في زيارة مفاجئة، توجه وفد مصري رفيع المستوى بطائرة خاصة إلى العاصمة السعودية الرياض، في جولة خاطفة تستغرق عدة ساعات، يلتقي خلالها عددًا من المسؤولين بالديوان الملكي السعودي، لبحث آخر المستجدات على الساحة العربية والشرق أوسطية، وسبل تقريب وجهات النظر حيال القضايا الخلافية كخطوة أولى نحو إذابة الجليد في العلاقات بين البلدين.
تأتي هذه الزيارة العابرة بعد أيام قليلة من الزيارة السرية للوفد السعودي الذي ضم أربعة أشخاص برئاسة المستشار بالديوان الملكي السعودي تركي بن عبد المحسن آل الشيخ للقاهرة الأحد الماضي، والتي كشف عنها عطل فني بالطائرة بحسب مصدر ملاحي بمطار القاهرة الدولي.
توتر في العلاقات
تعاني العلاقات السعودية المصرية في الآونة الأخيرة من موجات متلاطمة من المد والجذر، وتباين في وجهات النظر غير مسبوق في تاريخ البلدين، وهو ما انعكس بصورة واضحة على ثقل الدولتين في المنطقة، إذ فقد كلا الطرفين قدرته وتأثيره في الملفات الإقليمية ذات الاهتمام الدولي.
البداية تعود إلى الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في 3 من يوليو 2013، حين بادر العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بمد يد العون والمساعدة لمصر ما بعد الإخوان، حيث قدم حزمة من الدعم المادي واللوجسيتي والعيني للنظام المصري حينها، وبات أحد أبرز الدعائم الأساسية لتكريس دعائم هذه المرحلة، ومن ثم كانت هذه الفترة أزهى فترات دفء العلاقات بين البلدين، عززها تطابق وجهات النظر حيال الملف اليمني، وعدم التصادم في الملف السوري.
جاء التصويت المصري لصالح القرار الروسي في مجلس الأمن أكتوبر الماضي، ليزيد سماء العلاقات بين البلدين غيومًا وأعاصير، قابلها توقف الإمدادات النفطية السعودية لمصر، لتدخل العلاقات بين الرياض والقاهرة نفقًا مظلمًا من التراشق السياسي والإعلامي المتبادل
وبعد رحيل عبد الله وتولي الملك سلمان مقاليد الأمور، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة من التوتر، لا سيما بعد تغريد القاهرة منفردة بعيدة عن السرب السعودي، سواء في اليمن عبر التراجع قليلاً عن المشاركة في عاصفة الحزم بقيادة التحالف العربي الذي ترأسته الرياض، أو من خلال تأييد نظام بشار الأسد ومناهضة المعارضة الثورية، فضلاً عما أثير بشأن تزويد مصر لجيش الأسد بالعديد من الأسلحة، إضافة إلى التعاون المخابراتي والأمني بين القاهرة ودمشق، وهو ما كشفت عنه زيارة اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، أحد أهم أذرع الاستخبارات التابعة للنظام السوري، للقاهرة ولقائه ببعض القيادات المخابراتية المصرية.
ثم جاء التصويت المصري لصالح القرار الروسي في مجلس الأمن أكتوبر الماضي، مرورًا بالتقارب المصري الإيراني، ليزيد سماء العلاقات بين البلدين غيومًا وأعاصير، قابلها توقف الإمدادات النفطية السعودية لمصر، لتدخل العلاقات بين الرياض والقاهرة نفقًا مظلمًا من التراشق السياسي والإعلامي المتبادل، أضف إلى ذلك الجدل المثار بشأن جزيرتي تيران وصنافير، والذي زاد من تفاقم الأزمة بين الجانبين.
التقارب المصري الإيراني أحد أبرز أسباب التوتر بين القاهرة والرياض
القاهرة والرياض..خارج حلبة التأثير
الواقع السياسي المعاش، يؤكد أن الخلافات السعودية المصرية لعبت دورًا مؤثرًا في عزلة كلا البلدين عن ساحة الصراع، وسحب بساط التأثير الفعال في ملفات المنطقة إلى قوى أخرى، وكيانات جديدة.
