*الصور بعدسة أيوب أبو مديغم
هذا المقال بالتعاون مع شبكة قدس الإخبارية
الغاية: التظاهر ضدّ مخطط استيطاني في النقب “مخطط برافر-بيجن” يُهجّر أكثر من 35 قرية فلسطينية ويستولي على ما يقارب 800 ألف دونم من أراضيها.
ركبوا الحافلات، ناشطون وطلاب جامعيون، وغيرهم، بعضهم يحمل أكياس البصل ليرفعوه في وجه الغاز، والآخرون يحملون كاميراتهم للتوثيق، وغيرهم حملوا الأعلام المرفوعة على العصي الخشبية، لعل وسعى تؤدي خدمة مختلفة فيما بعد، بعيداً عن خدمة رفع قماشة العلم. فيما تلا الخامس عشر من تموز المنصرم، كان هذا يوم الغضب الثاني لفلسطينيي الداخل، وكانت عيون كثيرة تترقب: ماذا سيكون مستوى الغضب؟
على مفرق يسمى “عارة-عرعرة” في وادي عارة، أحد الشوارع السريعة الرئيسية في المناطق المحتلة عام 1948، تجمع ما يزيد عن ألف متظاهر حاملين الأعلام الفلسطينية ومرددين الشعارات التي تؤكد عروبة الأرض وترفض التنازل عنها، ومعلنين أن “العيب للي بيفتح شارع”. كان الشباب ينوون إغلاق شارع وادي عارة الرئيس، واليوم خميس، والساعة هي ساعة ازدحام العودة إلى البيوت، لا يستخدم الشارع أهالي المنطقة الفلسطينيين فحسب، بل هو يمتلىء بسيارات المستوطنين كذلك في طريقها إلى شمالي فلسطين، إلى حيفا والناصرة وعكا وغيرها. هي فرصة إذن لإيلام الإسرائيلي ولو كان ألما “مدينياً” بطابع “الازدحام المروري” وتأخيره عن بيته بينما الآخرون لا يملكون حتى ترف وجود هذا البيت، إذ تُهدم خيمهم بشكل مستمر.
قبل وصولهم إلى الشارع الرئيس كانت قوات الوحدات الخاصّة الإسرائيلية والخيالة ومئات الأفراد من حرس الحدود الإسرائيلي في انتظارهم. لم يطل مشهد الاحتكاك، منع المتظاهرون بالقوة من الوصول إلى الشارع الرئيس وتم التدافع الأول بين المتظاهرين والجنود، وعقبته بعض قنابل الصوت.
“سنأخذ بعضاً منهم، ونرمي المزيد من قنابل الغاز والصوت، وخلال دقائق سينصرفون”، هكذا قال أحد الجنود لرفيقه، كما سمعته متظاهرة. لم يكن الأمر كما تخيل هؤلاء، فقد استمر “الكر والفر” بين المتظاهرين وجنود الاحتلال ما يزيد عن ساعتين، رافقها إطلاق كثيف للغاز المسيل للدموع، أوقعت الكثيرين في حالات اختناق، وتخللها كذلك اعتقال لما يزيد عن عشرين متظاهراً.
أما في الجنوب من الأرض المحتلة، في النقب الشماليّ، وبالقرب من التجمع السكاني “رهط” (والذي سبق أن تهجر القاطنون فيه الآن من قرى بدوية في الخمسينات والسيتينات من القرن الماضي) تجمع عدد مماثل من الفلسطينيين، حافلات أقلتهم من
قرى مختلفة في النقب، ومن خارجها. انضمّ إليهم إسرائيليون يقولون أنهم ناشطو سلام وبعضهم يعمل في جمعيات حقوقية إسرائيلية.
