صراع الزعامات.. هل يخرج إمام أوغلو عن السيطرة الحزبية في تركيا؟

جدّد رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو (53 عامًا)، التذكير بسخونة معركة انتخابات البلديات التركية في مارس/ آذار 2024، عبر إعلان نيته الترشح لرئاسة البلدية دون انتظار موافقة أو رفض حزبه (الشعب الجمهوري المعارض)، والتعهُّد بأن يكون “أنجح رئيس للمدينة المقدسة”.
يرى إمام أوغلو، بحسب تصريحاته على هامش مؤتمر صحفي في إسطنبول، أن “الفوز في إسطنبول يقود إلى مواقع مهمة على الصعيد الوطني. لم أقل إنني مرشح حزب الشعب الجمهوري حتى لا أثير مشكلة. أعي جيدًا طبيعة الإجراءات الحزبية، ولا أرغب في الإدلاء بتصريحات غير مسؤولة أو غير منضبطة”.
غير أن خطوة إمام أوغلو ودعوته لزملائه في حزب الشعب الجمهوري بـ”عدم خسارة استحقاق انتخابي آخر وبذل الجهود من أجل هذا الهدف”، فتحتا باب التكهُّن على مصراعيه، حول التفاعلات السياسية المتوقعة داخل أقدم حزب سياسي في تركيا، ومستقبل العلاقة مع زعيم الحزب كمال كليجدار أوغلو.
يأتي هذا قبل المؤتمر العام للحزب في الخريف المقبل، دون أن تتضح معالم المعركة المؤجّلة بين إمام أوغلو وكليجدار أوغلو، وهل ما يحدث من انقسام حزبي داخلي يمهّد لانشقاق جديد، وإلى أي مدى ينعكس ذلك على تحالف الطاولة السداسية قبل انتخابات المحليات.
عراقيل الزعيم الشاب
منذ إعلان أكرم إمام أوغلو، نجم جيل الشباب في صفوف حزب الشعب الجمهوري، نيته الترشح لرئيس بلدية إسطنبول، ذات الرمزية الخاصة بين 81 بلدية تركية، بعدما انطلق منها رجب طيب أردوغان لرئاسة تركيا، بدا كأنه يضع أصدقاءه في معسكر المعارضة وخصومه في تحالف الشعب الحاكم أمام الأمر الواقع.
منذ حوالي 7 أشهر من انتخابات المحليات التركية، آخر استحقاق انتخابي خلال الـ 5 سنوات المقبلة، بعد إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية والانتخابات التشريعية في مايو/ أيار الماضي، يحاول إمام أوغلو قطع الطريق على أي محاولات داخل حزبه (الشعب الجمهوري) تعترض ترشحه لرئاسة بلدية إسطنبول الكبرى.
مصدر الاعتراض المتوقع هو أن إمام أوغلو يواجه عشرات الدعاوى القضائية، المرفوعة من قبل جهات حكومية وحزبية وشخصيات محسوبة على التحالف الحاكم في تركيا، تهدد مصيره السياسي، كون مسارها السلبي قد يتسبّب في عزله من منصبه، أو سجنه وحرمانه من ممارسة العمل السياسي.
خلال انتخابات المحليات الماضية، حاولت المعارضة إظهار الاصطفاف خلف إمام أوغلو، وحشد ناخبيها لتمكينه من رئاسة بلدية إسطنبول
ويحاكَم إمام أوغلو غيابيًّا منذ يونيو/ حزيران الماضي في قضية تعود إلى عام 2015، عندما كان يتولى رئاسة بلدية بيليك دوزو (التابعة لإسطنبول)، ووفق أوراق القضية فهو متهم بـ”تزوير عقد مالي”، لكنه يؤكد أن “تحقيقًا سابقًا في العقد خلص إلى عدم وجود أي مخالفة”.
وقضت محكمة تركية قبل الاستئناف في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بسجن إمام أوغلو عامَين و7 أشهر و15 يومًا، وتجميد نشاطه السياسي لمدة 5 سنوات تماشيًا مع المادة 53 من قانون العقوبات، بتهمة “إهانة أعضاء الهيئة العليا للانتخابات”، على خلفية قرار الهيئة بإعادة انتخابات المحليات في بلدية إسطنبول الكبرى.
مسيرة إمام أوغلو
انتزاع إمام أوغلو رئاسة مدينة إسطنبول عام 2019، بعدما ظلت في يد المحافظين الأتراك (بقيادة أردوغان) منذ عام 1994، فجّر مفاجأة خلال ترشحه لرئاسة البلدية الماضية، بالفوز على منافسه بن علي يلدريم (رئيس الحكومة السابق ومرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم).
