ردود فعل غاضبة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، بعد أيام قليلة من افتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي لمسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها بالعاصمة القاهرة، بمرافقة سلطان البهرة مفضل سيف الدين، الذي موّلت طائفته عملية التطوير والترميم.
وبعد افتتاح المسجد والضريح للزيارة، اعتبر آثاريون ومهتمون بالحفاظ على التراث الإسلامي أن ما حدث من ترميم ما هو إلا عملية ممنهجة لطمس وتشويه الهوية المصرية والإخلال بالتراث الإسلامي، الذي كان حتى وقت قريب ذا نكهة خاصة ميّزت العمارة الإسلامية في مصر تحديدًا دون باقي الدول العربية.
وصفَ عدد من المهتمين بالتراث ما حدث في مسجد السيدة نفيسة وقبله، وتحديدًا قبل عام ونصف من ترميم لمسجد الإمام الحسين بالعاصمة المصرية، بـ”إحلال وتجديد” وليس “ترميمًا وتطويرًا”.
بخلاف ذلك، أبدى عدد من الناشطين والمهتمين بحماية التراث تعجُّبهم من موقف الحكومة المصرية وصمتها، حيال عملية التشويه التي وصفوها بالمتعمّدة لمساجد آل بيت النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وبعض مساجد الدولة الفاطمية التي رمّمت بمعرفة وتمويل طائفة البهرة، والتي تشمل عدة مساجد وأضرحة منها الإمام الحسين، والسيدة رقية، والسيدة فاطمة، والسيدة سكينة، والسيدة حورية، والسيدة زينب، والسيد أحمد البدوي بمدينة طنطا شمالي مصر.
لماذا يهتم البهرة بترميم المساجد في مصر؟
اهتم البهرة بترميم مساجد وأضرحة آل البيت في مصر إضافة إلى المساجد التي بناها خلفاء الدولة الفاطمية، وكان آخرها تمويلهم عملية ترميم مسجد وضريح الإمام الحسين الذي تمَّ افتتاحه بالفعل، وكذلك ترميم مساجد الحاكم بأمر الله ومسجد الأقمر بشارع المعز بالقاهرة الفاطمية، لكن لماذا هذا الاهتمام بمساجد الدولة الفاطمية تحديدًا؟
في الأساس، البهرة بحسب المراجع الشحيحة المنشورة عنهم هم طائفة إسماعيلية مستعلية، يعترفون بالإمام “المستعلي”، ومن بعده “الآمر”، ثم ابنه “الطيب”، ويسمّون بـ”الطيبية”، وهناك فروق متعددة بينهم وبين باقي طوائف الشيعة، وتلك الطائفة هي إحدى طوائف الشيعة الغامضة.
وتقول المراجع إن أصلها من الفاطميين الشيعة الذين عاشوا في مصر إبّان العصر الفاطمي، وكان اسمهم “المستعلية الغربية” نسبة إلى أحمد المستعلي ابن الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وعندما انهارت الدولة الفاطمية وألغى صلاح الدين الأيوبي وجود الشيعة في مصر، هاجر كثير منهم وانتقلوا من بلد إلى آخر.
احتضنتهم الدولة الصليحية في اليمن لوقت طويل، ثم استقروا في جنوب الهند، وهناك تركوا السياسة وعملوا بالتجارة، واختلط بهم الهندوس الذين أسلموا فيما بعد وعُرفوا بـ”البهرة”، وهو لفظ هندي قديم بمعنى التاجر.
معتقدات دينية محل خلاف
بحسب الباحث في التاريخ وسيم عفيفي، فإن أركان الإسلام بالنسبة إلى البهرة هي سبعة بعكس ما اتفق عليه المسلمون، فهي بالنسبة إليهم الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، أما الحج بالنسبة إليهم فمقرّه الهند حيث روضة طاهر سيف الدين الإمام الـ 51 لهم.
بخلاف ذلك، يقول عفيفي في حديثه لـ”نون بوست” إن الصلاة بالنسبة إلى البهرة هي الاتصال بالإمام، والإمامة بالنسبة إليهم هي المحور الذي تدور حوله الفرائض التكليفية، و”يرى البهرة أيضًا مسألة الحلول بمعنى إحلال الإمام محل الله في صفة القدرة والخلق، فهم يرون أن صفات الله جلّ جلاله قد انصرفت إلى الإمام”.
