تنتشر في ھذه الفترة من العام الكثیر من الآراء والكتابات عن التخطیط للعام المقبل بین مؤید متحمس ومعارض مستھزئ، الأمر الذي دفعني لأسئلة مھمة متكررة: ما جدوى التخطیط؟ ھل الأجدى أن أسیر وفق خطة صارمة دقیقة، أم الأولى ترك الحیاة على سجیتھا وعیشھا دون تخطیط مسبق.
العالم حولنا یصبح أكثر إحباطًا یومًا بعد یوم، فلا نسمع حولنا إلا الكوارث والمصائب والنزاعات حتى وصل بنا الحال بأیام كثیرة أن نقرر ألا نفعل شیئًا بكل معنى الكلمة، ونكره كل تلك الخطط والأھداف التي ترھقنا في بعض الأحیان، فبلادنا تضیق بنا أكثر وفرص التطور أصبحت تحتاج منا جھدًا أكبر وأكبر، وربما منع من السفر أو إغلاق حاجز لفترة طویلة ببلدي من الممكن أن یلغي مخططًا لسنة كاملة، أو لربما وعكة صحیة أو حادث لشخص عزیز كان سیدمر كل ما أسعى إلیه.
في سنة من السنوات وصلت عدد صفحات خطتي لعشر صفحات!
في مرحلة من مراحل عمري كنت أقرأ كتب التنمیة البشریة، وأحفظ أھم عباراتھا كما الكثیرین، وكنت في نھایة كل عام أشتري المزید من الكتب لأكتب خطتي المثالیة للعام المقبل، ففي سنة من السنوات وصلت عدد صفحات خطتي لعشر صفحات! نعم دونت فیھا أدق التفاصیل من عدد الكتب التي سأقرأھا في كل شھر، وعلاقاتي الاجتماعیة وأوقاتھا، حددت رقم أول راتب سأتقاضاه بدوام جزئي خلال الدراسة، وعدد أكواب القھوة والمشروبات التي سأتناولھا والكثیر الكثیر من التفاصیل! حتى وصلت لآخر العام ولم أحقق ما یزید عن 5% منھا، فكانت سنة الإحباط بكل معنى الكلمة، وبالطبع كانت ردة فعلي أنني لم أخطط بعدھا.
بعد كل ما سبق وتغیري المستمر والسعي الدائم لفھم الأمور بطریقة أفضل، ھل أخطط الآن؟ نعم أقوم بالتخطیط بدایة كل عام لأنني أستغل حماس الإنسان للبدایات ورغبته في التغییر والتجدید والالتزام، أخطط لأنني عرفت أن التخطیط ھو أن أحدد ما أطمح إلیه باختلاف ظروف الحیاة، وبأھداف مكتوبة كانت أو غیر مكتوبة، فھو تذكیر مستمر بأنه ما یزال ھناك عمر وزمان ومكان من الممكن أن أحقق فیه ما أرید، أخطط لأنني أصبحت أكثر واقعیة فيما أرید، ولأن الشخصیات مختلفة، بعضھا مثلي تحتاج لأن ترى وتجدول كل ما ستقوم به.
التخطیط بنظري ھو أن أضع مجموعة من الأھداف محددة بزمن متباعد واقعي أراعي فیھا الأیام التي استیقظ فیھا بنشاط وحماس وإیجابیة لأنجز أعظم الأعمال والأھداف
التخطیط لا یكون أبدًا بمجموعة أوراق یكتب بھا تفاصیل التفاصیل من الحیاة التي لا تسبب لاحقًا إلا كل الإحباط والتعاسة، وھي لیست إجبارًا وإكراھًا على شيء معین يومًا، خاصة لأولئك الذین لا یمتلكون النفسیة والقدرة والظروف على أن ینظروا لأبعد من أسبوع، كما أن التخطیط لیس مجموعة أوراق تعلق على جدران المنزل لتشكل لك ھمًا إضافیًا بدلاً من أن تكون دافعًا للعمل والإصرار.
التخطیط بنظري ھو أن أضع مجموعة من الأھداف محددة بزمن متباعد واقعي أراعي فیھا الأیام التي استیقظ فیھا بنشاط وحماس وإیجابیة لأنجز أعظم الأعمال والأھداف، وبنفس الوقت أراعي فیھا الأوقات التي لا أستطیع فیھا التفوه بكلمة أو الابتسام أو التخلص من الإحباط، وھو مجموعة جمل تساعدني على التغییر وتعلم الجدید والتطور في مجال عملي والاستمتاع أكثر بما أقوم به في كل یوم من إنجاز لتحدٍ معین، أو إتمام ھدف كنت أسعى إلیه منذ مدة، وھو أن نبحث عن مجالات جدیدة في الحیاة نحبھا وتبعدنا عن صخب نعیشه بكل الأوقات.
ربما یتساءل البعض ممن عایش نماذجًا یعتقد أنھا لم تخطط یومًا من الأیام لكنھا نجحت ووصلت لمراتب علیا وحققت أمورًا كان غیرھا یسعى لھا بكل تخطیط وتنظیم، وھنا یجب أن أشیر أولاً إلى أن كثیرًا من الناجحین یمارسون التخطیط الخفي الذي یشكل أحد ملكاتھم الداخلیة ومھاراتھم الأصیلة، دون أن یظھروه كما یرید له خبراء التنمیة البشریة، وثانیًا أن كثیرًا من الظروف تشكل عوامل إیجابیة لنجاحات الكثیرین، ولكن غیرھم بحاجة إلى تخطیط وترتیب لیسھلوا ظروفھم المعقدة والمتشابكة، مما یعني أن التخطیط لا یعني النجاح.
ولا یعني أن كل ناجح قد خطط لنجاحه كما ترتسم عند الكثیرین صورة التخطیط النمطیة، حیث إن وظیفة التخطیط وظیفة تنظیمیة تحسینیة أساسیة بدایة بفھم الوضع الحالي وما یملك الإنسان من قدرات وإمكانیات ومن ثم وضع أھداف تسعى لتعدیل شيء في الواقع والتحسین والتطور للمستقبل بمواصفات وشروط تكون واقعیة وقابلة للتطبیق والتحقیق ومحددة، وتنتھي بخطة تساعد على تطبیق ھذه الأھداف، وفي حال فھم الواحد منا ھذا التصور واستخدمه لتحقیق أھدافه فستكون حیاته بنظري أوضح وأكثر ترتیبًا.