هل هو صدام حضارات، أم مؤامرة، أم أنها أحداث عفوية تسعى كل الدول جاهدة للتأقلم معها وبناء استراتيجيات تجنبها تحمل تبعاتها بمفردها؟
ليس من الحكمة استصغار الذات واحتقارها واعتبار أن أمتنا وحضارتنا دون مستوى المنافسة والصراع، فالأمة والحضارة التي تقوم على يد رجل واحد يخرج مطاردًا من البادية، ليقيم دولة في بضع سنين من ذلك الخروج تفرض نفسها على قطبين وحضارتين تقتسمان شرق الأرض وغربها، هي أمة وحضارة جديرة بالصراع والتحدي.
يعرف الغرب عن حضارتنا أكثر مما نعرف نحن عنها، وفي الغرب جحافل من المستشرقين الذين درسوا كل خصائص المجتمعات العربية ولغتها وآدابها، ونقلوا كل العلوم عنها منذ بداية نهضة هذا الغرب من سباته.
لذلك فالغرب يعلم عن يقين أن مقومات النهضة في الحضارة الإسلامية تجتمع كلها في دستورها – القرآن الكريم – وأن هذا الدستور الذي قامت عليه الحضارة الأولى ما زال موجودًا لم يتغير منه شيئًا، والذي تغير هو الإنسان المسلم الذي حدثت له القطيعة مع هذا الدستور، تلك القطيعة التي يحرص الغرب على أن يطيل أمدها بكل السبل.
إذا لم تكن لديك استراتيجية، فأنت بالتأكيد جزء من استراتيجية الآخرين
قد يقيم الأتراك حضارة بالإسلام أو دونه، وقد يقيم الفرس حضارة بالإسلام أو دونه، ولكن العرب يقيمون حضارتهم بالإسلام فقط ولا يقيمونها دونه أبدًا، فلم تقم للعرب حضارة تجمعهم كجسد واحد إلا في ظل الإسلام.
كما يعلم الغرب أن قلب الحضارة الإسلامية كان البلاد العربية والإنسان العربي، وهذا المركز هو الذي يستقطب الأطراف والأصل في هذا القلب هو المكوّن السني، وكل الحكومات الإسلامية وكل الدول الإسلامية التي قامت بعد امتداد الخلافة إلى أقاصي الشرق والغرب، كانت في معظمها سنية، فالأصل في الحضارة والخلافة الإسلامية هو المذهب السني.
ولذلك فإننا إن اعتقدنا بأن ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم هو صدام حضارات فإن في ذلك الكثير من الصواب، والشواهد على ذلك كثيرة في كتبهم وتصريحات زعمائهم السياسيين كما أشار إلى ذلك صاموييل هينغتون في كتابه “صدام الحضارات”، وكما صرح جورج بوش بعد أحداث 11 من سبتمبر بأن حربه على المسلمين هي حرب مقدسة وحملة صليبية، وكما ينظِّر الكثيرون من أنه على أمريكا أن تجد عدوًا بديلاً عن الاتحاد السوفييتي حتى تستطيع الاستمرار في قيادة العالم بوجود عدو ومنافس.
تواجه تركيا العديد من العمليات الإرهابية
ولكنها قد تكون مؤامرة أيضًا! إن حضارة تبنى على الأخلاق والقيم والعدل والمساواة ومحاربة الظلم والفساد، وتمكن الإنسان من التوفيق بين حاجياته المادية والروحية، لا يمكنها التعايش مع خلاف ذلك، كما لا يمكن لكل ذلك الانحراف، الانسجام أو التوافق معها، ولذلك كان التنافر والصراع أمرًا لازمًا، وكان التآمر وسيلة المتربص وسلاح المتوجس الخائف من قوة خصمه، الحذر من استفاقته ونهوضه.
إن اختلال توازن الحضارة الغربية وعدم قدرتها على التوفيق بين الغلو في المادية وحاجتها الماسة إلى المتطلبات الروحية، جعلها في عداء دائم مع النموذج الإسلامي الذي رأت فيه البديل الوحيد عنها، والذي يمكن له أن يضع الإنسان في منتصف الطريق بين المغالاة في الرهبانية التي تحرمه من متع الدنيا، والغلو في المادية التي تستعبده.
