نتظاهر بالغياب ونتصنع اللامبالاة، لكن صور رابعة تقتحم خلواتنا، حتى ليشعر المرء أن الدم ما زال طريًا على الإسفلت، ويطاردنا الفرحون برابعة إذا كتبت عنها فأنت إخوان ولأنك إخوان فإنك على طريق المحرقة، ففي تونس وفي مجالس النخبة ممنوع ذكر محرقة رابعة، فذكرها دون عبارات التشفي في الإخوان يؤدي إلى السحل الإعلامي.
سأجتنب الموضوع حفاظًا على راتبي، فالنقابة عندنا ساهمت في المحرقة ومستعدة لمحارق أخرى بلا وجل. سأطرح سؤالًا في الهامش: هل يمكن بناء ديمقراطية في بلاد العرب مع الذين فرحوا برابعة ورقصوا للدم المسفوك؟
محرقة الحريات
يظن الراقصون على الجثث حتى اللحظة أن الحريق مس جسد الإخوان المسلمين وحدهم وأن من عداهم عاش سعيدًا بعدهم وقد تخلص من الكابوس الإخواني، هذا الفرح مستمر ونجد منشورات كثيرة تؤرخ به لنهاية الرجعية العربية وميلاد التقدمية من جديد.
لقد حظي الآمر بالمحرقة بكل ألقاب التمجيد ووضع في مصاف الزعماء الكبار مؤسسي الأمم، وكان أكثر الفرحين به القوميون العرب الناصريون منهم والبعثيون، وهي حالة نادرة من اتفاق التيارين المتحاربين سابقًا، فضلًا عن اليسار العربي بكل تنويعاته التقدمية جدًا، ورغم تهاطل أخبار الخيبة الاقتصادية المصرية وافتضاح العجز في إدارة بلد به قوة عمل تفوق الخمسين مليونًا، فإن أنصار المحرقة يصرون أنه عرض عابر وسيهطل الخير على مصر التي تحررت من الإخوان.
يغفل المُحْرِقُون في مصر وخارجها أن النار لم تلتهم جسد الإخوان وسالمت البقية، بل التهمت جسد الحرية وهي الشرط اللازم لبناء الديمقراطية، وأن النار قد رتبت ضحاياها، فبدأت بالإخوان وثنت بالبقية بدرجات، كما هو الأمر في كل التجارب الديكتاتورية السابقة واللاحقة، لكن وجب التذكير هنا، كل الراقصين على اللهب لم يكونوا أبدًا من عشاق الحرية ولا كان على جدول أعمالهم يومًا أن يشاركوا في الديمقراطية، كان هذا ديدنهم منذ انقلاب 23 يوليو/تموز وما سبقه وما لحقه من انقلابات في سوريا والعراق وليبيا واليمن وانتهاءً بتونس.
لقد كان للمحرقة مزية رفع الغشاوة عن أعيننا، إذ ظننا بهم خيرًا ذات يوم وقد لهجت ألسنتهم باسم الديمقراطية، فإذا هم والغون في الدم ولم يتحرروا من غيهم ويستزيدون.
رابعة حررتنا من القوميين العرب ومن اليسار
على خلاف وهم القوميين العرب (بعث وناصرية وقذافية وحفترية ومش عارف مين كمان) بنصر مؤزر على الإخوان في مصر وفي البلدان العربية بعد إتمام المجزرة وإقصاء الإخوان عن كل مشاركة سياسية، فإن المجزرة حررت عقولًا كثيرةً من وهم العمل السياسي المشترك مع القوميين، لقد أُحرق في رابعة أيضًا كل لغو المؤتمر القومي العربي الذي بث وهمًا – وأنا صدقته ذات يوم – بأن القوميين والإسلاميين جناحا طائر الحرية العربي وبهما تبنى الديمقراطية.
