كان التاريخ الاستعماري لألمانيا الحديثة قصيرًا نسبيًا، إذ ظهرت ألمانيا نفسها إلى الوجود في 18 يناير/كانون الثاني 1871، من قصر فيرساي وكانت عاصمتها برلين ومستشارها أوتو فون بسمارك، وبعد أقل من نصف قرن، أي في عام 1919، جُردت منها ممتلكاتها الاستعمارية.
أشرف بسمارك على توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو ما يسمى بـ”الرايخ الألماني الثاني”، وأصبح أول مستشار لها بعد قيامها، حتى عزله فيلهلم الثاني عام 1890، وخلال فترة حكمه بدأ التاريخ الاستعماري لألمانيا.
في البداية، كان المستشار بسمارك معارضًا لفكرة التوسع الاستعماري، معللًا ذلك بفكرة أن تكاليف احتلال مستعمرة والدفاع عنها ستتجاوز فوائدها، إلا أنه انصاع في الأخير للرأي العام السائد في البلاد، إذ كان غالبية الألمان على غرار باقي الأوربيين يرون ضرورة استعمار العالم.
في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر كان الرأي العام الألماني مع الحصول على مستعمرات وأراض جديدة، خاصة أن جيرانهم الأوروبيين غزوا أماكن كثيرة وسيطروا على العديد من المستعمرات حول العالم، إما في إفريقيا وإما آسيا وإما الأمريكيتين.
خلال أوائل الثمانينيات، تحديدًا سنة 1884 انضمت ألمانيا إلى الدول الأوروبية المتنافسة على الوجود الاستعماري في إفريقيا، فيما عرف بفترة الإمبريالية الجديدة، وكانت البداية ضعيفة نوعًا ما لكن الإمبراطور الجديد فيلهلم الثاني الذي تقلّد الحكم سنة 1888، قطع مع سياسة بسمارك التي وُصفت حيناه بـ”الحذرة والمترددة”، إذ كان يطمح نحو توسع سريع وقوي لحماية مكانة ألمانيا في العالم.
مؤتمر برلين واقتسام الكعكة الإفريقية
قبل توحيد البلاد سنة 1871، حاولت عدة ولايات ألمانية والعديد من الشركات الخاصة استعمار مناطق أخرى بشكل فردي، إذ كان للألمان تقاليد متعلقة بالتجارة البحرية تعود إلى عصر الرابطة الهانزية، مثل تقليد الهجرة الألمانية، وقد أظهر التجار والمبشرون الألمان في الشمال اهتمامهم بتجارة ما وراء البحار، وأرسلت الجمهوريات الهانزية مثل هامبورغ وبريمن، تجّارها في شتى أنحاء الكرة الأرضية.
نظمت تلك المؤسسات التجارية نفسها باعتبارها كيانات مستعمرة مستقلة، وأجرت معاهدات تجارية واشترت الأراضي في إفريقيا والمحيط الهادي، وأجرت معاهدات مع زعماء القبائل المحلية، وقد شكّلت تلك المعاهدات الأولى مع الكيانات المحلية أساس معاهدات الإلحاق والدعم الدبلوماسي والحماية العسكرية من طرف الحكومة الألمانية.
لكن هذه الكيانات لم تستطع الاحتفاظ بتلك المستعمرات إلا لفترة قصيرة، فالمنافسة كانت شديدة وتكاليف الاستعمار الطويلة باهظة ولا تستطيع كيانات تتحرك بمفردها بعيدًا عن الحكومة أن تتحمل ذلك وحدها، خاصة مع ضعف التجهيزات العسكرية البحرية الألمانية، لتبدأ الجهود الاستعمارية المهمة سنة 1884 في أثناء موجة التدافع على إفريقيا.
في تلك الفترة، برز رأي عام في ألمانيا يرى أن الحصول على ممتلكات استعمارية خطوة مهمة لتحقيق أمة قومية، وأن المستعمرات ستلبي طموحهم بتشكيل أسطول أعالي البحار، أسوة بالإمبراطورية الفرنسية والإمبراطورية البريطانية.
في الأثناء تأسست الجمعية الألمانية في 3 مارس/آذار 1884 بقيادة كارل بيترز، كان منها القيام بمشروعات استعمارية في إفريقيا، وناقشت الجمعية طيلة ثلاثة أشهر اختيار جزء من إفريقيا تستطيع أن تنفذ فيه مشاريعها الاستعمارية، واستقر قرارها في الأخير على استعمار جزء من الساحل الشرقي للقارة الواقع خلف “دار السلام” على أن تسند قيادة الحملة لبيترز.