فحين عزفت الرياض منفردة بعيدًا عن القاهرة، التي تمثل بعدًا استراتيجيًا هامًا لأمنها القومي ومحيطها الخليجي، وجدت نفسها وحيدة في خضم التكتلات الإقليمية، في ظل تراجع دور وتأثير الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأقوى لها خلال الآونة الأخيرة، والذي ساهم في تصعيدها لاعتلاء سدة المشهد خلال السنوات الماضية، ومن ثم بات الطريق ممهدًا لإيران للقيام بدورها، في ظل تقارب غير مسبوق في علاقاتها مع روسيا والصين.
في ظل فقدان القاهرة والرياض لتأثيرهما الإقليمي، وتراجع الدور الأمريكي، بات المجال مفتوحًا لإيران وتركيا وروسيا لملء هذا الفراغ، وهو ما تجسده أعلام الدول الحاضرة على موائد المفاوضات في الملف السوري وغيره
وفي المقابل، جاء عناد القاهرة ضد المملكة، وسعيها للبحث عن مصالحها عبر التقارب الروسي تارة، والصيني تارة أخرى، والأمريكي تارة ثالثة، ليفقدها الحصة الأكبر من الدعم المادي والسياسي، في ظل انشغالها بما تواجهه من أزمات سياسية وأمنية داخلية، مما تسبب في خروجها عن ساحة التأثير في المشهد.
ومن ثم وفي ظل فقدان القاهرة والرياض لتأثيرهما الإقليمي، وتراجع الدور الأمريكي، بات المجال مفتوحًا لإيران وتركيا وروسيا لملء هذا الفراغ، وهو ما تجسده أعلام الدول الحاضرة على موائد المفاوضات في الملف السوري وغيره، وبعدما كان التحالف المصري السعودي هو اللاعب الأول في المنطقة، بات خارج نطاق التأثير، مما قد يدفع البلدين إلى إعادة النظر من جديد للبحث عن موقع قدم قبل فوات الأوان، وهو ما عزز من مساعي التقارب والتخفيف من حدة التوتر عبر عدد من اللقاءات المتبادلة هنا وهناك.
مباحثات روسية تركية إيرانية بشأن الملف السوري في غياب القاهرة والرياض
فشل جهود الوساطة
بذلت العديد من الدول الخليجية جهودًا للوساطة بين القاهرة والرياض لتقريب وجهات النظر بينهما، في محاولة للم الشمل العربي، وهو كان آخرها زيارة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، للقاهرة في العاشر من نوفمبر الماضي، التقى خلالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مؤكدًا خلالها على أهمية مواصلة العمل على توحيد الصف العربي وتضامنه، والتيقظ من محاولات شق الصف بين الدول العربية الشقيقة، سعيًا لزعزعة الاستقرار.
وبعد زيارته إلى القاهرة، والتي حصل خلالها على تعهدات مصرية من السيسي، بلقاء الملك السعودي في أبو ظبي، وقبول دعوة المشاركة في العيد الوطني الخامس والأربعين لدولة الإمارات، توجه الشيخ محمد بن زايد إلى العاصمة السعودية الرياض لمقابلة المسئولين السعوديين، حيث أوضحت مصادر واسعة الاطلاع آنذاك حينها أن الإمارات ساهمت في تقريب وجهات النظر المصرية – السعودية، وعلى الرغم من ذلك فشلت هذه الجهود حيث عاد الرئيس المصري إلى القاهرة بعد مشاركته في العيد الوطني الإماراتي دون أن يلتقي العاهل السعودي، الذي حضر فور مغادرة السيسي، مما دفع الخبراء والمحللين حينها إلى القول إن حجم الخلاف بين البلدين أكبر من المتوقع.
