يفتح النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي جبهة جديدة ضمن سلسلة جبهات المواجهة التي فُتحت منذ توليه مقاليد الحكم، بما يساعده على الهيمنة على مفاصل الدولة كافة، ولا سيما إن كانت هذه الجبهة الجديدة ضد أحد أركان تحالف السلطة الحالية.
حالة من الجدل سيطرت على المنظومة القضائية المصرية، جراء مشروع تعديل قانون الهيئات القضائية الذي ناقشه البرلمان مؤخرًا، وتم إحالته لمؤسسات القضاء للبت فيه، حيث اعتبره البعض مساسًا بـ “استقلالية القضاء”، فضلاً عما يشتمل عليه من محاولة للسيطرة الكاملة على أذرع القضاء الأربعة (محكمة النقض ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة وهيئة النيابة الإدارية) من خلال التدخل في تعيين رؤساء هذه الهيئات والتدخل في اختيار أعضائها، وهو نقض لما يسمى بالتحالف الهادئ بين القضاء والسلطة التنفيذية الحالية.
طعن في استقلالية القضاء
البداية تعود إلى الاقتراح المقدم من النائب أحمد حلمي الشريف، أحد أعضاء جبهة “دعم مصر” البرلمانية الداعمة لنظام السيسي، بشأن مشروع قانون لتعديل المادة (44) من قانون السلطة القضائية، والخاصة بطريقة تعيين رؤساء الهيئات القضائية الرئيسية، وهي محكمة النقض ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة وهيئة النيابة الإدارية، بما يعيد النظر في بعض بنود هذا القانون السابقة، وتعديل البعض الآخر.
القانون يتلخص في إسناد سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية الأربعة المذكورة، إلى رئيس الجمهورية الذي يختار رئيس كل هيئة من ضمن 3 قضاة ترشحهم الهيئة، وهو ما يتضمن نسفًا لكل ما كان يجري في السابق، حيث كانت الجمعية العمومية للهيئة أو المجلس الأعلى فيها، ترفع اسم أقدم الأعضاء بها إلى رئيس الجمهورية، للتصديق عليها، وبناءً عليه يصدر قرار جمهوري بالتعيين دون تدخل من رئيس الجمهورية بالاختيار أو الاستبعاد.
القانون بصيغته المقدمة يسمح لرئيس الدولة بتجاوز مبدأ الأقدمية المعمول به منذ القدم، ما يعد سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ القضاء المصري، فمن حق الرئيس هنا إذا ما تقدمت أي من الهيئات القضائية الأربع ببعض الأسماء المرشحة أن يتجاوز أقدمهم سنًا ويختار دون معايير واضحة من بين الأسماء الأخرى، ما يشكل تهديدًا لنفوذ السلطة القضائية داخل النظام الحاكم، إذ إن اختيار رؤساء أكبر هيئات قضائية في الدولة يصبح في يد الرئيس، وهو ما يجعل خيوط أرفع التنظيمات القضائية في يد السيسي بلا توازن.
القانون يتلخص في إسناد سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية الأربع المذكورة، إلى رئيس الجمهورية الذي يختار رئيس كل هيئة من ضمن 3 قضاة ترشحهم الهيئة، وهو ما يتضمن نسفًا لكل ما كان يجري في السابق
النائب المقدم لهذا المشروع أشار خلال تقديمه لهذا المقترح، أن هذه التعديلات لا تمس “استقلال القضاء”، وتتوافق مع المادة رقم (186) من الدستور، والتي تركت للقانون شروط وإجراءات تعيين القضاة وإعارتهم وتقاعدهم، مطمئنًا القضاة بأن التعديلات لا تجور على حقهم، لأن تعيين رؤساء الهيئات القضائية غير منظم حاليًا، والسكوت عليها بغير قانون يعد تعطيلاً لأحكام الدستور، على حد قوله.
الشريف برر تقديم مقترحه بأن المرض قد يحول في عدم قدرة القاضي على أداء عمله بعد وصوله إلى سن السبعين، ما يقتضي تعديل القانون القائم، دون تجاوز مبدأ الأقدمية بصفة مطلقة في الاختيار، إذ نصت التعديلات على تعيين رئيس الهيئة القضائية من خلال ثلاثة ترشحهم الهيئة القضائية، ويتقيد رئيس الجمهورية بالاختيار من بينهم.
رئيس نادي قضاة مصر: التعديل المقترح يمثل تغولًا واضحًا على استقلالية القضاء لمساسه بالثوابت القضائية المستقرة، وﻻ يحقق الغاية من التشريع باختيار الأجدر منهم لهذا المنصب
وفي أول رد فعل للقضاة حيال هذا المشروع، أصدر نادي القضاة بيانًا، أكد فيه على أن مشروع القانون المقدم بمجلس النواب يمثل اعتداءً على استقلال القضاء ويمس ثوابت قضائية مستقرًا عليها، لافتًا إلى أن طريقة تعيين رؤساء الهيئات القضائية هي من صميم استقلال القضاء.
