لطالما لعبت الأطراف الإقليمية والدولية دورًا مهمًا في تسوية النزعات الداخلية إما من حيث أن النزاع الداخلي يكون مرتبطا بشكل مباشر بدعم الأطراف الخارجية حيث تعمل هذه الأطراف على الضغط على الأطراف المحلية من اجل التخلي عن الطابع العسكري والاندماج في العملية التفاوضية.
أو من خلال تدخل تلك الجهات الخارجية كطرف ثالث في النزاع، والاتفاق الروسي التركي يندرج في هذا السياق حيث مارست روسيا وتركيا من دور الضاغط على النظام السوري والمعارضة المسلحة من اجل التوصل إلى اتفاق لوقف اطلاق النار يمهد لتسوية سياسية شاملة سيتم التفاوض حولها لاحقا، وقد لعبت موسكو دورا بارزا في تغيير موازين القوى العسكرية لصالح النظام السوري ولذلك أصبحت امكانات ضغط كبيرة على هذا النظام ، في المقابل الذي لعبت فيه تركيا دور الداعم الرئيسي للمعارضة السورية المسلحة عسكريا وسياسيا ، ولذلك فان الوضع االعسكري والسياسي لهذه المعارضة على الأقل في الوقت الراهن مرتبط إلى حد كبير بما تقرره تركيا.
الدوافع الروسية والتركية للاتفاق
عرف الاتفاق روسيا وتركيا باعتبارهما الضامنان الأساسيان لهذا الاتفاق وهذا يعني أن هذا الاتفاق يعكس رؤيتهما المشتركة للصورة التي يجب أن تشكل المشهد المستقبلي في سوريا ، ومع ذلك فان كلا الطرفان يملكان دوافع مختلفة للإسراع في إبرام هذا الاتفاق ، أما بالنسبة الى روسيا فهي تخشى من تأثيرات تنفيذ القرار الأمريكي رفع القيود على تزيد المعارضة المسلحة بالصواريخ المضادة للطيران التي اتخذنه الولايات المتحدة مؤخرا.
وهذا سيحسن كثيرا من الوضع العسكري للمعارضة المسلحة يسمح لها بمواجهة سلاح الجو الروسي الذي كان له دور كبير في تغيير موازين القوى العسكرية لصالح النظام السوري ، ومن جهة ثانية تسعى موسكو إلى التسريع في إيجاد تسوية سياسية شاملة تقلص من ردود الفعل الانتقامية التي باتت تتعرض لها روسيا ، والتي من الممكن أن تثير مع مرور الوقت ردود فعل قوية لدى الرأي العام الروسي، ومن جهة ثالثة في ترسيم روسيا لصورة الراعي للسلام كبديل عن الصورة المطروحة حاليا والتي تربط موسكو بالمجازر المرتكبة في حق الشعب الروسي .
أما بالنسبة إلى تركيا فان تملك دوافع مختلفة اتجاه التأسيس لهذا الاتفاق ، فمن جهة أولى تسعى تركيا إلى التفرغ بشكل كامل لمعركتها اتجاه التنظيمات التي تهدد الأمن القومي التركي في الوقت الحالي سواءا ما تعلق بتنظيم الدولة الإسلامية، أو التنظيمات المسلحة الكردية وذلك من خلال توجيه عناصر المعارضة المسلحة بشكل كامل إلى محاربة تلك التنظيمات بدل محاربة نظام بشار الأسد ويرتبط ذلك بالخسائر البشرية في صفوف الجيش التركي والتي باتت تعرفها ما تعرف بفوات درع الفرات، أي أن تركيا تسعى إلى إعطاء دور اكبر للمعارضة المسلحة التركية في مواجهة تلك التنظيمات وتقليل الاعتماد على عناصر الجيش التركي.
كما تسعى تركيا من جهة أخرى من خلال هذا الاتفاق إلى تثبيت صورة الدولة الأكثر دفاعا عن دم الشعب السوري ، والتي بدا التشكيك بها منذ أن بدأت تركيا تنشغل بمحاربة التنظيمات الإرهابية ، كما أن تركيا تسعى من خلال هذا الاتفاق الى إبداء رؤية انتقامية اتجاه الدول الغربية والتي تعتبر تركيا أنها متورطة بشكل مباشر في المحاولة الانقلابية على نظام الرئيس اوردغان.
بالإضافة الى تورطها المباشر في دعم التنظيمات التي تهدد الأمن القومي التركي ، وبذلك يكون هذا الاتفاق بالنسبة الىتركيا محطة لاختبار مدى القدرة على التأسيس لعلاقات تركية – روسية تكون إلى حد كبير بديلا عن التحالف التقليد بين تركيا والدول الغربية ، ويشترك كل من تركيا وروسيا في دافع وحيد وهو المتعلق بتوقيع اتفاق نفطي جديد يلغي الكثير من مظاهر التنافس الجيبولتيكي في النزاع السوري.
