“دعوا التّنين الصيني نائمًا، لأنه إن استيقظ فلن يستطيع أحدٌ إيقافه!”
عبارةٌ قالها القائد العسكري الفرنسي الشهير نابليون بونابرت قبل أكثر من 200 عام، عبّر من خلالها بوضوحٍ عمّا يمكن لبلد المليار ونصف فعله، إن استجمعت قواها ونفضت غبار النوم والتّراخي عن أكتافها! ويبدو أنّ الأوان قد آن، فعلى مدى سنوات العقود الماضية، شهد العالم بأسره مراحل نهوض العملاق الصينيّ الراقد، فغدت عبارة (صنع في الصّين) مرادفةً لأغلب المنتجات الصناعيّة، الثقيلة منها والمتوسّطة والخفيفة، التي غزت جميع أسواق العالم، كبيرها وصغيرها، فقيرها وغنيّها، حتّى أعلنت العديد من الشركات الكبرى عجزها عن منافسة المنتج الصيني، الذي تحوّل إلى بعبعٍ مخيفٍ يهدّد بابتلاع جميع ما حوله!
وها هو التنين الصينيّ يقترب من عالم كرة القدم، محاولًا ابتلاعه والسيطرة عليه، من خلال ما يمكننا اعتباره غزوًا ناعمًا، بدأت إرهاصاته تظهر بوضوحٍ لدى عشّاق ومتابعي اللعبة الشعبيّة العالميّة الأولى، فما أسباب ذلك الغزو الكرويّ الصينيّ المفاجئ؟ وكيف استطاع فرض مظاهره على عالم الساحرة المستديرة؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يصل تأثيره داخل أروقة الكرة العالميّة؟
المنتخب الصيني خلال مشاركته الوحيدة في كأس العالم عام 2002
ويمكن أن نلخّص أسباب قيام الثورة الكرويّة الصينيّة بنقطتين رئيسيّتين، أوّلهما الضعف الواضح الذي كانت تعاني منه كرة القدم الصينيّة على مدى تاريخها، وخاصّة إذا ما قورنت بجارتيها الآسيويّتين اللدودتين: اليابان وكوريا الجنوبية، فعلى مستوى المنتخب الوطني الأوّل، لا تمتلك الصين في تاريخها أيّ إنجازٍ عالميٍّ يُذكر باستثناء وصولها اليتيم إلى نهائيات كأس العالم عام 2002، مقابل 9 مشاركاتٍ للجار الكوري و5 للجار الياباني، وكذلك على الصعيد القاريّ، تزخر سجلّات المنتخبين الجارين ب6 ألقابٍ آسيويّة، بواقع 4 للياباني و2 للكوري، دون أن يتمكّن المنتخب الصيني من معانقة اللقب الآسيويّ ولو لمرّة واحدة!
وكذلك الحال بالنسبة لإنجازات الأندية الصينيّة على المستوى الآسيويّ، والتي كانت تقتصر قبل عدّة أعوام، على لقبٍ وحيدٍ في دوري أبطال آسيا، تحقّق عام 1990 على يد فريق لياونينغ هوين، مقابل عشرات الألقاب للأندية الكوريّة واليابانيّة، التي حرّك تألّقها مشاعر الغيرة والغضب لدى جيرانهم الصينيين، الذين لم يروا سببًا واضحًا لتلك الاستكانة الكرويّة!
أمّا النقطة الثانية التي يمكن اعتبارها سببًا للثورة الكرويّة الصينيّة، فهي تزايد الأهميّة الاقتصاديّة للعبة كرة القدم، وتحوّلها إلى تجارةً رائجةٍ أسالت لعاب الشركات والمستثمرين الصينيين، الذين أدركوا بأن بابًا جديدًا للاستثمار وزيادة الأرباح قد بات مُشرعًا أمامهم، فما المانع من اغتنام الفرصة والسّير مع التيّار الرائج في هذه الأيّام؟
أوسكار وكارلوس تيفيز آخر النجوم المنتقلين للدوري الصيني
وهكذا تضافرت الأسباب الداعية للغزو الكرويّ الصينيّ، وتحوّلت إلى واقعٍ ملموسٍ من خلال رفع نسبة الدعم الماليّ والدعائي لدوري السوبر الصينيّ للمحترفين المؤسس عام 2004، وذلك عبر الشركات والمستثمرين الصينيين، الذين رأوا في رفع مستوى الدّوريّ المحليّ ضرورةً تحتّمها عليهم مقتضيات المنافسة في السوق الكرويّ العالميّة، فقاموا أوّلًا باستملاك الأندية الصينيّة والسيطرة على مراكز صنع القرار فيها.
قبل أن ينفقوا الأموال ببذخٍ في سبيل استقطاب ما تيسّر لهم من الأسماء الكرويّة الطنّانة، سواءً على مستوى اللاعبين كروبينو وكانوتيه ودروغبا سابقًا، وهالك ولافيزي وراميريز وجاكسون مارتينيز وجيرفينيو وباولينيو وغوارين وتيكشيرا وغيرهم خلال الموسمين الماضيين، أو المدرّبين كسكولاري وليبّي وبيلغريني وماغات وفيلاش بواش وكانافارو وغيرهم، مستعملين ورقة الإغراء المادّي، كطريقةٍ فعّالةٍ للتأثير على اللاعبين وأنديتهم على حدٍّ سواء، حتّى بتنا نرى أرقامًا فلكيّةً تُوضع على طاولة الأندية، في سبيل فكّ ارتباطها باللاعبين.
