لم يعد السؤال مطروحا حول “أصل المشاركة” في جنيف ٢ بل حول الكيفية والحصيلة.. وهذا ما يستدعي بعض الملاحظات على الهامش.
أما السؤال الأهم من قبل ذلك ومن بعده فهو السؤال عن مسار الثورة، و…ليس موقع جنيف ٢ منه سوى موقع مشهد مسرحي عابر، “ضخم” لأننا ننظر إلى المخرجين والممثلين فنراهم من “كبار القوم” دوليا، وهم الذين يصورونه ضخما، ويصعب اعتبارهم أهم شأنا ولا أدعى للنظر والتفكير والعمل من مشاهد طفل يموت جوعا، وشهيد يسقط غيلة وغدرا، وأمل يقهر اليأس ألف مرة كل يوم وليلة..
هذا ما يجب التركيز عليه في السؤال عن مستقبل مسار الثورة، ولهذا لا تتجاوز هذه الوقفة عند جنيف ٢ حدود ملاحظات على هامش المشهد.. مع الاعتذار إن طالت بعض الشيء.
من عيوب المشهد وصانعيه
من الملاحظات حول قرار المشاركة:
١- الجدل بأساليب صارخة ومزرية عبر وسائل الإعلام، تغتال البقية الباقية من الثقة بأطراف الجدل
٢- تمرير القرار بتحايل “غير قانوني” بعد تحايل مشابه لتمرير الانتخابات
٣- زيادة تمزيق جسم الهيكل التنظيمي الموصوف بالتنظيم الأكبر للمعارضة
٤- إعلان شروط للحضور ثم التراجع عنها دون تحقيق شرط واحد ولو جزئيا ولا أدنى من ذلك ولا أكثر
٥- استمرار مرضي مزمن لغياب أي استراتيجية سياسية أو حتى تفاوضية أو “خطة بديلة” للعمل
٦- الخضوع الفاضح أمام الضغوط الغربية والإقليمية مقابل “الصمود المذهل” أمام ضغوط الداخل الثوري
٧- المشاركة دون أي ضمانات ملزمة وتمييع ذلك بتصريحات “عنترية” وتهديد بالانسحاب وما شابه ذلك
٨- زيادة الإسهام في تمزيق الصفوف المسلحة للثورة ما بين رافض ومؤيد للمشاركة
٩- اتخاذ القرار متزامنا مع “حملات البراميل المتفجرة” و”أحطّ درجات النذالة عبر حصارات التجويع”، وغياب موقف دولي فاعل إزاءها ولو بمعشار الضغوط من أجل حضور جنيف ٢.
١٠- وزاد على ذلك قيبل نشر هذه السطور، نزع آخر ورقة للتوت بتوجيه الدعوة إلى إيران عقب اتخاذ القرار بالمشاركة.
أين البديل؟
من أغرب ما انتشر في العالم الافتراضي ردا على من يرفض المشاركة أو بتعبير أصح على من يطالب من تصدّى لتمثيل الثورة سياسيا بعدم المشاركة “على هذا النحو بالذات”.. قول من يقول:
ما هو البديل الذي تطرحونه غير “طريق جنيف ٢”؟..
في هذا السؤال مغالطات لا تمتّ إلى نقاش جادّ ناهيك عن نقاش سياسي:
١- إذا كان “الحضور”، مهما كان شأنه وشكله ونتيجته، أمرا حتما لا يوجد عند “الحاضرين” بديل عنه.. فليست هذه سياسة، بل إفلاس سياسي.
٢- إذا كان “الحضور” دون رؤية ذاتية، قريبة المدى وبعيدة الأفق، كي يتميز السياسي بها عن “العامة”.. فليس هو سياسيا وإن حضر وفاوض، بل إن وجوده مع محترفي السياسة والتفاوض عبء خطير على ما يتحدث باسمه.
٣- إذا كان “الحضور” تلبية علنية لضغوط أجنبية، فليس هذا قرارا سياسيا، لا ثوريا ولا وطنيا ولا سياديا، ولا يعبر عن ذكاء” ولا عن “فن الممكن” ولا عن “واقعية” تستوعب الواقع لتغيره بالتفاوض.
٤- ليست مهمة تقديم البديل على من هو خارج الائتلاف من الثوار وداعمي الثوار والمعانين أثناء الثورة، بل هي في الأصل مهمة من يملك “القرار السياسي” باسم الائتلاف، أو هكذا يعتبر نفسه، وإلا فما الذي يعطيه وصف “المعارضة السياسية”؟..
