ترجمة وتحرير نون بوست
عبد الله الحيمي مشيرًا إلى مصنع للإسمنت في محافظة عمران الذي دمرته غارة جوية لقوات التحالف التي تقودها السعودية، تعرض هذا المجمع لعدة ضربات (سودارسان راغافان/ واشنطن بوست)
عبر عبد الله الحيمي الأراضي القاحلة، مشيرًا إلى الضرر في مجمع الإسمنت المغلق وإلى المستودعات، هنا ترى الجسور المحطمة، وهناك ترى مقالع ممتلئة بالشظايا.
قال عبد الله إن المجمع تعرض للقصف 53 مرةً خلال السنة والنصف الماضية، نُفذت جميعها عن طريق طائرات التحالف التي تقودها السعودية بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت ضربة واحدة في المدخل الرئيسي كفيلة بقتل 15 شخصًا، من بينهم بائع مثلجات خارج البوابة، أما بالنسبة للحيمي، الذي يشغل منصب مدير في المجمع الذي يقع في الوسط الغربي من اليمن، فإن أكبر تفجير وصل صداه إلى أبعد من محيط المجمع الحكومي، فقد انهارت حياة 1500 موظف، وتحطمت معها حياة الآلاف من الأشخاص الذين يعتمدون عليهم.
قال الحيمي بصوت مختنق، بينما تسللت أشعة الشمس داخل المستودع من خلال الثقوب العميقة التي خلفتها الهجمات: “إن الذين قتلوا، لم يُقتلوا وحدهم، فقد قُتلنا نحن معهم“.
مصنع غاز الطهي الذي دمرته غارة جوية لقوات التحالف الذي تقوده السعودية في شمال غرب مدينة حجة، مما أدى إلى تضاعف أسعار السوق السوداء
في اليمن، ليس الفقراء فقط من يعانون، فالحرب أهلكت الطبقة المتوسطة، التي لطالما كانت دعامة للاقتصاد اليمني الذي كان الأشد فقرًا والأكثر عجزًا في المنطقة، حتى قبل بدء أعمال العنف التي اندلعت منذ 21 شهرًا.
استهدفت الغارات الجوية كل مجالات الصناعة تقريبًا، مما أدى إلى القضاء على عدد لا يحصى ولا يعد من الوظائف والأحلام، بالإضافة إلى الحصار البحري والجوي والبري الذي فرضته المملكة العربية السعودية، والذي أدى إلى نقص في الوقود والغذاء، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار في بلد يستورد 90% من احتياجاته الغذائية والطبية، بالإضافة إلى الأزمة البنكية التي تركت عمال الحكومة دون أجر وأضرت الشركات أخرى.
قال متحدث عسكري باسم قوات التحالف الذي تقوده السعودية في رسالة إلكترونية إن كل الأهداف المحتملة تتعرض للفحص للتأكد من أنها “حقيقية”، وعندما سُئل عن مجمع عمران، قال اللواء أحمد العسيري إنّ الحوثيين الذين تقاتلهم قوات التحالف يستخدمون في عديد من الحالات المواقع المدنية لتخزين الأسلحة والذخيرة، ويستخدمونها أيضًا كمراكز قيادة وسيطرة ولغايات عسكرية أخرى.
وقال كريستوفر شيروود المتحدث باسم الجيش الأمريكي، إن الولايات المتحدة لا تشارك في الاستهداف أو اختيار الأهداف لدعم قوات التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
وتعكس المحنة الاقتصادية في اليمن الأزمات التي تمر بها الدول الأخرى، التي عانت من الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي بعد انتفاضات الربيع العربي، منذ أكثر من خمس سنوات، فقد أثبتت دراسة للأمم المتحدة مؤخرًا أن الاضطرابات كلفت المنطقة 614 مليار دولار بسبب تراجع نسب النمو منذ 2011.
وكان اقتصاد اليمن في تراجع منذ فترة حكم علي عبد الله صالح الذي اضطر لمغادرة السلطة قبل نحو خمس سنوات، لكن الأمل في النمو الاقتصادي اختفى عندما بدأ الصراع في آذار/ مارس 2015، أما الآن، فإن الحوثيين وأنصار صالح يقاتلون ميليشيا موالية للرئيس عبد ربه منصور هادي الذي فرّ عندما استولى المتمردون على العاصمة صنعاء.