وفيما ألغت اللجنة العليا للانتخابات نتائج انتخابات المحليات في بلدية إسطنبول (يقطنها حوالي 16 مليون نسمة، بينهم 10 ملايين صوت انتخابي) في 31 مارس/ آذار، بحجّة وقوع تجاوزات ومخالفات خلال العملية الانتخابية، حسم إمام أوغلو المعركة الانتخابية بحصوله على 4 ملايين و741 ألفًا و885 صوتًا.
خلال انتخابات المحليات الماضية، حاولت المعارضة إظهار الاصطفاف خلف إمام أوغلو، وحشد ناخبيها لتمكينه من رئاسة بلدية إسطنبول، حيث تعاونت أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والشعوب الديمقراطي في الانتخابات، التي حسمت المعركة لصالح المعارضة.
حراك داخل الجمهوريين
لكن المتغيرات اللاحقة تشير إلى أن العلاقة بين إمام أوغلو وكليجدار أوغلو تمضي في طريق اللاعودة، حتى مع التصريحات التصالحية الصادرة عنهما، منذ إخفاق الأخير في حسم انتخابات رئاسة الجمهورية التي فاز بها الرئيس رجب طيب أردوغان، وفشله في قيادة تحالف الطاولة السداسية لانتزاع الأغلبية البرلمانية.
بدأت الأزمة الداخلية تتصاعد منذ إعلان النتائج الرسمية للانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية)، ما دفع إمام أوغلو حينها للقول: “نعلم التحديات التي تنتظرنا. انتهت انتخابات 28 مايو/ أيار، بعد خيبة أمل مماثلة قبل 5 سنوات. الرحلة طويلة وما زلنا شبابًا. لا تقلقوا، كل شيء يبدأ من جديد. لا تنسوا أن الثابت الوحيد هو التغيير. من الآن فصاعدًا لن نكرر نفس الخطوات وننتظر نتائج مختلفة”.
لا يزال رئيس حزب الشعب الجمهوري، كليجدار أوغلو، يتمسّك برؤية تقليدية في إدارة الحزب الأقدم في المشهد السياسي التركي، رغم أن رؤيته تسبّبت في انقسامات وانشقاقات
ويقود إمام أوغلو، الذي التحق بحزب الشعب الجمهوري، مرحلة جديدة تعتمد على إحداث تغييرات هيكلية في صفوف الحزب وآلياته، مدعومًا بالعديد من القيادات الوسيطة في الحزب، التي شرعت منذ فترة في إجراء عملية تقييم لأداء الحزب (يرأسه كليجدار أوغلو منذ عام 2010).
وفيما أبدى إمام أوغلو موقفًا إيجابيًّا خلال تحضير حزب الشعب الجمهوري (زعيم الكيانات الحزبية المعارضة) للانتخابات العامة في مايو/ أيار الماضي، بعدما تخلى عن طموحه السياسي لصالح رئيس الحزب كليجدار أوغلو، إلا أن الإخفاقات اللاحقة أظهرت حجم الفجوة الكبيرة في إدارة الحزب.
ومع ذلك، لا يزال رئيس حزب الشعب الجمهوري، كليجدار أوغلو، يتمسّك برؤية تقليدية في إدارة الحزب الأقدم في المشهد السياسي التركي، رغم أن رؤيته تسبّبت في انقسامات وانشقاقات سابقة لم تكن مرتبطة بفترة الانتخابات، لا سيما إدارة الحزب بالآليات القديمة وصراع الأجيال وغياب الديمقراطية الداخلية.
يشهد حزب الشعب الجمهوري حراكًا داخليًّا يتسع نطاقه منذ عام 2015، وفيما تسبّب في انشقاقات سابقة (واقعة محرم إينجه) فإن تداعيات الانتخابات الأخيرة تهدد الأجواء الداخلية في الحزب، نتيجة فشل رئيس الحزب، كمال كليجدار أوغلو، في الوفاء بحصيلة التعهُّدات السياسية والانتخابية.
أزمة الحزب الكبير
يهدد الانقسام السياسي حزب الشعب الجمهوري في ظل حالة التصدع والاستقطاب داخله، وهي حالة ليست مفاجئة لكنها تبلورت عبر عدة محطات: قرارات قيادية فوقية لا تراعي الواقع على الأرض، ومعارضة الأفكار الجديدة والهيمنة على قيادة الحزب، مع الفشل في تجاوز هذه الأزمات.