لوّح المتظاهرون بالأعلام الفلسطينية، ورددوا هتافات تحيي صمود النقباويين على أراضيهم، وذلك بمشاركة العديد من أهالي القرى المهددة بالتهجير. لم تتماثل مظاهرة النقب مع شقيقتها في وادي عارة، فانفضت بهدوء ودون محاولات لإغلاق الشارع وذلك بعد انتهاء الساعتين اللتين حددهما ترخيص حصل عليه منظموها من شرطة الاحتلال.
على الرغم من الهدوء على الأرض، إلا أن قوات الاحتلال كانت قد استعدت بأقصى ما لديها لمواجهة الألف فلسطيني! أحد المنظمين للمظاهرة قال بأن هذه المسيرة “البسيطة” قد كلفت دولة الاحتلال ما يزيد عن المليون شيكل! في شهادة أخرى فسّر أحد المشاركين ذلك بالقول أنه “لم يرَ في حياته هذا التجمع الكبير جداً من سيارات شرطة الاحتلال والوحدات الخاصة وحرس الحدود”. أضاف أنه على الأقل تواجد عشرين مصور جنديّ كانت مهتمهم فقط تصوير المشاركين.
ربما لم يرق لهم أن تنتهي المظاهرة هكذا بدون “غنائم”، فتم اعتقال شابين عندما كانا في طريقهما للعودة إلى البيت. يروي الأهالي أن مستعرباً ألقى حجراً باتجاه قوات الاحتلال لافتعال المشكلة، واعتقل الشابان.
لم تكن القدس والضفة وقطاع غزة، التي وقعت تحت الاحتلال في نكسبة 67 بمنآى عن هذا الحراك، فما يصيب النقب، يلقي بظلاله على غزة، وما يؤلم الجليل يؤلم بكل تأكيد القدس والضفة. في القطاع، حاولت مجموعة شبابية تنظيم اعتصام في ميدان الجندي المجهول وسط مدينة غزة، سرعان ما قمعها الأمن الفلسطيني بحجة عدم الترخيص.
إحدى المشاركات قالت أن رجال الأمن عاملوهم بكل غلظة وهددوهم بالاعتقال. تقول عروبة عثمان: “شتمونا وقال لنا أحدهم عندما سألنا عن تصويره لنا: بتخرسوا وإذا بدكوش تخرسوا بنخرسكوا بالصرمة”. كانت هذه هي المرة الثانية التي تمنع فيها قوات الأمن الفلسطينية في حكومة حماس فعالية تناهض المخطط.
أما في رام الله، فقد تنظمت حافلة تقل بعضاً من المتظاهرين وتوجهت إلى حاجز حزما العسكري الذي يفصل المدينة عن مدينة القدس، وبطبيعة الحال تحولت المظاهرة إلى مواجهات وقمع واعتقالات. يذكر أن قوات الأمن الفلسطينية في حكومة رام الله كانت قد منعت في 15 تموز الماضي مظاهرة مشابهة من الوصول إلى حاجز عوفر العسكري وحالت بينها وبين جنود الاحتلال.
في القدس، كان ختامها مسك، إذا ما حسبناها بوزن المواجهة مع العدوّ، جابت المظاهرة الجريئة شوارع المدينة المكتظة على غير عادتها بسبب الأجواء الرمضانية واقتراب الأعياد، وانضم إليها متظاهرون أجانب، ولأن الهموم الفلسطينية لا تنتهي فقد هتفوا للأسرى الأردنين المضربين عن الطعام بالإضافة للهتاف ضدّ برافر. انتهت المظاهرة بقنابل الصوت الكثيفة، واعتقال شابين.