٥- إن الجالسين على مقاعد العضوية في الائتلاف، ممن أسس وممن انضم وممن تسابق للعضوية ومن دخل بدعم أجنبي وممن انسحب أيضا أو هدّد بالانسحاب.. هؤلاء جميعا هم المسؤولون معا عن “الطرح السياسي” الذي تصدّوا له وعضّوا عليه بالنواجذ، وهم المسؤولون عن طريقة تعاملهم مع جنيف ٢، ولا قيمة لدفع المسؤولية عن أنفسهم بسؤال سواهم: أين البديل؟..
الشروط.. و”الحكي”
قد نطالب من يتكلم في العالم الافتراضي، ألا يتقلب بين أمر وآخر، فليس هذا من شيم الحريص على مصداقية نفسه.. أفلا يكون هذا مطلوبا أضعافا مضاعفة من جانب “السياسي” في جولاته المتواصلة على المحافل الدولية باسم ثورة تغيير تاريخية لا مثيل لها؟..
بدلا من ذلك نجد:
١- هذا حضور دون شروط، أي دون اتفاقات تمهيدية مسبقة مع صانعي قرار جنيف ٢، ودون منهج مفاوضات يحفظ ماء الوجه أثناء المؤتمر، ودون التغطية التبريرية على قرار المشاركة ولو عبر بعض إجراءات جزئية توصف عادة بإجراءات حسن النوايا، بدلا من مضاعفة عدد البراميل المتفجرة وارتفاع عدد ضحايا حصارات التجويع.
٢- هذا حضور دون تثبيت جدول أعمال للتفاوض وللأولويات في نقاط التفاوض، ولا جدول زمني يمنع التمييع والمماطلة والعبث، ولا يغني عن ذلك حديث خطابي حول ضمانات أقصاها تصريحات تتقلب عند الساسة المعاصرين كتقلب الزبد، أو التهديد بالانسحاب فقد سبق أن ظهرت قيمة “التهديدات” عندما أعلنت عدة شروط مع عبارة “وإلاّ.. فلن نحضر”.
إن من “ألف باء” السياسة كما يقال، آن طرح الشروط يعني إعطاء المطالب قيمتها الواقعية والسياسية، كيلا تتحوّل إلى فقاعات في الهواء، وعبر أثير الفضائيات، فيتبدل شكلها وحجمها، وتتبدل معها “الشروط المزعومة” مضمونا وتعبيرا، ما بين يوم وآخر، أو ما بين حلقة وأخرى من مسلسلات “جنيف”.
أما الشعارات الخطابية فهي في عالم السياسة خطابات طفولية مهما كانت عنترية، وهي في عالم الثورة لا ترقى إلى قيمة شعارات أطفال سورية يعلنونها وجها لوجه أمام خطر القتل، فترتفع قاماتهم فوق السياسيين جميعا.
السياسي يطرح “الشعار” ليروج لنفسه، أما السياسة فلا يمارسها إلا من خلال مضمون مدروس، وخطوات ثابتة نحو هدف واضح، فلا ينحاز عن طريقه قيد أنملة، لا سيما بدعوى ما شاع للقبول بحلول “وسطية”، فالحلول الوسطية لا تكون عند أحد من ساسة العالم إلا على بعض أشكال الإخراج والوسائل والأمور الفرعية.. فقط، وليس على “الثوابت”، فكيف عندما يتعامل “ساستنا” المعارضون مع ثوابت من صنع الثورة ومن دماء الشعب ومن مستقبل الوطن!
قيمة المشاركة
الواقع أن حكايات جنيف ٢ لا قيمة لها في صناعة الحدث والتاريخ، فهي جزء من ألف جزء وجزء مما يمثل صناعة العوائق والعقبات والعراقيل في وجه وصول شعب ثائر إلى تحرير نفسه وإرادته وبلده من استبداد محلي إجرامي ومن إجرام دولي استبدادي.
ولا قيمة أيضا للسؤال عن البديل.. فلو كان يوجد عبر جنيف ٢ شيء قابل للتحقيق في خدمة الثورة والوطن والشعب، لحقّ السؤال: أين البديل الأفضل؟..