دخلت المملكة العربية السعودية وائتلاف دول الخليج العربي الصراع لإعادة عبد ربه منصور هادي في السلطة، أما الولايات المتحدة التي أبدت تخوفها من فرع تنظيم القاعدة في اليمن ومن تنظيم الدولة، فهي تروج أسلحتها للسعودية، وتزود الطائرات الحربية بالوقود، كما تقدم المعلومات الاستخباراتية وغيرها من أشكال الدعم.
قُتل ما لا يقل عن 10 آلاف شخص، بينهم العديد من المدنيين، وأصبح 3 ملايين يمني يعانون من التشرد، وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، كما قُتل يمنيون آخرون خلال هجمات مختلفة على البنية التحتية، وتضررت أكثر من 200 شركة، ودُمر بعضها في الغارات الجوية، بما في ذلك عشرات المصانع والمستودعات، وفقًا لغرفة التجارة والصناعة بصنعاء.
قال عبد الحكيم المنج المستشار القانوني للغرفة التي تم تدمير مقرها في غارة جوية في كانون الثاني/ يناير الماضي: “هذه ليست منشآت عسكرية”، وقال إن المصانع تُدمر أحيانًا خلال الاشتباكات، ويصعب تحديد المسؤولين عن التدمير، لكن التأثير الواضح للرحب هو تراجع اقتصاد اليمن بنسبة 34.6% في السنة الماضية، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يرتفع ذلك الانكماش بنسبة 11% خلال هذه السنة.
قال أنور جار الله إن مصانعه تشتغل بربع إمكانياتها فقط، وإنه اضطر في بعض الأشهر لغلقها تمامًا، خاصة أن الهجمات الجوية قد تستهدف محطات توليد الطاقة والكهرباء، لذلك فإن المولدات التي تعمل بالوقود أصبحت ضرورية، لكن تشغيلها مكلف جدًا.
وتجدر الإشارة إلى أن ميناء الحديدة الذي كانت تمر عبره واردات الوسط الغربي والمساعدات الإنسانية تعرض أيضًا لهجوم دمر الرافعات العملاقة وغيرها من المعدات، وبالتالي، فإن الحصار والدمار يؤخران وصول شاحنات علف الدجاج واللقاحات، وقد يبلغ هذا التأخير أشهر، لذلك فإنه على جار الله أن يستأجر سفينة ذات رافعة، وأن يدفع مزيدًا من المال في سبيل التأمين.
دخلت المملكة العربية السعودية وائتلاف دول الخليج العربي الصراع لإعادة عبد ربه منصور هادي في السلطة، أما الولايات المتحدة التي أبدت تخوفها من فرع تنظيم القاعدة في اليمن ومن تنظيم الدولة، فهي تروج أسلحتها للسعودية، وتزود الطائرات الحربية بالوقود
إذا ما وصلت شحنته، فإنها قد تعلق لعدة أيام في الميناء، مما ينتج عنه تكاليف إضافية، بعد ذلك عليه أن يدفع “ضرائب” في نقاط تفتيش الحوثيين لضمان مرور شحنته، وفي الأثناء جعلت الأزمة المصرفية المعاملات التجارية أمرًا مستحيلاً، كما أن البنوك الغربية لا ترغب في تمديد الائتمان، وتوقف البنك المركزي عن تقديم ضمانات للمستوردين، مما اضطرهم إلى توفير تمويل ذاتي لشحناتهم.
أصبح الوضع أكثر سوءًا في أيلول/ سبتمبر الماضي عندما منع الرئيس هادي الحوثيين من الحصول على أموالهم، وأمر بنقل البنك المركزي إلى مدينة عدن الجنوبية، قرب مقرّ حكومته، وبذلك أصبح المستوردون غير قادرين على الحصول على عملات أجنبية، ولم يتم صرف رواتب الموظفين الحكوميين، الذين يبلغ عددهم 1.2 مليون موظف.
قال سكوت بول، أحد كبار مستشاري وكالة “أوكسفام”، إن الضربات الجوية والحصار المفروض وانهيار البنك المركزي عجل بانهيار شبه كامل للاقتصاد اليمني، تظهر هذه الخطوات أن جميع الأطراف مستعدون لخوض الحرب الاقتصادية، ولتعريض المدنيين للخطر وللمعاناة، فقط من أجل تعزيز مواقعهم.
