دقت عقارب الساعة السادسة مساء، فحان موعد الرحيل عن البلد الذي ارتبطت به على مدار نحو أربعة أعوام، هنا أحببت بقلبي أمورا كثيرة، وتركت لعقلي أن يحب أخرى، وإن كانت مغايرة لهواي، كالطقس مثلا، لكني كنت محبا ومنتميا للمكان، بقلبي وعقلي وجوارحي، فهذا البلد احتضنني، استضافتني قلوب أهله وبيوتهم، وتنقلت مصليا وإماما في مساجده، وقارئا وباحثا في مكتباته، وطالبا في أعرق جامعاته (مالايا).
قبل موعد الرحلة، أقلعت نحو الماضي، منذ أول يوم زرت فيه هذا البلد، ذكرت الصعاب التي واجهتني، وخاصة في الأيام الأولى، اختلاف اللغة والثقافة، البعد عن الأهل والأحبة، صعوبات الدراسة والحياة، وذكرت أيضا الأيام والساعات الرائعة، التي قضيتها بصحبة الزملاء، أثناء الدراسة والبحث في كليات الجامعة ومكتباتها، وكذلك ساعات الرياضة في ملاعبها.
أقلعت الطائرة وأنا أطوف بذكرياتي، على الأرض وفي الجو، أودع ذلك كله، أودع كل من عرفت ومن لم أعرف، أودع الأساتذة والزملاء، الجامعات، المساجد، البيوت، أودع بلدا راقيا بصفاء سريرة شعبه، وواعدا بجهود أبناءه.
أودع ماليزيا، متوجها إلى فلسطين الحبيبة، ارتفعت الطائرة ولم يعد بإمكاني رؤية جنة من جنان الأرض، حينها بدأت خواطر أخرى تجول في صدري، فأنا على بعد ساعات من أرضي التي عشقت وأحببت، خلال ساعات الرحلة، لم أنس أن غزة هي أكبر سجن في العالم، ودخولي إليها بمثابة قبول طوعي بالعزل عن العالم، هي سجن للجسد ولا شك، لكنها لم تكن أبدا سجنا للروح، وحكايا الإبداع والانتصار لأهلها لا تخفى على أحد، وأنا هنا أختار الروح على الجسد، أختار الباقي على الفاني، أفضل الخيار الأصعب، وهو أن أواجه التحديات فأقهرها، أسوة بأبناء هذا الجزء العزيز من الوطن.
تحديات الحصار الذي يحرم مليوني فلسطيني، من حقوقهم في التعليم والعلاج والتجارة، والتواصل الثقافي والفكري مع العالم، حصار يستمر لعشرة أعوام، لانت له وللحروب الحجارة والحديد، وما ضعفت النفوس لهما ولا استكانت.
اقتربت من بوابة غزة، فبدأت تفكيرا جديدا، كيف سأستقبل الأهل والأصدقاء؟، وعن ماذا سأحدثهم؟، وصلت بجسدي بعد أفكاري، وعلى بوابة غزة استقبلت مع غيري من المسافرين بابتسامة الصمود، ترحيب واحترام من الجميع، ابتسامات أكبرتها لعلمي بصعوبة واقع الناس، فمع أني عشت سنوات الحصار، لكن آخرها كانت أشد وأقسى.
في البيت شغلت أسبوعين باستقبال المهنئين، كان فرحهم وحبهم يزيدني اعجابا بانتصارهم على الجراح، أعجب من ثباتهم، لكن ذلك يزول عندما أذكر أن الله سبحانه وتعالى، تكفل لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالشام وأهله، صحيح أني وجدت بعض الناس، حتى من بعض المثقفين، أصابتهم حالة من الخمول، نتيجة الظروف الراهنة، وظهر ذلك من خلال أحاديثهم الناقمة على الواقع المعقد، وإن كانت بطابع فكاهي أحيانا، أو ترك العمل لتغيير الواقع نحو الأفضل، فمن وجهة نظرهم لم يعد هذا ممكنا.
نعم هذا موجود، وهنا يتحمل المثقف، راضيا كان أم مكرها أمانة إعادة روح الأمل للناس، فمنذ متى كانت وعورة الطريق تمنع صاحب طموح من بلوغ غايته؟، بعد أن يكون قد حدد هدفه بدقة، وبذل وسعه في دراسة الفرص والتحديات، ثم شحذ همته بطاقة إيجابية، بأن تخيل نفسه وقد حقق طموحه، فيحفزه ذلك على المسارعة والمثابرة.
وكثير أولئك في البلد المحاصر، الذين لم تزدهم البأساء، إلا عطاء من الوقت والجهد والمال قدر المستطاع، ولم تزدهم الضراء إلا مجاهدة للنفس والصعاب، قال تعالى: “وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” (البقرة:177).
أترك جنة من جنان الأرض، لكنها ستظل في قلبي، أعترف لها بالجميل ما حييت، وأعود لجنة الرباط، التي عشقت أرضها وماءها وهواءها، فأخلص لها مع كل عاشق، نعمل لها جميعا، حتى بلوغ الغاية، وتمام الرسالة، وأداء الأمانة، أمانة الدين والوطن، وهي إنهاء الحصار والاحتلال الإسرائيلي.