ورغم وجود فتوى سابقة نُشرت على موقع دار الإفتاء المصرية بتاريخ 18 فبراير/ شباط 2014، وُصف البهرة بأنهم فرقة ضالة خارجة عن الإسلام، ولا بدَّ من معاملتهم معاملة المشركين فلا يجوز الأكل ممّا يذبحونه، ولا يجوز لمسلم الزواج من نسائهم.
ونشرت هذه الفتوى عدة مواقع محسوبة على النظام المصري، إلا أن تلك الفتوى حُذفت من موقع دار الإفتاء المصرية بمجرد بدء عمليات الترميم التي تموّلها طائفة البهرة داخل القاهرة الفاطمية، المدينة المقدسة بالنسبة إليها.
عن حذف تلك الفتوى، يقول وسيم عفيفي الباحث في التاريخ: “لست ضد الاجتهاد في الدين، لكن لماذا حذف فتوى قديمة نُشرت منذ سنوات؟ لماذا لا يتم تركها مع تقديم فتوى جديدة تدحضها مثلًا؟ فربما تصادف الفتوى القديمة أهواء البعض، إلا إذا كان هناك هدف من حذفها”.
خصوصية مسجد السيدة نفيسة
منذ قررت السيدة نفيسة الإقامة في مصر قبل نحو 1000 عام، أحبّها المصريون بشكل كبير واعتبروا ضريحها مكانًا مقدسًا حفظوا تفاصيله عن ظهر قلب، وتحول إلى مكان روحاني ومقصد الحكّام والخلفاء على مرّ العصور منذ وفاتها ودفنها في مصر عام 824م.
ويعود الفضل للخديوي عباس حلمي الثاني بإعادة بناء المسجد بشكله الحالي بعد حريق ضخم شبَّ فيه عام 1892، دون الإخلال بتفاصيل بنائه في العصور السابقة أو هويته التي حفرتها ذاكرة المصريين، لذا ليس من المستغرب أبدًا أن نجد هجومًا كبيرًا عقب افتتاح المسجد للجمهور بعد ترميمه بتمويل من طائفة البهرة.
طمس للهوية المصرية
اعتبر مهتمون بالتراث تحدث معهم “نون بوست” أن ما حدث عملية تشويه متعمّدة وطمس للمساجد الإسلامية في مصر، دون اعتبار لخصوصية الحالة المصرية في تشييد وبناء المساجد التي لا تشبه بأي حال من الأحوال غيرها من معالم الحضارة الإسلامية في أي بلد عربي آخر.
يقول إبراهيم طايع، أحد المهتمين بالتراث في حديثه لـ”نون بوست”، إن ما تمَّ داخل مسجد السيدة نفيسة ما هو إلا طمس للهوية والذاكرة المصرية، “عملية الترميم تقليدية وركيكة للغاية وغير مناسبة لمقام السيدة نفيسة، وما تمَّ من إزالة للأبواب والشبابيك الرخام ما هو إلا طمس لمعالم المسجد التي حفظناها وحفظها آباؤنا وأجدادنا، وهو أمر لم يحدثه أي حاكم مصري سابق”.
ويكمل: “الغريب أنه أيضًا تمَّ الاستغناء عن المقصورة الرئيسية للمقام، ونقلها إلى مسجد ابن عطاء السكندري دون الرجوع للمختصين، مع محو اسم السيدة نفيسة من عليها تمامًا”.
ويرى طايع أن ما يحدث من تطوير لمساجد القاهرة الفاطمية لا يمكن أن نطلق عليه سوى “إزالة وتشويه”، باستثناء مسجد الإمام الشافعي الذى تمَّ ترميمه بحرفية ولاقى استحسان الكثيرين.
ويختم طايع: “ما رمم، سواء في مسجد سيدنا الحسين أو السيدة نفيسة، أضرَّ وأهدر القيمة التاريخية لهما، وأتمنى تشكيل لجنة من الخبراء والمختصين لإيجاد حل لما تم من تشويه لتلك المساجد التاريخية”.