كمبلغ 61 مليون يورو دفعها نادي شنغهاي سيبغ الصيني مؤخّرًا إلى نادي تشيلسي الإنجليزي بغية استقدام لاعبه البرازيلي أوسكار، و40 مليون يورو لم يجد نادي شانغهاي سيبوا الصينيّ غضاضةً في إغراء نجم بوكا جونيور الآرجنتيني كارلوس تيفيز، بتقديمها له كراتبٍ سنويٍّ، جعلته يتخطّى كبار نجوم المستديرة، بما فيهم الأسطورتان الحيّتان ميسي ورونالدو، الذين لا يتجاوز راتب كلٍّ منهما نصف راتب تيفيز الحالي!
نادي ميلان الإيطالي تحت السيطرة الصينيّة
ولم يقتصر نفوذ حيتان الاقتصاد الصينيّ على الأندية المحلّية، بل شرعوا بنقل مشاريعهم الاستثماريّة نحو معقل كرة القدم العالميّة في القارة الأوروبيّة، فاستحوذت مجموعة (سانينغ) الصينيّة على حوالي 70% من أسهم نادي إنتر ميلانو الإيطالي الشهير، واستحوذ المستثمر الصيني الشهير (جيان لين) على 20% من أسهم نادي أتلتيكو مدريد الإسباني، واشترت شركة (كونسوريتوم) 13% من أسهم مجموعة (سيتي) المالكة لنادي مانشستر سيتي الإنجليزي، كما استحوذ مستثمرون صينيّون أو تملّكوا نسبًا كبيرةً من أسهم بعض الأنديةٍ الأوروبيّة الأخرى، كأستنفيلا وولفرهامبتون وويست بروميتش ألبيون من إنجلترا، وسوشو الفرنسي، وأدو دين هاغ الهولندي، وسلافيا براغ التشيكي، وأخيرًا إس ميلان الإيطالي العريق، الذي انتقلت ملكيّته مؤخّرًا من رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو بيرلوسكوني، إلى مجموعة (سينو) الصينيّة، في واقعةٍ أسالت الكثير من الحبر في أوساط الكرة الإيطاليّة والعالميّة.
الرئيس الصيني جين بينغ يتوسّط مجموعةً من براعم الأكاديميات الكرويّة
ولم يكتفِ الصينيّون بتلك الإجراءات، بل رصدوا ميزانيّةً ضخمةً قوامها 850 مليار دولار، في سبيل نشر كرة القدم في البلاد، وذلك بمبادرةٍ شخصيّةٍ من الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي أعلن بعد تولّيه رئاسة البلاد عام 2013، عن إطلاق مشروع الحلم، الذي يهدف إلى تخريج جيلٍ كرويٍّ صينيٍّ مزهر، قادرٍ على حمل أحلام بلد المليار ونصف، بالمنافسة على لقب بطولة كأس العالم، التي تنوي بلاده استضافتها عام 2026، وذلك عبر تأسيس المدارس والأكاديميّات الكرويّة، التي تجاوز عددها ال20 ألفًا، أشهرها وأكبرها أكاديميّة نادي جوانجزو إيفرغراند بالتعاون مع نادي ريال مدريد الإسباني، والتي تُعتبر الأضخم من نوعها في العالم قاطبةً.
نادي جوانجزو الصّيني بطل دوري أبطال آسيا عام 2015
وأخيرًا، يتساءل مراقبون: إلى أيّ مدى يمكن أن يصل التأثير الصينيّ على الكرة العالميّة؟ وما هي أبرز إيجابيّاته وسلبيّاته على المدى الملموس؟
ونبدأ بالحديث عن التأثير المباشر داخل الصين، والتي بدأت آثار النهضة الكرويّة تظهر جليّةً فيها، سواءً من خلال مستوى أنديتها على الصعيد القاري، والذي شهد تحسّنًا ملموسًا، تجلّى بتتويج ناديها الأوّل جوانجزو إيفرغراند، بلقب دوري أبطال آسيا مرتّين خلال السنوات ال4 الماضيّة، وذلك عاميّ 2013 و2015، أو على مستوى لاعبيها، الذين توّج أحدهم وهو نجم جوانجزو زهانغ زهي، بلقب أفضل لاعبٍ في آسيا لعام 2013، بانتظار أن ينسحب تأثير تلك النهضة على المنتخب الصينيّ الأوّل، الذي لم يفلح بعد في إيجاد توليفة النجاح، رغم استعانته بخبرات المدرّب الإيطاليّ العالميّ مارشيللو ليبي، الفائز بلقب كأس العالم مع منتخب إيطاليا عام 2006.
الإيطالي مارشيللو ليبي أصبح مدرّبًا للمنتخب الصيني الأوّل
أمّا عن التأثير الخارجي للمدّ الاقتصاديّ الصينيّ، فلا يُتوقّع أن يؤثّر بالسلب على الكرة العالميّة عمومًا، بل على العكس تمامًا، فقد تسهم الأموال الطائلة التي تضخّها الشركات الصينية العملاقة، في تحسين الواقع الماديّ لكثيرٍ من الأندية التي كانت تواجه شبح الإفلاس، ممّا يسهم في رفع المستوى التنافسيّ للعبة على المدى المنظور.
وتبقى السلبية الأكثر وضوحًا للغزو الصيني للعبة، هي ازدياد اهتمام بعض اللاعبين بالجانب المادي على حساب الجانب الرياضي، وهو ما أحسن توصيفه مدرّب ليفربول الألماني يورغن كلوب بقوله:
“الدّوري الصينيّ ليس حلمًا لنجوم الكرة بكلّ تأكيد، شأنه شأن الدوريّ الأمريكيّ واليابانيّ والدوريات الخليجيّة، وإذا كان بعض اللاعبين يفضّلون أموال الأندية الصينيّة، فذلك لأنهم لا يمتلكون الأسلحة اللازمة للقتال في الدّوريات الأوروبيّة الكبرى، التي تبقى الأفضل بكلّ المقاييس”