ها هو العام يستعد لتوشح اسم جديد ليؤكد أنه جاد في التقدم والمضي بنا حيث لا ندري! ماذا يعني تغيير الأسماء إذا لم تتغير المعاني؟ ماذا يعني أن يمر الزمن إذا لم نغتنم منه لحظات أبدية ننتصر بها عليه؟! ماذا يعني أن ينتظرنا العام الجديد لتغيير التاريخ في دفاترنا إذا لم نستوعب أن عامًا ينفرط لازدحامه بالأحداث بما يكفي!
يحضرني حديثي مع خالي يوم أخبرته أن حنيني كبير للأيام الأولى للجامعة حتى أردف أن حنيننا لطفولتنا وأيام شبابنا الأولى إنما هو حنين لزمن امتد بثراء اكتشافنا ودهشتنا، فتلك الأيام كانت زاخرة باللحظات البكر التي تعلمنا فيها أغلب أمورنا التي نمارسها اليوم بكل أريحية وروتينية، هنا قفز سؤال المعنى، المعنى الذي نضفيه على اللحظة فتغدو أعرض وأرحب حيث ننتصر على الوقت الذي يجري كالنهر دون توقف غير آبه بتعبنا وضعفنا.
إذا أمسكنا بالمعنى فإننا نعيش اللحظة أضعافًا مضاعفة! لكن كيف نمسك بالمعنى؟! نمسك به عندما لا نغفل عن التفاصيل التي تمر علينا ومن حولنا، سماء فسيحة، شمس دافئة، حضن صادق، كد حالم، خطو مصر، صدق شفيف، محبة نقية، عفو واع، عذر عميق، فهم سام،… إن التفاصيل الصغيرة هي التي تشد أزر الخطوات العظيمة.
تخبرني إحدى صديقاتي أنها نجحت في الفوز على الفكرة المرعبة أن العمر يتقدم بنا ونحن بعد لم نحقق أحلامنا، تقول إن ما يهمها هو المضي نحو الحلم، المحاولة، أن تسقط وتنهض من جديد ولا تتخلى عن حلمها مهما مضى من عمرها، فهي ماضية نحوه ولو تحقق في آخر يوم من حياتها، المهم والأهم أن تواصل وأن تسير نحوه وتقترب منه، ففي السير يكمن المعنى وفي المثابرة يجب إدراك المتعة، فماذا يفيدنا تأسينا على عمر تقدم ونحن ما زلنا خارج عوالم أردنا بل خططنا وترصدنا ولوجها في عمر بعينه؟ لن يزيدنا الأسى إلا حرقة وتألمًا يرمي بنا عليلين خائري القوى خارج سباق الترقي!
ربما سيطلب منك أحدهم أن تحدثه عن نجاحات السنة، عن أبرز إنجازاتك فيها، عن أسعد لحظة وأخيبها، عن أعلى ضحكة ضحكتها، عن أمتع كتاب طالعته، عن عدد الروايات التي قرأت، عن عدد الطرقات التي فتحت أمامك والأخرى التي سدَت، عن أجمل هدية، عن أدفأ لقاء، عن أرق كلمة، عن أصعب مشكلة، عن عدد الضحايا في حلب المحاصرة، عن عدد القتلى في مجزرة إدلب، عن عدد الأطفال الذين قتلوا في آخر تفجير سيارة مفخخة في أرض دجلة والفرات، عن عدد الأفلام التي شاهدت، عن أروع مقطوعة موسيقية أصغيت، عن البلدان التي زرت.
ربما ستخذلك الإجابة بالهرب منك فتحتار كما أحتار أنا في لحظتي هذه وأنا أشعر بالتلبد تجاه استبدال رقم في أقصى الآحاد بآخر ولا أعلم إن كنت أستبدل معه كل السيئات حسنات؟ لا أعلم إن كنت باستبداله أستبدل خيبات هذا العالم أفراحًا؟ لا أعلم أن في استبداله آذان ببداية تقطع مع كل الذي فات أم أن أذيال أسالفه من الأعوام تلاحقنا لأننا بعد لم نتحرر، بعد لم ننتصر على القهر والظلم والسواد، أباستبدالنا هذه الستة بتلك السبعة بل بهذه السبعة – لأنها أصبحت قريبة أكثر مما نريد أو مما نعي – نستبدل وهن الثورة ذات الست سنون بروح عزمها يسابق سماوتٍ سبعٍ؟!
هذا الزمن في الحقيقة لا ينتظر منا رضى ليستمر، هذا الزمن لا يأبه باحتفالنا بقدومه أو بحزننا على مضيه، هذا الزمن يمر ونحن وحدنا من نرجو منه المعنى، هذا الزمن بحر تتلاطم أمواجه ونحن أسماك فيه نبحث عن الحياة نحاذر شباكًا تسرقنا حياتنا، نحاذر غفلة هائمة، نحاذر ركضًا مجنونًا، نحاذر ضياع البوصلة، نحاذر حزنًا غائرًا، نحاذر حربًا وحشية، نحاذر مادية جوفاء، نحاذر دمعًا مالحًا، نحاذر كراهية عمياء، نحاذر عقلاً جليديًا، نحاذر قلوبًا كالحجارة أو أشد.
هذا الزمن هو عمق فهمنا، هذا الزمن هو مدى نضجنا، هذا الزمن هو الدروس التي استوعبنا، هذا الزمن هو المحبة التي أوقدنا، هذا الزمن هو الإيمان الذي أينع، هذا الزمن هو الدم الذي لا يهدر سدى، هذا الزمن هو الضعف الذي يبحث عن طريق القوة، هذا الزمن هو التغطرس الآيل إلى زوال، هذا الزمن هو الألوان التي تلون الكون ففي الأبيض تكمن كل الألوان والأسود ليس إلا نهم ابتلع الألوان التي ستشرق يومًا، الزمن هو أنت وأنا وهذا المعنى الممدود بيننا يحتاج أفق فهمنا وعبق محبتنا حتى يزهِرَ.