جريمة مكتملة الأركان
هناك عدة ملاحظات على ما سُمّي عملية الترميم التي وصفها البعض بالجريمة المكتملة الأركان ومحاولة لتدمير الحضارة المصرية، وهو ما أكّده الناشط السياسي زياد العليمي في تدوينة له عبر حسابه الشخصي على فيسبوك.
وأكد العليمي أن البهرة تبنّوا ترميم عدد من المساجد الفاطمية في عصور سابقة، لكن ما يتم ممّن يعتقدون أنهم يتحدثون باسم مصر من عملية تشويه لتراثها، يعد أمرًا مؤذيًا وخطرًا على التراث والحضارة المصريَّين.
ووجّه العليمي خلال تدوينته رسالة للقائمين على عملية التطوير في مصر، مفادها أن مصر ليست دبي إن كانت هناك محاولة لتقليدها، فمصر دولة قديمة قامت بها حضارات متعددة ومختلفة، ويجب الحفاظ على الهوية البصرية التي تركتها تلك الحضارات.
وقال العليمي: “إن كان هناك من يريد تدمير الحضارة المصرية عن جهل مقترن بعند وادّعاء معرفة أو عن عمّد.. على الأقل سيبوا (اتركوا) تاريخ بلدنا في حاله عشان ولادنا يلاقوا حاجة يفخروا بيها”.
صبغة شيعية
يعتقد الباحث في التاريخ وسيم عفيفي، أن البهرة يحاولون صبغ مساجد آل البيت في مصر بالصبغة الشيعية، وهو ما تم بالفعل، “لا يستطيع أحد الآن التفريق بين مسجد الحسين في كربلاء بالعراق حيث الجسد، ومسجد الحسين حاليًّا حيث دُفن رأس الحسين في قلب العاصمة المصرية، فقد صُبغ بعد ترميمه بصبغة شيعية واضحة تشبه كل مساجد ومراقد الشيعة في العالم الإسلامي، واختفت الروح المصرية المعروفة للجميع”.
ويشدد على أن “المشكلة الرئيسية حاليًّا هي الصمت الحكومي وعدم الالتفات للأصوات المنادية بضرورة وقف تشويه وطمس الروح المصرية من تلك المساجد التي يتولى البهرة ترميمها، وطالبنا بعد ترميم مسجد الحسين بضرورة مراعاة ذلك إلا أن أحدًا لم يستجب، فمثلًا خلال ترميم مسجد الحسين تمّت إزالة العمامة التي ترمز إلى العلم والتوقير لدى السنّة والمتصوفة، ووُضع بدلًا منها التاج مع رمز سيف ذو الفقار”.
ويضيف عفيفي: “التاج يرمز إلى الإمام المستتر، وهو الحاكم الفاطمي المنتسب إلى آل البيت، ورمزه التاج الذي تمَّ وضعه على ضريح الإمام الحسين، فهم يعتقدون أنه سيخرج يومًا من جدران مسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي، والذي تم تطويره أيضًا بمعرفة البهرة، وجميعها رموز يعتقد ويؤمن بها البهرة وحدهم”.
سرقة وفضيحة
المهندسة جاكلين سمير المشرفة على عملية تطوير مسجد السيدة نفيسة، خرجت في تصريحات صحفية لتنفي فكرة العشوائية عن عملية الترميم التي قامت بها، ووصفت منتقديها بـ”الناس الهدامة”، وعادت لتصفهم بالمفتين وعدم الفهم.
وبحسب تصريحاتها، فإن المهندس المصري القديم لا يمكن مجاراته الآن، وأنه سبق وتمَّ تطوير مسجد الحسين في 18 يومًا فقط بعد دراسة الحقبة التاريخية التي ينتمي إليها.
تصريحات المهندسة المسؤولة عن الترميم لم تمرَّ مرور الكرام، حيث قوبلت بسيل من الهجوم من قِبل آثاريين ومهتمين بالآثار الإسلامية، الذين طالبوا بضرورة وجود قطاع أثري، تكون مهمته تنسيق التعاون بين الإدارات المختلفة المعنية بتطوير القاهرة التاريخية.
محمد شافعي، وهو خطّاط ومصوّر وأحد المهتمين بالآثار الإسلامية، قال إن مصر مليئة بالمواهب التي كان من المفترض الاستعانة بها في عملية الترميم لكنهم مهمَّشون، بحسب تعبيره، لصالح تصدير بعض من عديمي الموهبة.