ادعت ألمانيا حقها في استعمار الكثير من المناطق غير المستعمرة والمتبقية في إفريقيا، وجمعت حولها العديد من القوى الأخرى في أوروبا من أجل المطالبة بنصيبها من القارة الإفريقية، التي تحتوي على ثروات طبيعية كثيرة غير مستغلة، فضلًا عن الموقع الإستراتيجي الذي تملكه.
إلى جانب ألمانيا دعت العديد من القوى الأوروبية الأخرى للحصول على نصيبها من القارة الإفريقية، وحتى لا يتحول الأمر إلى حرب بين الأوروبيين، تم الاتفاق على تنظيم مؤتمر بدعوة من البرتغال وإشراف من المستشار الألماني بسمارك.
عقد المؤتمر يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1884 إلى فبراير/شباط 1885 في برلين، لأجل وضع خريطة تقسيم جديدة للقارة الإفريقية على الطاولة، وتحديد من الذي يستبيح هذا الجزء أو ذاك، من القارة، وبحيث يكون للإمبراطورية الألمانية الصاعدة، نصيب من هذه الكعكة، وكان أول مؤتمر استعماري عقد بين الدول الأوروبية المعنية بالاستعمار، لإقرار الوضع القائم في إفريقيا وتنظيم ما بقي من أراضي القارة.
بالمقارنة مع القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، كان تاريخ ألمانيا الاستعماري قصيرًا نسبيًا
شارك في مؤتمر برلين 14 دولة منها 5 دول كان لها النصيب الأكبر في الاهتمام بالقارة الإفريقية، والدول الخمسة هي: ألمانيا وبريطانيا والبرتغال وفرنسا وبلجيكا، إلا أن هذا المؤتمر لم يشهد مشاركة أي ممثل عن إفريقيا رغم أنها الموضوع الرئيسي فيه.
لعب المستشار بسمارك دورًا كبيرًا في الموازنة بين الدول الأوروبية التي كانت تنوي غزو إفريقيا بقوة السلاح، بعد أن أدرك أنه لا بد من منع تصادم الدول الأوروبية وأن استعمار إفريقيا لا بد أن يتم دون صدام مسلح.
بالتالي يمكن اعتبار مؤتمر برلين عملًا دوليًا لتنظيم السلب والنهب في القارة الإفريقية، فأضفى الشرعية الدولية للاستحواذ على القارة السمراء، إذ نصّ على جواز التملك بوضع اليد على الأراضي غير التابعة لدولة أخرى من الدول الموقعة على الاتفاقية سواء كانت مسكونة أم لا.
لم يهتم مؤتمر برلين بحقوق السكان الأصليين في القارة الإفريقية ولا أملاكهم، إنما ركّز فقط على ضمان سلامة الدول الأوروبية المستعمرة، وعدم التصادم بينها في أثناء قيامها باستعمار الدول الإفريقية، وهو ما قضى على أغلب صيغ الحكم الذاتي الإفريقي وتقرير المصير.
خريطة التوسع الألماني
طالب الألمان خلال مؤتمر برلين بممتلكات في غرب وشرق وجنوب إفريقيا، وكذلك في جنوب غرب المحيط الهادئ، وسرعان ما تحولت طموحات الألمان بأن تصبح بلادهم قوة استعمارية إلى حقيقة واقعة، لتبدأ معه فترة سوداء في تاريخ ألمانيا.
قسمت إفريقيا بين القوى الأوروبية، وتملكت ألمانيا عدة مناطق من الأراضي في إفريقيا بما في ذلك شرق إفريقيا الألمانية وإفريقيا الجنوبية الغربية، وكانت من بين المستعمرات الألمانية في القارة السمراء: توغولاند وهي حاليًا جزء غانا وتوغو.
فضلًا عن ذلك حصلت ألمانيا على الكاميرون وإفريقيا الشرقية الألمانية (حاليًا رواندا وبوروندي وتنزانيا)، وجنوب غرب إفريقيا الألمانية (حاليًا ناميبيا)، وكان لألمانيا دورٌ نشط في المحيط الهادي، ما مكنها من الحصول على مستعمرات هناك أيضًا.