ولكن نرى كيف أن المشاركين في اتخاذ القرار يسارعون على الفور إلى الإعلان عن انخفاض مستوى توقعاتهم من جنيف إلى حد أدنى هو أقرب إلى كونه “لا شيء” إطلاقا، ألا يعني هذا أن كل شيء سواه يصبح “بديلا” أفضل منه!..
وليكن مثلا بديل التنحي عن الجلوس في مقاعد تمثيل الثورة، وترك من يسمونه “المجتمع الدولي” ليبحث عن “بديل” عنهم لو استطاع!..
الإشكالية التي تدفع إلى تسجيل ملاحظات على الهامش هي أن الثورة تواجه أصلا مشكلات ومخاطر جمة، وتزيدها المشاركة في جنيف ٢ وتعقدها، فضلا عن محاولة اعتقال مسار ثورة شعبية تغييرية تاريخية بطولية في مسار متاهات لا نهائية!..
السياسة الثورية المطلوبة
يوجد من يتساءل بمرارة:
أما كان ممكنا إيجاد بديل سياسي حقيقي، لو أن الجهود التي بذلت وتبذل والأموال التي أنفقت وتنفق، على طريق التفاهم مع القوى الدولية والإقليمية من أجل جنيف ٢ وغيره، قد بذل بعضها وأنفق بعضها على التفاهم مع القوى الثورية على “خارطة سياسية” لمسارها والوصول بها إلى دولة تنبثق عنها؟..
يعترف كاتب هذه السطور: هذا سؤال لا يجدي طرحه شيئا.
مسار الثورة والدولة المنبثقة عن الثورة في حاجة ماسّة إلى “سياسة وسياسيين”.
وما كان حتى الآن من حلقات المسرحية المأساوية للتعامل مع الثورة بتوصيف “تعامل سياسي” يؤكد أننا ما نزال نفتقد في مواكبة هذه الثورة البطولية التاريخية وجود “السياسة” و”السياسيين”.
إن السياسة تتجلى في السياسي القادر على أمور أساسية عديدة، منها باختصار شديد:
١- انتزاع المواقف من الآخرين.. وليس اتخاذ مواقف ينتزعها الآخرون منه في مسلسل لا ينتهي على منحدر تراجع رهيب.
٢- الارتباط الوثيق الدائم بمن يمثلهم سياسيا استقواء بهم في المواجهة المفروضة المستمرة مع من يواجهون مَن يمثلهم بالحرب والخداع والعداء و”الصداقة الملغومة”.
٣- القدرة على إبداع البدائل السياسية بمستوى من يبدعون عبر التضحيات والبطولات والإنجازات بدلا من أن يكون أحد أسباب التفرقة بينهم واستغلال أخطاء بعضهم وما يتعرضون له من دسائس خلف صفوفهم.
لهذا وسواه يتكرر الإلحاح على أولئك الذين يقاتلون في الثورة على أكثر من جبهة، أن يضيفوا إلى ذلك “الجبهة السياسية”، أي أن يضعوا هم بأنفسهم مع من يرون الاستعانة بهم رؤية سياسية أصيلة متكاملة، تغني عن البدائل الواهية جميعا.
ما فات الأوان وإن تأخر هذا الإنجاز.
إن من قدر هذه الثورة الشعبية التاريخية أن تصنع بنفسها ما يبدو في منزلة المعجزات بنظر من اعتاد على السبل السياسية الملتوية بعيدا عن الطريق المستقيم الوحيد الممتد في اتجاه واحد:
من لحظة ارتفعت الشعارات في أرض سورية “الشعب السوري ما بينذل”.. “الموت ولا المذلة”..
حتى ذلك الشعار الخالد “يا ألله.. ما لنا غيرك يا ألله”..
إنه تعبير بعفوية شعبية عن مسار الثورة، ولن نبلغ مستوى ما تعنيه هذه الشعارات وتفرضه، دون أن تقترن التضحيات في ساحات المواجهة والمعاناة، بصياغة موضوعية معبرة عن طريق الثورة السياسي، أي معبّرة حقيقة لا ادّعاءً عن دماء شهدائها وأصوات المعاناة المنطلقة من سائر مدنها وقراها وأحيائها ومن الحقول والمغارات والخيام، على محطات متتابعة -ومؤلمة- لصناعة شعب حر عزيز كريم، لن يقبل الذل بعد اليوم، ولن تعجزه قوة في الأرض