وممّا يغذي الانقسامات داخل حزب الشعب الجمهوري، التناقضات الداخلية وضعف البنية التنظيمية الداخلية وهشاشتها، مع ضبابية آليات صنع القرار الداخلي التنظيمي والسياسي، ارتباطًا بنشأة النظام السياسي التركي الذي قام على مشروع الحزب الواحد، منذ معاهدة لوزان (23 يوليو/ تموز 1923) وولادة الجمهورية التركية.
يفيد إعلان إمام أوغلو نيته الترشح لرئاسة بلدية إسطنبول دون انتظار قرار رئاسة الحزب، بأن الخلافات الداخلية متصاعدة داخل حزب الشعب الجمهوري، نتيجة المطالبة بتغيير المجلس القيادي للحزب بعد نتائج الانتخابات العامة في تركيا.
كما تعبّر التفاعلات الجارية حاليًّا داخل الحزب عن مبادرة إمام أوغلو، بإطلاق العنان لطموحاته المتمثلة برئاسة بلدية اسطنبول وعضوية المجلس القيادي للحزب، تمهيدًا لرئاسته لاحقًا، رغم أن فرص إمام أوغلو لم تعد كما كانت بعد عام 2019، في ضوء القضايا التي تلاحقه (بغضّ النظر عن رؤيته لها) وقوة خصومه السياسيين.
وبحسب مصادر “نون بوست”، تؤسّس هذه التطورات لصراع داخلي في الحزب نتيجة تبايُن المصالح والتطلعات التي يصعب التوفيق بينها، ومع غياب قنوات التواصل بين الأجنحة المتصارعة يركّز كل طرف على إزاحة الآخر، فتتّسع دائرة الصراع الذي لن يتوقف عند الحزب، بل سيطول تحالفاته السياسية.
تحديات تحالف المعارضة
كانت رسالة إمام أوغلو واضحة لتحالف الطاولة السداسية، خلال إعلان نيته الترشح في الانتخابات البلدية المقبلة، داعيًا إلى “تحالفات سياسية متينة وعابرة للأحزاب، لضمان حسم الانتخابات”.
على خلفية تصريحات إمام أوغلو، تعلقت الأنظار بتداعيات هذه الخطوة على مستقبل تحالف الطاولة السداسية، حيث لا ينسى الأتراك ما حدث خلال الاجتماعات التشاورية قبل الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة في مايو/ أيار الماضي، وكيف تحكّمت حالة الارتباك في خوض التحالف للانتخابات والإخفاق فيها.
الارتباك المتواصل حتى الآن ليس فقط في تناقض التوجهات والبرامج والأهداف، بل في رمزية من يقود التحالف، رغم توافق “الأمر الواقع” الذي فرض رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، على حساب إمام أوغلو الذي كان الأقرب لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية.
يقول مصدر لـ”نون بوست” إن تحالف المعارضة “يبحث عن شخصية توافقية وتفاهم مشترك، قبل الانتخابات المحلية المصيرية في مارس/ آذار المقبل، ما يكشف عن صراع زعامات في الكواليس، ليس فقط داخل حزب الشعب الجمهوري لكن داخل تحالف الطاولة السداسية نفسه”.
ويرى المصدر أن “التحالف مطالَب بوضع عناوين عريضة، تقنع الرأي العام الداخلي والخارجي بتجاوز خلافات الأفكار والبرامج المتعارضة لأحزاب الطاولة السداسية (حزب الشعب الجمهوري، وحزب الجيد القومي، وحزب السعادة المحافظ، وحزب الديمقراطية والتقدم، ورئيس حزب المستقبل، والحزب الديمقراطي)”.
ورغم أن “التغيير” تصدّر شعارات المعارضة خلال الانتخابات الأخيرة، لكنها لم تقدم أي شواهد تدلّل على إمكانية إحداثها للتغيير المرتقب، وأن “التغيير” يجب أن يبدأ من داخل أحزاب المعارضة نفسها، عبر الإطاحة بالقيادات والكوادر غير القادرة على التفاعل مع المتغيرات، ومنح الفرصة للكفاءات الحزبية.
الحاكم يصحّح المسار
تمثل الانتخابات العامة التركية (14-28 مايو/ أيار الماضي، والتي خاضها أكثر من 26 حزبًا سياسيًّا من إجمالي 125 حزبًا) مفترق طرق في مسيرة البلاد، بحكم أنه الاستحقاق الأكثر أهمية منذ تأسيس الجمهورية، فضلًا عن تأثير الانتخابات المرتقب على عدة ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية وقضايا السياسة الخارجية.