فشل جهود الوساطة الإماراتية في تقريب وجهات النظر بين البلدين
هل تنجح مساعي التهدئة؟
“أظن أنه آن الأوان لحديث صريح مباشر مع المملكة السعودية يستهدف تصحيح مسار العلاقات المصرية السعودية، بدلاً من الغمز واللمز ولغة المكايدة المبطنة حرصًا على أن تبقى علاقات البلدين راسخة قوية، تلتزم الشفافية وصدق الموقف والحرص على المصلحة المشتركة وتحقيق الصالح العربى العام، انطلاقًا من روح الأخوة الحقة التي تلزم الشقيق مصارحة شقيقه…” بهذه الكلمات استهل الكاتب الصحفي المصري ونقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد، مقاله المعنون بـ”وقفة مع الشقيق السعودي.. لماذا بات ضروريًا تصحيح مسار العلاقات السعودية ـ المصرية؟” مخاطبًا قيادة البلدين بضرورة الجلوس على مائدة واحدة لبحث النقاط الخلافية ومحاولة رأب الصدع، بعيدًا عما أسماه “لغة المكايدة المبطنة” والتي تجسدت في التراشق المتبادل بين الجانبين في الفترة الأخيرة.
وفي تصريح له قبيل زيارة الوفد المصري للرياض، أكد أحمد أبو زيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، أن العلاقات المصرية السعودية علاقات تاريخية واستراتيجية، وأنه لا يمكن لشخص عاقل أن يتصور أن تنهض الأمة العربية وتواجه التحديات دون التضامن.
وأضاف المتحدث باسم الخارجية المصرية أنه قد تحدث توترات واختلافات في وجهات النظر، ولكن لا ينبغي أن تؤثر تلك التوترات على استراتيجية التضامن، مشددًا على أن قنوات الاتصال مفتوحة دائمًا، بين مصر والأشقاء العرب.
يتوقف الأمر على حجم التنازلات التي من الممكن أن يقدمها كل طرف لإزالة الاحتقان وتقليل منسوب التوتر مع الجانب الآخر، يستوجبها وقف فوري لحملة التراشق السياسي والإعلامي المتبادل بين الطرفين، الذي نقل الخلاف من طاولة القادة والحكام إلى ساحات وميادين الشعوب
العديد من الخبراء رجحوا نجاح هذه الزيارات في تقريب وجهات النظر، وإزالة التوتر بين الجانبين إلى حد كبير، خاصة في ظل الحاجة الماسة لكل بلد في استعادة علاقته بالآخر، نظرًا لما تمثله هذه العلاقة من دعم مادي وأمني ولوجستي في المنطقة لكل دولة، وهي ما يجب على القاهرة والرياض أن تعياه بصورة كبيرة.
أثناء مشاركة السفير السعودي بالقاهرة في ندوة بجامعة قناة السويس
كما أن التغيرات التي طرأت على الساحة الإقليمية من إعادة رسم خارطة الصراع داخل الأراضي السورية بعد سيطرة جيش الأسد على حلب، والحديث عن مفاوضات سياسية للخروج من المأزق برعاية روسية تركية إيرانية، فضلاً عن تطورات المشهد في اليمن، إضافة إلى غموض المستقبل الشرق أوسطي في ظل حكم ترامب، تدفع كلا البلدين إلى إعادة النظر في الخلافات بينهما، في محاولة للاستناد إلى الروابط التاريخية والجوانب المشتركة في الاستراتيجية الخارجية للطرفين، مما يعزز فرص نجاح سبل التقارب، وفي المقابل هناك من قلل من احتمالية تقبل كل دولة لتفهمات الأخرى، خاصة بعد وصول حجم الخلافات بينهما إلى درجة “التناقض” في بعض الملفات أبرزها الملف السوري بصورة خاصة.
ومع ذلك يتوقف الأمر على حجم التنازلات التي من الممكن أن يقدمها كل طرف لإزالة الاحتقان وتقليل منسوب التوتر مع الجانب الآخر، يستوجبها وقف فوري لحملة التراشق السياسي والإعلامي المتبادل بين الطرفين، الذي نقل الخلاف من طاولة القادة والحكام إلى ساحات وميادين الشعوب عبر النوافذ الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وهو ما يحمل بين ثناياه مخاطر وتهديدات لا يحمد عقباها.