عوائق جدية اتجاه هذا الاتفاق
وبغض النظر عن اختلاف الدوافع الروسية والتركية فإنها توجت في النهاية بطرح اتفاق لوقف إطلاق النار يمهد من وجهة نظرهما لقيام تسوية سياسية شاملة ، ومع ذلك فان هذا الاتفاق يصطدم بمجموعة من العوائق الجوهرية والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
الموقف الإيراني
من اللافت للانتباه أن لا يعتبر هذا الاتفاق إيران باعتبارها ضمان ثالثا له ، كما أن المباركة المتأخرة لإيران لهذا الاتفاق يفهم من خلاها عدم رضا إيراني عن تفاصيله ، وهناك في الحقيقية مجموعة من المبررات الموضوعية التي تبرر القلق الإيراني فإيران تعتبر أن اشتراكها في النزاع السوري هو استكمال لمشروع الثورة الإسلامية التي يجب أن تكتسب مرتكز استراتجي آخر في سوريا وهذا يعني عمليا ضرورة تغيير التركيبة الديمغرافية لسوريا وما دام أن هذا الأمر لم يتحقق عمليا فان المواجهات المسلحة لا يجب أن تتوقف.
حيث تعمل إيران على قيادة تشكيلة متنوعة جدا من الميليشيات الطائفية المسلحة والتي توجهها كلها لتحقيق هذا الغرض ، ولم تسعى إيران لتكون طرفا ثالثا ضامنا لهذا الاتفاق حتى لا تكون محرجة امام المجتمع الدولي عندما تحين اللحظة المناسبة للانقلاب عليه وتستفيد إيران في ذلك من سيطرتها على قيادة القوات على الأرض وهذا ما يعطيها أهمية عسكرية اكبر.
ومن وجهة نظري أن النزاع في سوريا سيعاد تحفيزه على أساس الصراع على تقليص النفوذ الإيراني حيث تضغط إسرائيل على إدارة دونالد ترامب من اجل توجيه الموقف الأمريكي اتجاه النزاع السوري في هذا المسار وتتحفز الدول الخليجية لتمويل التوجه الأمريكي وهي المتخوفة جدا من تسليم سوريا للنفوذ الايراني المباشر ويدرك كل من روسيا وتركيا للاحتمالية الكبيرة لحدوث هذه التطورات وهذا احد الدوافع الأساسية للمسارعة في توقيع الاتفاق.
وبصورة عامة تقدر إيران أن هذا الاتفاق يعكس خطورة التقارب الروسي التركي على المصالح الإيرانية ليس في سوريا وحدها ولكن في المنطقة كلها، ولذا ستحاول ستسعى إيران تعطيل هذا الاتفاق حتى لا يكون محطة تأسيسية لتحالف روسي تركي.
بقاء النظام السوري
من اللافت للانتباه أيضا أن كلا من تركيا وروسيا ليس لهما مشكلة في ذهاب نظام بشار الأسد وان بدرجات متفاوتة حيث تبدي تركيا موقف أكثر زحما في ذلك ، في حين أن الموقف الإيراني يدافع بشدة عن بقاء هذا النظام ، وقد كان الرد الأولي للنظام السوري على هذا الاتفاق مرتبط بالتشكيك في نوايا الدولة التركية.
ومسالة بقاء نظام الأسد ستطرح بشدة في المفاوضات المزمع عقدها في العاصمة الكازخستنانية حيث أن الطرف المعارض الذي تم تحديد هو الهيئة العليا للمفاوضات والتي تصر على تدشين مرحلة انتقالية لا يكون لنظام الأسد بعدها أي دور في المشهد السياسي السوري ، وسيستفيد الطرف المعارض من تجدد المظاهرات الشعبية اتجاه نظام بشار الأسد.
وبذلك لن تكون مسالة بقاء الأسد مثيرة للخلاف فقط بين المعارضة والنظام السوري ولكن بين النظام السوري و إيران من جهة وروسيا وتركيا من جهة أخرى وهذا يعكس أن كل من النظام السوري وإيران منزعجان من هذا الاتفاق حتى وان لم يعبرا عن ذلك بشكل مباشر ولكن سلوكها العسكري على ارض الواقع سيتجه الى التعبير عن هذا الانزعاج من خلال عدم الالتزام التام بتثبيت اتفاق إطلاق النار.
حيث تتلخص رؤية النظام السوري وإيران في أن معركة حلب تسمح بمواصلة الحسم العسكري للنزاع في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة ، وان هذا الاتفاق يسمح للمعارضة بالتفاوض على بقاء النظام وهو ما يعكس إستراتجية استباقية تركية ، في حين أن لو استمر الحسم العسكري فانه سيتم القضاء على تلك التنظيمات بالشكل الذي يلغي التفاوض أصلا حول بقاء النظام.