أكدت نتائج الانتخابات العامة سطوة تحالف الشعب (الحاكم)، فبعد مشاركة حوالي 88.92% داخل البلاد و53.80% خارجها بحسب الهيئة العليا للانتخابات التركية، فاز أردوغان برئاسة الجمهورية، وحصل حزبه العدالة والتنمية على 268 مقعدًا برلماني من إجمالي 600 مقعد.
تعدّ التحركات الحالية داخل التحالف انتصارًا لرؤية رئيسة حزب الجيد ميرال أكشنار، التي اعترضت على ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو في انتخابات رئاسة الجمهورية الماضية
كشفت نتيجة الانتخابات البرلمانية التي خاضتها أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والرفاه الجديد، وهدى بار الكردي، والوحدة الكبرى، واليسار الديمقراطي، عن قوة تحالف أردوغان السياسية والشعبية، حتى أن أقوى حزب معارض (الشعب الجمهوري) لم يحصل على أكثر من 169 مقعدًا برلمانيًّا.
أمام هذه “الآثار السياسية السلبية، ستحاول أحزاب تحالف الطاولة السياسية الحفاظ على ماء الوجه خلال انتخابات المحليات المقبلة، وستقلّ حالة المغامرة السياسية، كون الاستحقاق المقبل سيكون آخر انتخابات خلال السنوات الخمس المقبلة، وأن انتظار أي تغيير سياسي طبيعي لن يكون متاحًا”، بحسب المصدر.
تعدّ التحركات الحالية داخل التحالف انتصارًا لرؤية رئيسة حزب الجيد ميرال أكشنار، التي اعترضت على ترشيح رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو في انتخابات رئاسة الجمهورية الماضية، قبل القبول على مضض بتلك الخطوة، ضمن صراع بارد داخل التحالف تحول إلى معركة سياسية معلنة حينها.
حتى لا تغرق السفينة
الواضح أن التحالف يمرّ بمخاض صعب لإعادة ترتيب البيت الداخلي، لتجاوز الخلافات والانخراط الحقيقي والفاعل في المشهد السياسي، حتى يثري الحياة السياسية ويزيد ديناميكيتها، وينشّط الحراك السياسي الديمقراطي، ويجدد دماء النظام السياسي، ويعزز دوران النخبة السياسية عبر تنمية وتنويع قنوات المشاركة.
تعي أحزاب التحالف (والقوى السياسية المرتبطة بها) أنها لا ترغب في التحول إلى ديكور سياسي (شكل ديمقراطي)، وأنها لن تكون معارضة هشّة تعجز بكل أطيافها عن تقديم بديل ملائم للنظام الحاكم، ما يتطلب العمل على تطوير ذاتها، وتقديم نفسها للجماهير بالصورة التي تعبّر عن برامجها وأهدافها.
نعم، لم تكن بلدية إسطنبول الكبرى استثناء خلال الانتخابات البلدية الأخيرة (لا تشترط نسبة مئوية، ويفوز فيها الأكثر حصولًا على الأصوات) بعدما خسرها الحزب الحاكم مع بلديات أخرى (أنقرة وإزمير وأنطاليا)، لكن تظل رمزية إسطنبول، العاصمة الاقتصادية والتاريخية والروحية، والجسر الرابط بين تركيا وأوروبا، هامة.
أيضًا، تمثل الإدارة المدنية لإسطنبول و80 مدينة كبرى في عموم تركيا نقطة ارتكاز مهمة خلال التحضير لانتخابات المحليات المقبلة، التي ستخوضها أحزاب المعارضة وتحالفاتها في أجواء ملبّدة بغيوم التشرذم، وفقدان البوصلة، وتقديم الذاتي على الموضوعي، حتى أن حزب الجيد يفكر في ترشيح أحد كوادره في إسطنبول.
في المقابل، تبدو عوامل الثقة متحققة في صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم، مدعومًا بنتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتجهيز أسماء قوية لخوض انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، مثل وزير البيئة والتطوير العمراني السابق مراد كوروم، ونائب رئيس كتلة الحزب في مجلس البلدية محمد غوكصو.
وسط معارك الأحزاب والتحالفات السياسية والانتخابية، يظل المواطن هو الفيصل في حسم الانتخابات في إسطنبول، ليس بالضرورة من انتخب إمام أوغلو في الانتخابات الماضية مؤيّد سياسي له، كون قاطنو المدينة يصطفّون خلف من يعزز الخدمات المقدمة، ويعمل على تذليل العقبات اليومية.