ضمت ألمانيا الاستعمارية سلسلة من الجزر إلى الإمبراطورية، وهي الجزر التي أصبحت تعرف فيما بعد بغينيا الجديدة الألمانية، وقد دُعي القسم الشمالي الشرقي من غينيا الجديدة بـ كايزر–فيلهلمسلاند، وأرخبيل بسمارك المكون من الجزر في الشرق، الذي احتوى على جزيرتين كبيرتين هما مكلنبرغ الجديدة وبوميرانيا الجديدة، واستولى الألمان أيضًا على جزر سولومن الشمالية.
كما استولى الألمان على جزر سليمان الألمانية أو ما يسمى بجزر سليمان الشمالية، فضلًا عن جزيرة بوغانفيل وناورو وجزر مارشال وجزر ماريانا، التي تسمى الآن جزر ماريانا الشمالية، فضلًا عن جزر كارولين التي تسمى اليوم ولاية ميكرونيزيا الموحدة وساموا الألمانية التي تسمى اليوم دولة ساموا.
غالبًا لم يكن الاستعمار الألماني لهذه المناطق بقوة السلاح في البداية، إذ تم استعمار تنجانيقا (تنزانيا حاليًا) مثلًا سنة 1885 عن طريق الشركة الألمانية لشرق إفريقيا التي خدعت سلطان جزيرة الزنجبار الذي كان حاكم كل تلك الأراضي بمعاونة شيوخ القبائل وزعمائها وكان ذلك عن طريق الهدايا والتهديد.
تنازل هؤلاء الزعماء والشيوخ عن مساحات واسعة من الأراضي التي كان يسيطر عليها سلطان زنجبار، ومكّنوا الألمان من أراض كثيرة في المنطقة، لكن ذلك لا يعني أن الألمان لم يستعملوا السلاح في حملتهم الاستعمارية وسنتطرق لذلك في تقارير لاحقة ضمن هذا الملف.
أما مملكة التوتسي التي كانت تعرف باسم أور وندي، وبلاد رواندا المجاورة لها فقد ضمّتها ألمانيا الاستعمارية لأراضيها في إفريقيا سنة 1890 تحت اسم رواندا – أرو ندي، دون علم ملكها وسكانها، وقد عرف الاستعمار الألماني لهذا البلد بطئًا شديدًا، إلا أنه كان مقبولًا بعض الشيء من الملك موزنجا، وكان المستكشفون الأوروبيون قد زاروا المنطقة لأول مرة سنة 1854.
كان لشركة إفريقيا الألمانية وشركة الجمعية الألمانية للاستعمار، دور كبير في توسع النفوذ الألماني في شرق إفريقيا وتكوينها لمستعمرات في تلك الجهة من إفريقيا، ونتيجة ذلك أسندت لها مهمة إدارة المناطق التي استحوذ عليها الألمان لأن العسكريين لم تكن لهم الدراية والتجربة الكافية في إدارة وحكم شعوب في إفريقيا أو المحيط الهادي.
ثالث إمبراطورية استعمارية في التاريخ
اختار الألمان شرق إفريقيا لبناء إمبراطوريتهم الاستعمارية لما لهذه المنطقة من أهمية إستراتيجية بالنسبة للقارات الثلاثة القديمة (أوروبا وآسيا وإفريقيا)، إذ كانت هذه المنطقة بمثابة حلقة اتصال بين هذه القارات عن طريق التجارة الدولية، كونها تطل على المحيط الهندي من ناحية وباب المندب من ناحية أخرى.
سمحت هذه الحصص الاستعمارية لألمانيا بالتنافس مع القوى الإمبريالية الأخرى وعززت الاقتصاد الألماني بسبب وفرة الموارد في هذه الأراضي، واستطاعت بناء ثالث إمبراطورية استعمارية من ناحية المساحة في تلك الفترة، بعد الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية الثانية.
في هذه العقود الثلاث مارس الألمان أبشع أنواع الإهانات بحق السكان الأصليين للمستعمرات
صحيح أن المساعي الاستعمارية الألمانية بدأت متأخرة بعض الشيء مقارنة بمنافسيها الأوروبيين، إلا أن الوضع لم يلبث أن تغير بسرعة، إذ اندفعت الحكومة الألمانية في تيار الاستعمار حتى إنه في غضون عام واحد تقريبًا كانت ألمانيا قد كونت إمبراطورتيها الإفريقية، ونافست بقوة باقي القوى الاستعمارية.
