما بسبب تلكؤ مجلس النواب وتعمّده تعطيل إنفاذ استحقاقات هذا الاتفاق أو بسبب إصرار أعضاء المؤتمر الوطني العام على رفضهم للاتفاق.
في هذا السياق تبدو فكرة إجراء انتخابات رئاسية يصبح لليبيا بموجبها رئيس يكون الجامع والموحّد عبر صلاحيات موسّعة نسبيًا في إطار مرحلة انتقالية تدوم سنتين ويعمل خلالها رئيس الدولة على توحيد المؤسسات وتنظيم وهيكلة المؤسسة الأمنية وعلى إعداد البلاد لانتخابات تشريعية في نهايتها، لها ما يبررها.
وفي هذا الإطار تطرح أسماء كثيرة من الممكن أن تتنافس على منصب الرئيس منها رئيس تحالف القوى الوطنية محمود جبريل الّذي كان عضوًا في المجلس الانتقالي الليبي، إذ يمكن للرجل بما له من شعبية ومن اتساع في الخبرة والعلاقات أن يكون أحد المتنافسين الجديين على هذا المنصب، كما نعُدُّ في نفس السياق أيضًا عارف النايض سفير ليبيا السابق لدى دولة الإمارات الّذي غادر منصبه كسفير لليبيا لدى دولة الإمارات منذ أشهر قليلة ويحتفظ الرجل بعلاقات قوية في الأوساط الخليجية والدولية كما يحسب له الدور الّذي قام به في أثناء ثورة فبراير من خلال دعم المظاهرات التي كانت تخرج في طرابلس ضد القذافي.
كما نجد من بين الأسماء التي من الممكن أن تتبوأ هذا الدور المؤرخ والناشط السياسي علي الصلابي ويحسب للصلابي علاقاته المتينة والعميقة مع كل الطيف القبلي والسياسي في ليبيا وقيادته للمصالحة مع نظام القذافي قبل الثورة وجهوده في تحقيقها بعد سقوط نظامه، ويحسب للصلابي أنه لم يسقط طول السنوات التي تلت ثورة فبراير في الاستقطابات بين هذا الطرف أو ذاك وظلت تصريحات الرجل تتوفر على منسوب كبير من الهدوء والعقلانية على عكس جبريل والنايض اللّذان سقطا في استعداء طرف على حساب آخر.
تبدو فكرة إجراء انتخابات رئاسية يصبح لليبيا بموجبها رئيس يكون الجامع والموحّد عبر صلاحيات موسّعة نسبيًا في إطار مرحلة انتقالية تدوم سنتين
لعل من المبكر الحديث عن مرشّحين محتملين لانتخابات رئاسية مفترضة في ليبيا رغم أن تعقّد المشهد بشكل جعل الاتفاق السياسي غير قادر الآن على الأقل على حلحلة المشهد ومعالجة الأمر، حفّز التفكير باتجاه خيارات وبدائل أخرى، وبالتأكيد فإن هذه الفكرة لو أصبحت محل إجماع فلا بد من نقاش كبير ومفصّل عن شكلها وشكل المرحلة الانتقالية التي ستترتب عنها وعلاقة هذا المسار لو تم إقراره بالاتفاق السياسي هل سيكون مثلاً على أنقاض مخرجات الصخيرات أم سيسير بموازاتها ويسندها ويبدد من أمامها العراقيل، وبكل الأحوال لا يبدو الفرقاء في ليبيا في سعة من الأمر ومن الوقت، فالمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية جميعها سلبية ولا يبدو الليبيون مستعدين لتبديد المزيد من الوقت في دفع خيارات عقيمة.