ما وراء الحدث
تحضيرا لـ”يوم الغضب” شاع الوسم #برافر_لن_يمر في صحفات التواصل الاجتماعي، يمكن من متابعة الوسم أن نستشف حجم التحضيرات ليوم “الغضب”. منشور يدعو للتظاهر في الأول من آب، وآخر يُعرف بالمخطط لمن يجهله، قائمة بالحافلات وأماكن انطلاقها، أرقام هواتف للتنسيق، بوسترات للطباعة والتعليق، فيديوهات فنية تخاطب الجمهور وتقنعه بأهمية “النزول إلى الشارع”، منشورات فيسبوكية تشرح قوانين الاعتقال الإسرائيلية، وترشد المعتقل كيفية التصرف في تحقيق شرطة الاحتلال معه. هكذا كانت الأيام القليلة الماضية على الساحة الفلسطينية الشبابية.
لا يكاد الداخل إلى الفيسبوك أو تويتر أن ينكر الروح الحماسية التي تشيع بين الفلسطينيين، لكن إضافة إلى هذه الروح الحماسية تنشأ نقاشات بين النشطاء تتحول أحيانا إلى مناكفات تستطيع من خلالها قراءة الأحداث بشكل أقرب، وهي فرصة للبعض للتندر.
الإسلاميون والعلمانيون.. قصة كلّ مرة
كانت إحدى هذه الحوارات الشائعة جداً تتعلق بمشاركة الحركة الإسلامية في الداخل بشقيها الشماليّ والجنوبيّ في المظاهرات. بينما أصدر حزب التجمع الوطني الديموقراطي والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة (حزبان فلسطينيان في الداخل، الثاني يضمّ إسرائيليين شيوعيين) بيانات تدعو للمشاركة في التظاهر، لم ينبس الحركة الإسلامية ببنت شفة.
لفة واحدة في صفحات النشطاء من الخلفيات العلمانية والقومية واليسارية وبعض المستقلين وحتى الإسلاميين أنفسهم تنبؤك بمدى السخط على هذه المشاركة الضعيفة من قبل الحركة الإسلامية. يذّكرنا الساخطون بالقدرة الفائقة على الحشد والتي تتميز بها الحركة الإسلامية عن غيرها من الأحزاب الفلسطينية في الداخل، فلو أنها أعلنت “النفير” لكان عدد المشاركين في المظاهرات أضعافاً. “ولكن الحركة لا تحب المواجهات”، يعلق أحدهم مفسراً أن الإسلاميين في الداخل “لا يرون في المظاهرة وسيلة نضالهم الأساسية” على حدّ تعبيره.
في المقابل، قارن هؤلاء الممتعضون بين حجم المشاركة الإسلامية في مظاهرات رفض الانقلاب العسكري على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، وبين حجمها في مظاهرات ضدّ برافر، متهمين أفراد الحركة بضياع الأولويات والاهتمام بقضاياهم الحزبية الضيقة على حساب سؤال الواقع الفلسطيني. كما اتهموهم بالانشغال بما لا يفيد، خاصة عندما نشر أحدهم على صفحته الفيسبوكية منتقداً لباس بعض الفتيات الضيق في المظاهرات.
إلا أن هذا الامتعاض من جانب اليساريين والعلمانيين وغيرهم لا يعني بأية حال من الأحوال غياب الإسلاميين عن الساحة. المتصفح لمواقع الحركة الإلكترونية يجد أخباراً كثيرة عن أموال تصرف هنا وهناك لإعادة بناء بيوت النقب، ولتمديد أنابيب المياه وخطوط الكهرباء للقرى البدوية المحرومة منها في النقب. إضافة إلى ذلك تفخر الحركة الإسلامية بما تسميه “معسكر
التواصل مع النقب” الذي تقيمه سنوياً، بينما يرى خصومها ذلك ناقصاً وغير كاف في ظل الغياب عن المواجهة في الشارع والابتعاد عن لغة التصعيد مع المحتل.