ويقول شافعي في حديثه لـ”نون بوست”، إن ما حدث من وجهة نظره هو محو وتدمير للهوية البصرية المتعارف عليها داخل مسجد السيدة نفيسة، وتعدّى الأمر ذلك إلى السرقة والسطو على أعمال فنانين آخرين.
وشرح شافعي: “تجديدات مسجد السيدة نفيسة جريمة وفضيحة لا يجب السكوت عنهما من المسؤولين، وكنا قد تحدثنا وقت افتتاح عمليات تطوير مسجد الحسين عن بعض الملاحظات فيما يخصّ الإزعاج البصري وسرقات الزخارف وبعض تصاميم الخط العربي، واعتقدنا أن الجهات المعنية ستضع تلك الملاحظات في الحسبان أثناء تطوير مسجد السيدة نفيسة، لكن ذلك لم يحدث”.
واستطرد: “رصدت سرقة أكثر من 20 تصميمًا لكتابات تمَّ نقلها على قطع رخام ولصقها على جدران المسجد بعد تدمير الكتابات الأصلية، يعني من قام بالتصميم كل ما فعله أن طبع بعض الخطوط العربية ولصقها على رخام ثم تمَّ وضعها في جنبات المسجد، فبأي منطق تم هذا وأين المسؤولون؟”.
ويضيف: “بخلاف الكتابات المسروقة من دون الرجوع إلى أصحابها بل وحذف توقيعهم منها، فهناك كتابات وزخارف ركيكة لا تتناسب مع مقام السيدة نفيسة، وأتساءل لماذا لم يتم الاستعانة بخطّاطين مصريين للمساهمة في عملية التطوير، بدلًا من سرقة أعمال فنانين غير مصريين، ومن المسؤول عن تلك الفضيحة؟”.
ويشير إلى أن “التاريخ المصري مليء بالموهوبين في كل المجالات، لكن يتم إقصاؤهم لسبب غير معلوم، مثلًا المسجد الكبير في قلب باريس تم بناؤه عام 1922، وشارك في إنشائه وتزيينه ما يقرب من 450 عاملًا مصريًّا من المختصين في الفنون الإسلامية، وما زال منبره الذي أهداه الملك فؤاد الأول لفرنسا شاهدًا على عظمة الفنان والخطّاط المصري سيد إبراهيم، الذي زيّنه بزخارف وكتابات متميزة”.
“كما ساهم الخطاط المصري محمد سعد الحداد في كتابة لوحات ومخطوطات مسجد الكويت الكبير عام 1979، وهو من أهم المساجد هناك، فكيف ونحن في عام 2023 تتم سرقة خطوط عربية من الإنترنت دون الاستعانة بخطاطين مصريين، ونحن لنا الريادة في الفنون الإسلامية بوجه عام وفن الخط العربي بشكل خاص”.
ويختم بحزن: “هناك أخبار تقول إن الحكومة تعتزم ترميم 6 مساجد أخرى في مسار أهل البيت بدعم من طائفة البهرة، ولا أعرف متى يمكن إيقاف تلك المهزلة، فهناك عدة مساجد تمَّ ترميمها تعود إلى عصور مختلفة لم يتم تشويهها أو طمس هويتها البصرية، كما جرى في مسجدَي الحسين والسيدة نفيسة”.
الباحث في التاريخ محمود عبده يقول لـ”نون بوست”، إنه يتوجب على الحكومة المصرية الخروج للردّ على كل خبراء الآثار الذين انتقدوا عملية تطوير مسجد السيدة نفيسة تحديدًا، ومحاسبة المسؤولين إن كان هناك تشويه قد حدث.
ويقول عبده: “مسجد السيدة نفيسة رممته البهرة في عصر الرئيس السادات، لكن لم يحدث ما حدث الآن من محو لهويته البصرية كما حدث في عهد السيسي، وأعتقد أن المشكلة ليست في تمويل البهرة أو رغبتهم في إحداث هذا التغيير في الطراز المعماري لمساجد آل البيت، بقدر ما هو صمت وتوجُّه لتشويه تلك المساجد من جانب جهات أتمنى أن تعلن عنها الحكومة المصرية”.