ولأن المادية طغت على العالم الغربي فإنه لا مكان لنظام يعيد التوازن ويمنح المساواة ويحفظ الحقوق، وإلا زالت تلك الامتيازات الغربية التي هي نتيجة الغفوة الشرقية والجنوبية، التي لم تنتبه لنهب ثرواتها واستنزاف مقدراتها واستغلال عجزها وجهلها.
ولذلك وجب الحرص – من الغرب – على استمرار الأمر على ما هو عليه من استكانة وخمول، والإبقاء على الطبيعة الاستهلاكية لهذه الشعوب وقطع الصلة بينها وبين إمكانية الإنتاج بكل ما أمكن من طرق لذلك.
وعند المزج بين كل تلك الرؤى والأفكار سالفة الذكر يمكن الوصول إلى أفكار أكثر دقة، وبالاستناد إلى الكثير من المعطيات المجسدة على أرض الواقع، وبالجمع لكل الأجزاء المتناثرة هنا وهناك يمكن تركيب الصورة لتظهر بحال أكثر جلاءً ووضوحًا.
يمكن القول بدءًا بعفوية الأحداث التي تسببت في تلك الثورات التي اجتاحت العالم العربي، وأنها كانت في بدايتها ثورة شعبية غير موجهة، لكن استغلال الولايات المتحدة والغرب لتلك الأحداث وإمساكهم بخيوط اللعبة فيها، خاصة الأحداث المتأخرة في سوريا، جعلها تنحرف عن مسارها الطبيعي لتتجه إلى خدمة أهداف السياسة الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط.
لبيان ما تقدم يمكن الاعتماد على ثلاثة مؤشرات هي من الأهمية بمكان:
- الغاز والبترول الصخري
- قانون غاستا
- الملف النووي الإيراني
مما لا يخفى على أحد أن ما ترمي إليه الولايات المتحدة الأمريكية من الوجود في الشرق الأوسط يتمحور حول هدفين أساسيين هما:
أ- ضمان سهولة تدفق النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين.
ب- حماية أمن إسرائيل.
من أجل الربط بين هذين الهدفين والمؤشرات الثلاث المشار إليها سابقًا يمكن القول إنه بخصوص:
الهدف الأول: أشارت الكثير من البحوث والدراسات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية وفي ظرف 30 إلى 35 سنة ستكون المنتج والمصدر الأول لمادتي البترول والغاز الصخري.
وبناء على تلك الدراسات، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالخطوات التالية التي تشير بوضوح إلى استغنائها عن الهدف الأول وهو الحفاظ على نفط منطقة الشرق الأوسط التي استثمرت فيه الكثير من الأموال والأرواح وخاضت لأجله الحروب، من تلك الخطوات هناك:
♦ أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في تاريخها قانونًا يسمح بتصدير النفط.
♦ سلمت العراق رغم كل ما خسرته فيه من أموال وأرواح وما يمثله لها من مخزون نفطي هائل إلى إيران دون مقابل.
♦ غضت الطرف عما يتعرض له ذلك المخزون النفطي من نهب وحرق وبيع بطرق مشبوهة من كل الحركات المسلحة، ففي الأيام الأولى فقط من معركة الموصل تم حرق أكثر من 12 بئرًا دون أن تبدي الولايات المتحدة أي رد فعل، كما أنها طول تلك الأحداث لم تقم بحماية آبار النفط أو المناطق النفطية، وكذلك الأمر في ليبيا وسوريا.
ومنه فقد تحول هدف الولايات المتحدة الأمريكية من الحفاظ على نفط الشرق الأوسط وحمايته، إلى محاولة استنزافه بأكبر قدر ممكن، حتى لا تتمكن دول المنطقة من استثماره في أية نهضة أو إقامة بنية تحتية، مما يجعل شعوبها في حالة تذمر دائم واستعداد لأي استدراج نحو الفوضى، مع اعتبار ذلك ورقة مساومة للحكام مقابل الخضوع وتمرير الأجندات الغربية.
وأما بخصوص الهدف الثاني والمتمثل في حماية أمن إسرائيل، فإنه من البديهي الإشارة إلى أن تمكينها من مختلف أنواع الأسلحة أمر معروف ولا يحتاج إلى أن نعرض أدلته ونبين شواهده.