في المقابل، يقول بعض إسلاميي الداخل عير منشوراتهم على الفيسبوك أنهم لن يشاركوا في مظاهرات مع من “يؤيد قتل السوريين على يد نظام بشار الأسد” في إشارة إلى بعض الفلسطينيين أفراد الأحزاب المؤيدين للنظام السوري. يضيف آخر يواظب على المشاركة في المظاهرات بشكل دائم، أنه ساخط على بعض الشعارات التي ترفع في المظاهرات. ففي الوقت الذي تكون المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أشدّها يجب تغييب أي صراع داخلي، إلا أن شعاراً مثل “حرية حرية الشب بحد الصبية، تسقط قوى الرجعية” يستفز الإسلاميين ويوجه لهم أصابع الاتهام بدلاً من تركيزها على المحتل، كما يعبر الكثيرون منهم.
كيف يكون شكل النضال؟
بعيداً عن مناكفات الأحزاب التي تكاد لا تنتهي وتتكرر في كلّ المحيط العربي، يطفو على الساحة كذلك جدل حول شكل المظاهرات وسقفها. يرفض البعض رفضاً قاطعاً الحصول على ترخيص لأية مظاهرة تنظم ضدّ الاحتلال، ويرون في ذلك اعترافاَ بشرعية الشرطة الإسرائيلية. هؤلاء يرون أن التصعيد ورفع سقف النضال إلى أقصى مدى هو الحل، معتبرين أن الوسائل التقليدية (والتي تشمل في هذه الحالة الوقوف على أرصفة الشوارع دون إغلاقها) والتي يمكن للمؤسسة الإسرائيلية استيعابها والسيطرة عليها لن تغير شيئاً على أرض الوقع وليست توازي قوى المخططات التي تحاك ضدهم.
في المقابل، يظن كثيرون أنهم يجب أن يعملوا تحت إطار القانون، لتفادي الضرر بقدر المستطاع، ولأن “التهور” لن يفيد. يعود سبب هذا التباين في الأساس – فيما يبدو – إلى حساب الخسائر والمكاسب، فيما يظن الأوائل أنه لم يعد هناك شيء آخلر ليخسروه، يقول أصحاب الخطاب الثاني أن الشارع غير مهيأ بعد لخطاب تصعيدي ثوري.
فيما بين الفريقين وبعيداً عن تصنيفاتهما، يدخل لدى البعض “شيطان الرأي العام الإسرائيلي والعالمي”، يهمّ البعض وبشكل غريب ماذا يقول الآخرون عنهم، على اعتبار أن هذا القول من الآخر سيساعدهم في تحقيق أهدافهم. في إحدى فيديوهات مظاهرة الأمس، سقط العلم عن عصى خشبية، لكن صاحبه أبقى على الخشبة في يده، بينما كان جنود الاحتلال يدافعون رفاقه في الصفوف الأولى، فجأة نسمع صوت فتاة تنادي عليه بأعلى صوت “نزل العصاي نزل العصاي”.. مع أنه لم يكن يستخدمها. وقد سبق أن رآينا منشورات على الفيسبوك تدعي أن رفع العلم الفلسطيني ليس ضرورياً في المسيرات، خاصة أننا بحاجة إلى “إيصال صوتنا إلى الرأي العام والاعلام الاسرائيلي” على حدّ تعبير كاتبه.
على الرغم من استنزافها للكثير من الوقت والطاقة، إلا أنه هذه النقاشات خاصة إذا ابتعدت عن سياق الشماتة السياسية، تفيد في إغناء الخطاب الذي يؤمل له أن يأخذ بالتصاعد لدى الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، خطاب يرى أبعد من سقف
انتخابات الكنيست، ولا ينحصر في حدودها، خطاب يتفاعل ويبني نفسه رويداً ليشكل بديلاً قوياً وصلباً ولو تدريجياً لخطاب المواطنة و “الأقلية العربية في إسرائيل”. إضافة إلى ذلك، يحسب لدولة الإحتلال دوماً “نفسها الطويل”، فبدء تنفيذ هذا المخطط قد يستهلك بعض سنوات، على أيام الغضب القادمة أن توازيها وأن تستمد العزيمة من قوة الحق للاستمرار والثبات وطول النفس.