أما بالنسبة لجار الله، فإن الحصول على أوراق الائتمان أصبح أصعب وأكثر تكلفة، حيث قال: “الكثير من التجار يعانون من هذه المشاكل نفسها”، ففي عمران مثلاً، أثّر غلق مصنع أسمنت على مئات من سائقي الشاحنات، والموزعين، فقد ساهم المجمع في منح أموال لتوفير خدمات الصرف الصحي، ودعم المدارس المحلية، ومساعدة المعوقين، حيث قال هارون السعدي الذي شغل منصب مدير في المجمع: “الأمر لا يتعلق بخروجنا عن عملنا، فقد كانت لنا شاحنة كبيرة توفر المياه، أما الآن فقد خسرنا ذلك”، أكّد السعدي مثل بقية الموظفين الآخرين الذي تمت مقابلتهم، أنّ المجمع لم يُستغل أبدًا كقاعدة عسكرية أو كمخزن للسلاح، “لكنه كان مستهدفا لأسباب سياسية”.
وأضاف السعدي أنهم “يريدون أن يجوع الناس لينقلبوا ضد الحوثيين”. ففي وقت سابق من هذه السنة، ضربت غارة جوية الموزع الوحيد لغاز الطبخ شمال غرب مدينة حجة والمناطق المحيطة بها، الأمر الذي أدى إلى تضاعف أسعار الغاز في السوق السوداء، في هذا السياق، قال ابن صاحب شركة التوزيع ياسر يحيى صلبا الذي لا يزال يملك قنبلة “أم كا 82” أمريكية الصنع التي ضربت واحدة من صهاريج التخزين: “هذا الهجوم زاد تكاليف المعيشة لنحو 700 ألف شخص”.
في أحد المتاجر التي تبيع السلع المستعملة في صنعاء، قال خليل العماري إنه لاحظ وجود نوع جديد من الزبائن، الموظفون الحكوميون، حيث لم يتم صرف أجور الجنود وضباط الشرطة وغيرهم منذ 3 أشهر، الأمر الذي دفعهم لبيع ممتلكاتهم، وقال عماري إن أحد موظفي الحكومة باع سريره، وقال إنه سيفترش الأرض.
أما سميرة علي فقد كانت تشتغل في معمل حكومي في مدينة تعز الجنوبية، التي مزقتها الحرب، لكن بعد غارة جوية، اضطرت للانتقال للعيش مع أختها في صنعاء. ثم باعت مجوهراتها وسهم كانت تملكه في شركة الاتصالات السلكية واللاسلكية للمساعدة على تحمل نفقات الأجور، قالت سميرة “لم يبق لي شيء لأبيعه”، فقد كانت تكسب 270 دولارًا شهريًا، أي نحو أربعة أضعاف متوسط الراتب.
تعكس المحنة الاقتصادية في اليمن الأزمات التي تمر بها الدول الأخرى، التي عانت من الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي بعد انتفاضات الربيع العربي
وتحدث حمود محسن، الذي كان يعمل مساعدًا إداريًا في مكتب رئيس البلدية، عن وضعه ووضع أطفاله الخمسة الذي زاد سوءًا، وفي محاولة لإنقاذ نفسه من الإفلاس، قام ببيع سيارته وبعض بنادقه، وباع أيضًا الخاتم الذهبي الذي أهدته إياه زوجته في زفافهما، أما الآن، فهو يريد بيع الثلاجة، “حتى وإن كان لدينا كهرباء، فنحن لا نملك شيئًا لوضعه في الثلاجة”.
في محل للبقالة في صنعاء، ارتفعت أسعار السلع المستوردة مثل الفول والأرز والسكر والمواد الغذائية الأخرى بنسبة 50%، حيث قال صاحب المحل توفيق الرايمي إن معظم زبائنه كانوا موظفين من السفارات ووكالات السياحة وشركات النفط وشركات الطيران، لكن بعد أن أغلقت مكاتبهم، لم يعد يأتينا إلا عدد قليل.
أما الحيمي، فقد بدأ العمل في مصنع للأسمنت سنة 1982، لكنه اضطر الآن لبيع خاتم زفافه أيضًا، وغيره من الممتلكات، فهو لم يعد قادرًا على توفير الرسوم الدراسية لابنتيه.
مر الحيمي أمام مكتب يحتوي على بقايا من الذخائر الأمريكية التي ضربت المجمع، وقنبلة عنقودية من طراز “سي بي يو 105″، صُنعت في تموز/ يوليو 2012 من قِبل شركة “أفاكو”، التي أصبح اسمها “تكسترون”، ومقرها في ولاية “رود آيلاند”، ثم قال الحيمي “كان من المفترض أن أتقاعد السنة القادمة، بحلول ذلك الوقت، سنكون في الشوارع، في الحقيقة، إن متنا، سيكون ذلك أفضل لنا”.
المصدر: واشنطن بوست