“السلام عليكم يا أستاذ هيثم، أبشرك أن فيلم العساكر بتاع الجزيرة عمل رجة جامدة جدًا، وشركة كوين سيرفس التابعة لوزارة الدفاع، أصدرت قرارًا بمنع العساكر اللي بيمسحوا سلالم عمارات الضباط بتوع الجيش من تلك المهمة، وأيضًا من مهمة لم الزبالة، وشركة كوين سرفيس خلاص هتتعاقد مع ناس مدنيين يقوموا بالمهات دي، أما العساكر فهيبقوا أمن للعمارات فقط، ومش هنشوف تاني عساكر بتمسح السلالم، واضح إن قناة الجزيرة أثرت فيهم جدًا.”
كان هذا نص رسالة جاءتني من صديق قبل اعتقال سلطات النظام المصري الصحفي المصري محمود حسين العامل بقناة الجزيرة الإخبارية بمطار القاهرة، لم تكن هذه هي الرسالة الأولى التي تأتيني من قبل أصدقاء متفرقين وتوضح مدى تأثر النظام المصري بما حدث، بل استطعت الحصول على هذه الورقة التي تم توزيعها على العقارات الخاصة بسكن ضباط القوات المسلحة المصرية:
توضح الورقة أن شركة كوين سيرفس قررت وقف قيام عساكر الجيش المصري بجمع “الزبالة” من أمام شقق العمارات وعدم مسح سلالم العمارة، وأن العقيد – قمت بحذف اسمه – اتفق مع متعهد للزبالة بمقابل مادي، ومع سيدات لمسح السلالم بمقابل مادي أيضًا.
أثار هذا القرار غضب سكان العمارات من بعض ضباط وأسر ضباط وغيرهم من سكان عمارات القوات المسلحة المصرية، وقاموا بمهاجمة القرار في مجموعاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي كما تظهر الصورتان التاليتان اللتان قمت بأخذهما لهذه النقاشات مع حذف الأسماء.
توضح النقاشات حالة الغضب من القرار، وكيف أن هؤلاء السكان دفعوا مسبقًا أموالاً وضعت كوديعة يصرف من عوائدها بشكل شهري على مسألة النظافة وجمع القمامة.
أحد العساكر قال بعد قرار المنع هذا:
“العساكر في المنطقة مبسوطين أوي وبيقولوا الجزيرة نفعتنا جدًا، ووقفت أهانتنا”
لعل هذه الجملة الأخيرة هي ما لم تجعلني أتفاجأ عند سماعي لخبر اعتقال الصحفي المصري محمود حسين العامل بقناة الجزيرة الإخبارية، حيث توقعت أن يثير الفيلم ردة فعل انتقامية من قبل أجهزة النظام الأمني المصري، للأسباب التالية:
– شكّل عرض قناة الجزيرة لفيلم العساكر، كسرًا لأحد الخطوط الحمراء في الدولة العسكرية المصرية الحديثة وهو “التجنيد الإجباري”، ورغم مستوى الفيلم تحت المتوسط من الناحية التوثيقية، إلا إنني أرى أن الفيلم لم يكن هدفه التوثيق بقدر ما كان هدفه اقتحام تلك اللافتة “منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب أو التصوير” التي تزين أسوار المنشآت العسكرية كلها، والتي تحولت من بعد حرب السادس من أكتوبر 1973، حتى صارت لافتة تبعث على السخرية وهي تزين حتى المنشآت الفندقية التابعة للقوات المسلحة المصرية.
لذلك من فضلك لا تعتقد أنك تشاهد فقرة من فيلم كوميدي إذا كنت مارًا من أمام أحد الدور العسكرية المصرية التى تحتوي فنادق خدمية للجمهور وتجد يافطة إعلان تبرز من داخل الدار تظهر موعد عرض احتفالي باحتفالات رأس السنة يتخلله فقرات للرقص الشرقي للفنانة ….، ثم تجد أن السور العسكري الذي تقبع خلفه تلك اللوحة الإعلانية قد زين بلوحة “منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب أو التصوير”، فهل أصبح جسد الراقصة الشرقية منطقة عسكرية ممنوع الاقتراب منها أو التصوير!
– جاء الفيلم ليخاطب بشكل نفسي وبلغة غير نخبوية وبشكل درامي النفسية المصرية، عن طريق إبراز قصص معروفة لعموم الشعب المصري عما يلاقيه، ولكنه وبشكل حرفي أرفق هذه الشهادات التي أظهرت إهانة أبناء الشعب المصري عبر توظيفهم في مهام غير عسكرية في أثناء فترات التجنيد الإجباري، بالإضافة لإهانتهم وإذلالهم بطريقة لا تتلاءم مع شرف العسكرية الذي يتم تصديره إعلاميًا بشكل كاذب.
وهذا ما جاء الفيلم ليظهره بلغة (العساكر) مصطحبًا معه في خلفية الروايات مقاطع مختلفة من الموسيقى العسكرية المصرية التي ارتبطت في أذهان الشعب المصري بمشاهد تم تصديرها كأمثلة على الشرف العسكري وجيش مصر العظيم، وهذا هو الأخطر بالنسبة للمؤسسة العسكرية، حيث إنها تعتبر أول محاولة جادة لتحطيم الصورة الذهنية المزيفة التي حرصت المؤسسة العسكرية المصرية على رسمها من بعد اتفاقية كامب ديفيد المخزية.
– الفيلم جاء ليظهر أن الشباب الذين يجندون إجباريًا وإضاعة ما بين سنة إلى ثلاث سنوات من أعمارهم في القوات المسلحة المصرية، لا يضيعون أعمارهم في الدفاع عن أرضهم، بل يضيع عمرهم ما بين الإهانة ومسح سلالم العمارات ورفع القمامة من أمام مساكن طبقة البهوات الجديدة في مصر، وقد يتفاجأ البعض عندما يعلم أن شركة كوين سيرفس هى الاسم التجاري لـ”شركة النصر للخدمات والصيانة“، وهي شركة مساهمة مصرية أنشئت عام 1988 طبقًا لأحكام القانون 159 لسنة 88 ولائحته التنفيذية، وهي إحدى شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابعة لوزارة الدفاع المصرية كما يظهر هنا، وهي شركة ربحية تدار من قبل أحد المسؤولين في وزارة الدفاع المصرية.
ويتم التجنيد الإجباري لأبناء مصر من أجل أن يذهب بعضهم للعمل بها ولغيرها وليس من أجل الخدمة العسكرية، بل في إطار سياسة استعبادية جديدة تقوم على استرقاق أبناء مصر بثمن بخس كي يزداد كبار الضباط ثراءً على ثراءٍ، وكل هذا تحت اسم الوطن.
أكتب هذا كي يدرك من لا يدرك منا وهم كثيرون تأثير الإعلام وتأثير أن نخاطب الناس على قدر عقولهم دون إسفاف أو كذب، أكتب هذا ليعلم الجميع تأثير تغيير معالجة القضايا الحقوقية ليتم تقديمها بشكل إعلامي شعبي مختلف، أكتب هذا أيضًا كي نعلم أن لكل حقيقة ثمن يدفع من حرياتنا وأعمارنا، وأن ما حدث للصحفي محمود حسين أتى في إطار انتقام النظام المصري من الصحافة والإعلام، في بلد أصبح شبابها يسكن ما بين المقابر والسجون.