وتبقى الإمبراطورية البريطانية أضخم إمبراطورية استعمارية في تاريخ العالم حتى الآن، وكانت لأكثر من قرن القوة العالمية الأولى، إذ بسطت سلطتها في عام 1913 على تعداد سكاني يقارب 412 مليون شخص أي نحو 23% من سكان العالم في ذلك الوقت، وغطت في سنة 1920 مساحة 33 مليون كيلومتر مربع عبر القارات أي تقريبًا 24% من مساحة الكرة الأرضية، ما منحها وصف “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”.
أما ثاني إمبراطورية استعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين من حيث الامتداد الجغرافي فقد كانت الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، وبلغت مساحتها 13 مليون كيلومتر مربع في أقصى تمدد لها عام 1938، وهو ما يساوي 8.6% من مساحة أراضي الكرة الأرضية.
انهيار سريع
بالمقارنة مع القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، كان تاريخ ألمانيا الاستعماري قصيرًا نسبيًا، إذ استمرت الإمبراطورية الاستعمارية الألمانية رسميًا فقط من عام 1884 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1919، فقد تخلت في ذلك التاريخ عن معظم مستعمراتها في إفريقيا وأوقيانوسيا وشرق آسيا.
سنة 1919، خسرت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ونتيجة ذلك عقدت معاهدة فرساي بفرنسا التي وضعها الحلفاء دون مفاوضات مع الحكومة الألمانية، وكانت هذه المعاهدة ضربة قاضية للشعب الألماني، إذ خسرت بلادهم أغلب مستعمراتها.
ألزمت معاهدةُ فرنساي ألمانيا بخسارةِ بعضٍ من أراضيها وتقديم تنازلاتٍ إقليميّةٍ واسعةٍ، وتقاسمتِ الدول المنتصرة الرئيسة مستعمراتها في إفريقيا والمحيط الهادي، وتم وضع مستعمراتها تحت الانتداب ووصاية الدول المنتصرة بعد إقرار ألمانيا بذلك.
ويعني نظام الانتداب أن تقوم الدول المنتدبة بإدارة الإقليم وأن تعمل على رفع مستوى سكانه وتقدم تقارير سنوية توضح فيها مدى ما حققته الإدارة في الإقليم من تقدم خلال العام المنصرم، لكن واقعيًا الأمر مختلف إذ كان استعمارًا مباشرًا.
بعد نظام الانتداب، تم وضع “إفريقيا الشرقية الألمانية” تحت الوصاية البريطانية وتم تغيير الاسم ليصبح “تنجانيقا”، وصفى البريطانيون الوجود الألماني هناك واستولوا على مزارعهم ومعاملهم كما تخلصوا من الموظفين الذين عملوا في خدمة الاستعمار الألماني واستبدلوهم بموظفين من الهنود.
أما رواندا وبوروندي فقد تم سلخهما عن “تنجانيقا” ومنحتا لبلجيكا في إطار الانتداب كمكافأة لها على تحالفها مع بريطانيا ضد الألمان، وسرعان ما تحول الانتداب إلى وصاية منظمة الأمم المتحدة التي تأسست سنة 1945 لخلافة عصبة الأمم التي تأسست سنة 1919.
وعن المنطقة المعروفة سابقًا باسم جنوب غرب إفريقيا الألمانية، التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم “ناميبيا”، فقد أسندت إلى القوات الجنوبية الإفريقية الموالية للحلفاء، وحاولت جنوب إفريقيا ضمها إلى أراضيها إلا أنها لم تستطع ذلك.
وضعت توغو وكاميرون، وهي المنطقة المعروفة سابقًا باسم “الكاميرون الألماني” تحت السيطرة الفرنسية والبريطانية، كلّ إمبراطورية أخذت جزءًا من المنطقة، وسلبت ثرواته واستعبدت أهلها، رغم أن مهمتهما كانت حمايتهم.
لم يستمر الاحتلال الألماني للأراضي الإفريقية أكثر من 35 سنة على عكس باقي الإمبراطوريات الاستعمارية، إلا أنها كان فترة كافية ليظهر الألمان بشاعة استعمارهم ويكشفوا عن نظرتهم الاستعلائية.
خلال هذه العقود الثلاث مارس الألمان أبشع أنواع الإهانات بحقّ السكان الأصليين للمستعمرات، إذ نهبوا الأراضي وقتلوا السكان واغتصبوا النساء ورمّلوهم ويتموا الأطفال، وهو ما سنفصل الحديث عنه في تقارير ملف “ألمانيا الاستعمارية”.