من جانبه أشار المستشار محمد عبد المحسن منصور رئيس نادي القضاة ونائب رئيس محكمة النقض، أن التعديل المقترح الذي يجعل اختيار رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلى بمعرفة رئيس الجمهورية من بين ثلاثة مرشحين من نواب رئيس محكمة النقض يرشحهم مجلس القضاء الأعلى، يمثل تغولاً واضحًا على استقلالية القضاء لمساسه بالثوابت القضائية المستقرة، وﻻ يحقق الغاية من التشريع باختيار الأجدر منهم لهذا المنصب، الأمر الذي ﻻ يتأتى إﻻ لجمعيتهم العمومية، مشددًا في ذات الوقت على أن استقلال القضاء خط أحمر ﻻ يجوز المساس به.
وزير العدل ورئيس نادي قضاة مصر
مخالفة للدستور
استنكر عدد من القضاة هذه التعديلات، واصفين إياها بأنها مخالفة صريحة للدستور، وتهديد واضح لمبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما أشار إليه المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق، والذي أكد في تصريحات صحفية له أن مشروع القانون المقدم، بخصوص اختيار رؤساء الهيئات القضائية، مخالف للدستور والقوانين المنظمة للهيئات القضائية واستقلال القضاء.
وأضاف الجمل في تصريحاته أنه طبقًا لأحكام الدستور، فإن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية، مشيرًا إلى أن الدستور نظم أعمال السلطة القضائية وتعيين رؤساء الهيئات القضائية على أساس قائم، بحيث يتم تعيين الأقدم الأكثر جدارة وكفاءة، وتابع: “ليس هناك ما يعطى الحق لأي من السلطة التنفيذية والتشريعية بالتدخل في أعمال السلطة القضائية ولا تمس استقلالها بأي شكل من الأشكال”.
نقض تحالف الطوائف: الهيمنة على مفاصل الدولة
المشروع المقدم من نائب “دعم مصر” الذي يخول للسيسي السيطرة على الهيئات القضائية المصرية عبر تعيين رؤساء هذه الهيئات والتدخل في اختيار أعضائها، ليس الخطوة الأولى التي ينتهجها الرئيس المصري نحو إحكام الهيمنة الكاملة على مفاصل الدولة، فبعيدًا عن إحكام القوات المسلحة – التي يرأس السيسي القيادة العامة لها – قبضتها على معظم موارد الدولة حاليًا، وسحبها البساط من تحت مؤسسات الدولة المدنية بقطاعيها العام والخاص، فقد سبقه العديد من القرارات الجدلية، والتي تصب في نهاية الأمر نحو تكريس الهيمنة على السلطات المتحالفة مع النظام الحالي.
ففي يوليو 2015 أصدر السيسي قرارا بقانون رقم ٨٩ لسنة ٢٠١٥ يخول له الحق في إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، حيث نص القرار ، الذي نشر في الجريدة الرسمية ، على أنه : يجوز لرئيس الجمهورية إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم في الحالات الآتية : إذا قامت بشأنه دلائل جدية على ما يمس أمن الدولة وسلامتها، إذا فقد الثقة والاعتبار، إذا أخل بواجبات وظيفته بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة، إذا فقد أحد شروط الصلاحية للمنصب الذي يشغله لغير الأسباب الصحية.
ويأتي هذا القرار ردا على ما أثاره المستشار هشام جنينه الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، والذي كشف تجاوز حجم الفساد في مصر لحاجز 600 مليار جنيه (68 مليار دولار حينها)، ما دفع السيسي إلى محاولة التخلص منه بأي طريقة، لذا جاء هذا القرار الذي يخالف الدستور لاسيما في نصوص المادة رقم 216 التي تنص على «يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابى قانون، يحدد اختصاصاتها، ونظام عملها، وضمانات استقلالها، والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال، ويعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفي أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويُحظر عليهم ما يُحظر على الوزراء».
وفي أكتوبر الماضي استيقظ المصريون على خبر منشور يفيد بإنشاء “مجلس أعلى للاستثمار”، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تكون قراراته ملزمة لجميع الوزارات والهيئات العامة، بزعم مساعي جذب الاستثمارات.
القرار الذي نشرته الجريدة الرسمية، أوضح إلى أن المجلس سيشمل في عضويته، رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي ووزراء الدفاع والداخلية والمالية والاستثمار والتجارة والعدل ورئيس جهاز المخابرات العامة، ويجتمع بدعوة من رئيسه كل شهرين على الأقل وتصدر قراراته بأغلبية آراء الحاضرين مع ترجيح جانب الرئيس في حالة تساوي الأصوات.
اختصاصات المجلس تغولت بشكل واضح على سلطات الوزير والهيئة العامة للاستثمار والمخول لها مناقشة كافة القرارات المتعلقة بمنظومة الاستثمار في مصر، داخليًا وخارجيًا، حيث حدد القرار اختصاصات المجلس الجديد ومنها: متابعة تنفيذ خطط الاستثمار وتطور العمل بالمشروعات الاقتصادية الكبرى ومشروعات المشاركة مع القطاع الخاص، إلى جانب وضع الإطار العام للإصلاح التشريعي والإداري لبيئة الاستثمار ومتابعة آليات تسوية منازعات الاستثمار وقضايا التحكيم الدولي.