هذا اللغو صار عبئًا على مكتباتنا وقد شوينا عليه بصلًا على طريقة بيرم التونسي، فلا يمكن أن يثق عاقل في خطاب قومي عربي يتحدث عن الديمقراطية، إنه مجرد متربص ينتظر حركة دبابة، خاصة بعد النموذج التونسي الذي يقف فيه القوميون العرب مع أغبى انقلاب في تاريخ الانقلابات في العالم لا في بلاد العرب فقط.
لقد تأخر وعينا بذلك كثيرًا واصطنعنا الوهم، لكن للحوادث معنى يعطيه الدم المراق، وكانت آخر لحظات الوهم يوم استبشرنا بتأليف حكومة إلياس الفخفاخ 2019 ورأينا الإسلاميين والقوميين يشاركون في حكومة واحدة لكن لم يطل بنا الوهم، فقد كانت حكومة تمهد لانقلاب وإن لم تنجز محرقتها بعد وهي تتربص.
تتجه تونس إلى هاوية سياسية واقتصادية بلا قاع، ويقف القوميون يمجدون لحظة السقوط وليتهم يقبضون ثمنًا لذلك، فكل مرادهم نكبة إخوانية أخرى في تونس وهي عندهم أم المكاسب، لماذا كل هذا الحقد؟ إنه سبب وجود كل التيار القومي العربي منذ ظهرت الدبابة في بلاد العرب.
بعد رابعة
نعتقد أن أهم خلاصة يمكن للمرء أن يخرج بها من محرقة رابعة هي أنه لا يمكن السير في طريق الحرية والديمقراطية مع القوميين العرب ولا اليسار العربي، فالتاريخ والجغرافيا يقولان إن هذه المنطقة لن تقفر من السكان وأن هناك مستقبلًا بالقوة، لكن هذا المستقبل لن يتيسر ولن يكون بهؤلاء، بل سيكون بالحرية التي يعادونها ويعيشون من تدميرها.
لقد عشنا معهم نصف قرن يرددون بلا وجل أن التيارات الدينية الرجعية تتربص بالديمقراطية، فإذا وصلت بها إلى السلطة انقلبت عليها، فإذا الوقائع تعطينا حقيقة معاكسة كليًا، لقد وصل الإسلاميون (الرجعيون) إلى السلطة بالانتخابات الديمقراطية ولم ينقلبوا على الديمقراطية، لكن من أقصتهم الديمقراطية أي القوميين واليسار (التقدميين) هم من انقلبوا وكسروا مسارات البناء الديمقراطي وأعدموا الحريات، وما زالوا يعملون على ذلك بلا كلل.
وهذا يمهد لخلاصة بسيطة وقاسية في ذات الوقت، لا يمكن لكل من يعمل على بناء الديمقراطية وترسيخ الحريات في البلدان العربية أن يضع يده مع التيار القومي ومع اليسار، فهذا جهد خاسر ومضيعة للوقت، وكل المحاولات باءت بالفشل، وليس لها مستقبل.
نحن نراقب من قريب، فذكر مجزرة رابعة يجلب لنا الويلات، والمطلوب منا بعد عقد كامل أن نساهم فقط في الشماتة والتشفي دون أن يسمح لنا بطرح الأسئلة عن النتيجة في مصر وفي غيرها مما وصلهم قتار الأجساد المحروقة في مصر، فهؤلاء ليسوا – ولن يكونوا – شركاء في أي عمل سياسي ديمقراطي ومن يريد حكم المستقبل عليه أن يبدأ بتصنيفهم في صف الأنظمة التي أنجبتهم في أجهزتها ومخابراتها وربتهم وأن يتوقف عن انتظار توبة ديمقراطية.
بمن ستبنى الديمقراطية إذن؟ لا أعرف، لكن أعرف أنها لن تبنى بالقوميين العرب واليسار العربي، ومن قال لنا مستغربًا أإقصاء بإقصاء؟! نقول له عندما يتوقفون عن الرقص على جثث رابعة ويعتذرون للضحايا سنراجع مسلماتنا.