أما العنصر الأهم من ذلك والأخطر فهو المتمثل في محاولة تفكيك أعدائها وإضعافهم كخطوة ثانية من خطوات حماية أمنها والتمكين لها، ولبيان ذلك تجدر الإشارة إلى الآتي:
تعلم الولايات المتحدة الأمريكية أن الذين هاجموها في 11 من سبتمبر (حسب ادعائها) جميعهم من المنطقة العربية وكلهم ينتمون إلى المكون السني، كما تعلم أيضًا أن الذين حاربوها في أفغانستان سواء منهم المنتمين لطالبان أو القاعدة، وما زالوا إلى اليوم يمنعونها من الاستقرار في ذلك البلد والاستفادة من موقعه الجيواستراتيجي المتميز، هم جميعهم من المكون السني.
والولايات المتحدة الأمريكية على يقين من أن الذين حاربوها في العراق وأنزلوا جنودها من الشاحنات وأحرقوهم أحياءً ورقصوا على جثثهم هم من المكون السني أيضًا، وأن قتل الأمريكيين لم يتوقف إلا بعد أن اجتاحت الميليشيات الشيعية كل الأراضي السنية ونزعت أسلحتها ودمرت بنيتها التحتية، كما لا يخفى على الولايات المتحدة الأمريكية أن كل الفصائل المسلحة في سوريا والمعارضة للنظام هم من المكون السني، ولم تنس أمريكا أن الذين أحرقوا سفارتها في ليبيا وقتلوا سفيرها هناك هم من المكون السني، كذلك كل المتهمين بالعمليات المسلحة في أوروبا.
إن اعتقدنا بأن ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم هو صدام حضارات فإن في ذلك الكثير من الصواب
بل الأكثر من ذلك فإن كل الحروب التي خاضتها إسرائيل كانت مع المكوَن السني بكل أطيافه الإسلامية والوطنية وحتى العلمانية والقومية.
ولقد اصطدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمعضلتين مع هذا المكوَن تمثلتا في:
♦ أن هذا المكون ليس لديه مشكلة في التعايش مع بقية الطوائف الأخرى، بدليل انسجامه مع كل الطوائف في العراق (الأكراد، اليزيديون، التركمان، الشيعة … ) وما كانت مشكلة الأكراد والشيعة مشكلة طائفية بين أبناء الشعب الواحد، بل كانت مشكلة مع النظام لأن للأكراد نزعة انفصالية، وللشيعة ولاءً خارجيًا، وكذلك الأمر في اليمن ومصر وشمال إفريقيا في أثناء فترات حكم هذا المكون.
♦ أن هذا المكون لديه قدرة كبيرة على المقاومة والتضحية، وقد لمست ذلك منه في العراق وأفغانستان وفلسطين وتراه اليوم في سوريا.
من أجل ذلك كان لزامًا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تبحث عن بديل تقضي به على الإمكانات المادية والبشرية لهذا المكون، وتحقق من خلاله هدفها الثاني – المشار إليه آنفا – والمتمثل في تفكيك أعدائها وأعداء إسرائيل دون الحاجة إلى التدخل العسكري المباشر تجنبًا للخسائر المادية والبشرية كالتي منيت بها في العراق وأفغانستان.
سيكون قانون جاستا سلاح أمريكا ضد السعودية
ووجدت أمريكا ضالتها في المكون الشيعي وفي إيران، لأن عقيدة الشيعة تحثهم على معاداة أهل السنة ولا خطر منهم على أمريكا وحلفائها، فإيران على طول تاريخها لم تدخل في حرب مع الغرب، ولا مع إسرائيل، وفي النهاية عدو عدوي صديقي، ثم إن الزج بالاثنين في معركة طائفية هو ربح خالص لفائدة أمريكا وحلفائها.
من أجل ذلك عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ الخطوات التالية:
1- فك أسر إيران والذي تجسد في:
♦ تسليم العراق بكل مقدراته إلى إيران لأنها لم تعد بحاجة إلى نفطه – كما أسلفنا – وللانتقام من المكون السني.
♦ السماح لكل من المكون الشيعي والأكراد بإقامة دويلات والتسلح وإنشاء المليشيات والجيوش ومنع ذلك عن المكون السني.
♦ تبرير أو غض الطرف عن كل التجاوزات التي تقوم بها العناصر المختلفة من غير المكون السني واستنكار كل ما يصدر عن هذا المكون ووصفه بالإرهاب.