وبذلك يحق للرئيس اختيار من يقود منظومة الإعلام في مصر، بما يسمح له السيطرة على أكثر النوافذ تأثيرًا في المجتمع المصري، ورغم الاعتراضات التي تقدمت بها نقابة الصحفيين حيال هذه المادة فلا أحد التفت إليها
ثم جاء قانون “التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام“، والذي تم إقراره مؤخرًا، تنفيذًا للنص الدستوري الذي طالب بإنشاء هيئات لتنظيم الإعلام: “المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام”، و”الهيئة الوطنية للصحافة”، و”الهيئة الوطنية للإعلام”، وهي هيئات تحتاج قوانين لإنشائها.
ووفقًا لنص القانون النهائي، وبحسب المادة (6) منه، تكون الأغلبية في المجالس الثلاث لغير الصحفيين والإعلاميين، يختارهم رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى أعضاء يختارهم مجلس النواب ومجلس الدولة، أما ممثلو الصحفيين والإعلاميين والجهات الأخرى، فمرَّر أعضاء المجلس المقترح الذي نص على أن تتم مضاعفة الأعداد المرشحة لعضوية المجلس، ويختار رئيس الجمهورية من بينهم.
وبذلك يحق للرئيس اختيار من يقود منظومة الإعلام في مصر، بما يسمح له السيطرة على أكثر النوافذ تأثيرًا في المجتمع المصري، ورغم الاعتراضات التي تقدمت بها نقابة الصحفيين حيال هذه المادة فلا أحد التفت إليها.
في أثناء مناقشة قانون الصحافة والإعلام بمجلس النواب
ضغوط متبادلة
منظومة القضاء واحدة من أبرز العناصر التي تشكل رباعي الدولة العميقة في مصر بجانب الجيشوالشرطة والإعلام، ومن ثم يصبح الحديث عن صدام مرتقب بينها وبين النظام الحاكم، أمرًا مستبعدًا، خاصة في ظل المكاسب التي حصل عليها القضاة بعد انقلاب الثالث من يوليو، والذي كان للقضاء دور بارز في مسألة التكريس لمرحلة ما بعد الإخوان من خلال مئات الأحكام والقرارات التي ساعدت بشكل كبير في تعضيد حكم السيسي.
ومن ثم يمكن القول إن المناوشات المتبادلة بين الجانبين هنا وهناك، تأتي من قبيل الضغوط التي يمارسها كل فصيل على الآخر، بغية الحصول على مكاسب أكثر، وهو ما أكد عليه مصدر قضائي بوزارة العدل، في تصريحه لـ”العربي الجديد” مرجحًا أن تكون الدائرة المحيطة بالسيسي هي المسؤولة عن هذا المشروع وأنها استخدمت النائب أحمد حلمي الشريف لتقديمه فقط، نظرًا للحساسية التي قد يسببها المشروع إذا تم تقديمه من قبل الحكومة، ملفتًا إلى أن وزير العدل لم يعلم بالمشروع إلاّ من خلال الصحف.
بينما لفت مصدر قضائي آخر إلى أن السبب وراء تقديم هذا المشروع حاليًا قد يكون رغبة السلطة في ممارسة مزيد من الضغط على القضاة، والتهديد بالنيل من استقلالهم، لا سيما أن الفترة المقبلة بين عامي 2017 و2019، ستشهد وصول عدد من القضاة “غير المرضي” عنهم من جميع أجهزة الدولة لرئاسة مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة تحديدًا، بحسب كلام المصدر.
السبب وراء تقديم هذا المشروع حاليًا قد يكون رغبة السلطة في ممارسة مزيد من الضغط على القضاة، والتهديد بالنيل من استقلالهم
جدير بالذكر أن منظومة القضاء في مصر انتفضت ضد قرار الرئيس الأسبق محمد مرسي، بعزل النائب العام الأسبق عبد المجيد محمود في 2013، فضلاً عن محاولة تخفيض سن تقاعد القضاة عبر قانون قدم لمجلس الشورى، ما اعتبروه حينها تدخلاً في أعمال القضاء، حيث عقدت أندية القضاة حينها جمعية عمومية لمعارضة هذا القرار، فهل ينتفض القضاة هذه المرة ضد التعديلات المقدمة على قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية، والذي يعد أكثر خطورة على استقلالية القضاء من تحديد سن التقاعد، كما أشارت بعض المصادر.
مما سبق يتضح أن الحملة الاستنكارية التي تبناها نادي قضاة مصر حيال مشروع التعديلات الجديدة في قانون الهيئات القضائية، ليس أكثر من فصل جديد من تفاعلات الصراع بين طوائف السلطة، لتحقيق مكاسب أكبر لكلا الطرفين – النظام والقضاء -، وبصرف النظر عن نتائج هذه التفاعلات، ومن الفائز فيها والخاسر، إلا أنه في النهاية من الصعب أن ينفك هذا النوع من التحالف بين النظام والقضاة.