♦ تفكيك مشكلة الملف النووي الإيراني، وتخفيف العقوبات الاقتصادية عنها، والإفراج عن أموالها المحبوسة في البنوك الغربية، لتمكين إيران من تمويل تحركاتها وانتشار عناصرها ومؤيديها في الأراضي السنية.
♦ استدراج الجميع، إيران، روسيا، دول الخليج، تركيا، مصر …. إلى المحرقة السورية لصهر كل المخالفين للسياسة الغربية فيها، وتعطيل كل سبل حل الأزمة لاستنزاف قوى الجميع، مع عدم الانسحاب الكامل من المشكلة لمراقبة مساراتها وفرض الحل المناسب لأمريكا وحلفائها عندما يعجز الآخرون أمام مواصلة تحمل تبعات هذا الاستنزاف.
2- فتح الباب أمام مسلحي داعش للتنقل في كل المناطق السنية (في الدول السنية فقط) كمدخل لإحداث الفوضى التي من خلالها تتمكن إيران من إنشاء خلايا تعمل على التحرك والتسرب إلى بنية المجتمعات السنية لإحداث الانشقاق فيما بعد.
3- زعزعة استقرار الدول السنية الكبيرة والمتماسكة وذلك من خلال:
– إصدار قانون غاستا: قصد استنزاف المال السعودي ومقدراته المادية، وإغراقه في الحرب اليمنية والسورية لذات الغرض.
– فتح جبهات استنزاف للجيش المصري في سيناء وإغرائه بالتدخل في سوريا وليبيا، وعزل مصر عن محيطها العربي وإذكاء العداوة بينها وبين جيرانها وإحكام الرقابة الاسرائيلية عليها.
– تأييد محاولة الانقلاب في تركيا وتشجيعها، لفصل تركيا عن محيطها الإسلامي وتشويه التجربة الإسلامية السنية فيها حتى لا تكون نموذجًا يحتذى به، ولإيقاف النهوض التركي السريع والمتنامي.
– زرع عناصر متطرفة وتسهيل تحركاتها في كل من تونس والجزائر وإشغال جيوش تلك المناطق بمشاكلها الداخلية والحدودية.
4- العمل على إشاعة الفوضى الخلاقة، والإدارة بالأزمات لإشغال كل المحيط السني عن القضية الفلسطينية التي تشكل نقطة التقاطع والتفاهم الوحيدة التي جمعت الجيوش العربية يوما، ووحدت الرؤى العربية المتباينة برغم تدني وبساطة المكتسبات، بل قد تشكل حجر الأساس لأي بناء أو تفاهم أو شراكة عربية أو إقليمية مستقبلاً.
“إذا لم تكن لديك استراتيجية، فأنت بالتأكيد جزء من استراتيجية الآخرين” ربما يمكن اعتبار الاستراتيجية هي الجزء المعلن من المؤامرة، فكل الدول لها استراتيجيات لإدارة سياساتها وشؤونها، والكثير منها يوثق تلك الخطوات ويعلنها، وبعضها يذهب إلى أبعد من ذلك في ذكر التفاصيل، ولكن مآلات تلك الخطط والأهداف التي تصل إليها تلك الاستراتيجيات حال التنفيذ، كثيرًا ما تُظهِر خطوات أخرى وأهداف لم تكن معلنة ولا واضحة.
بالتأكيد أن ما يحدث في الشرق الأوسط اليوم وفي سوريا تحديدًا هو مزيج من كل ما سبق، فهو صدام الحضارات بالنسبة إلى الفكر الغربي والمفكرين الغربيين، ومؤامرة تحيكها القوى المادية والشركات متعددة الجنسيات وشركات السلاح والمؤسسات المالية الغربية، وأيضًا استراتيجيات متنافسة ومتضاربة بين يدي الساسة الغربيين والمنظرين لهم في مراكز الدراسات ومراكز صنع القرار المختلفة، سواء منها الحكومية أو المستقلة.
ربما ما تراه أنت مؤامرة خفية هو بالنسبة لغيرك استراتيجية موثقة ومعلنة، وخطوات محددة ومبينة، وأن المشكلة هي في قلة اطلاعك وقصور بحثك عن الحقيقة، وعدم درايتك بما يصدر عن الآخرين من مواقف ومنشورات تمس مصيرك ومستقبلك، وربما كان غيرك يبني مواقفه تلك على جهلك وتكاسلك ويراهن على ما تعانيه من استكانة واستسلام.