على الرغم من دعوات عدم الخلط بين الدين والسياسة في مصر، إلا أن كثيرًا من القواعد الفقهية الدينية يمكن التعامل بها على أرض الواقع مع اختلاف المسميات والأهداف والأساليب، في مقدمتها قاعدة “الولاء والبراء” والتي يتعامل بها النظام الحاليّ مع الجميع، فإما أن تدين لي بكل معتقداتك وأفكارك ودعمك وولائك، وتلفظ كل ما سواي أيًا كان موقفك منه، وإلا فلن نقبل منك بأقل من هذا، الولاء كله أو البراء كله.
في اليومين الماضيين تعرض الشارع المصري لحادثتين متشابهتين في الهدف وإن اختلفتا في الوسيلة، الأولى وقف برنامج الصحفي إبراهيم عيسى المقدم على قناة “القاهرة والناس”، الثانية الإطاحة برجل الأعمال نجيب ساويرس من حزب “المصريين الأحرار” الذي أسسه في 2011، ليترجم نظام ما بعد 30-6 القاعدة الفقهية السابقة بصورة كبيرة، ويواصل نهجه في تقليم أظافر كل من يجرؤ على التغريد خارج السرب.
كارت أحمر لـ”إبراهيم عيسى”
في مفاجأة غير متوقعة – على الأقل من قبل المهتمين بالوسط الإعلامي المصري -، أعلنت قناة “القاهرة والناس” الفضائية المصرية، وقف برنامج “مع إبراهيم عيسى” الذي يقدمه الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، ابتداءً من الأول من يناير الحاليّ، بسبب اعتذار عيسى عن عدم الاستمرار في تقديم البرنامج، لانشغاله ببعض الأعمال الأخرى بحسب ما جاء في بيان القناة.
وأعلن عيسى توقف برنامجه عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” قائلاً: “أعبر عن شكري لجمهور برنامج (مع إبراهيم عيسي) على محطتنا العزيزة القاهرة والناس فقد أحاط الجمهور برنامجي باهتمام بالغ وتفاعل مدهش وجدل متجدد ونقاش واسع جعل حلقات البرنامج على درجة من التأثير الذي عبر حدود تأثير مجرد برنامج تليفزيوني مما ألقي عليه أعباء وتعرض معه لأنواء وأحيط بالضغوط ففي الوقت الذي ساهم فيه في اتساع عقول تسبب كذلك في ضيق صدور”.
وتابع: “أتوجه بكل حب لمن أحب البرنامج ولمن اختلف مع صاحبه، وبكل اعتزاز برأي من وضع البرنامج موضع التقدير، وبكل تفهم لمن أثقل البرنامج قلبه بالغضب والكراهية فإنني أتقبل أن تكون هذه اللحظة مناسبة للتوقف عن تقديم البرنامج، حيث أظن أن مجريات الوقائع وطبائع المقادير تقود لأن أترك مساحة التعبير التليفزيوني لمرحلة أخرى ووقت لعله يأتي”.
كان عيسى من الإعلاميين المقربين من النظام المصري بعد 30-6، حيث تم اختياره لإجراء أول حوار تليفزيوني مع السيسي عقب الإعلان عن ترشحه لخوض الانتخابات الرئاسية في 2014
أثار قرار وقف برنامج “إبراهيم عيسى” حالة من الجدل داخل الوسط السياسي والإعلامي، خاصة أنه كان أحد أبرز الداعمين لنظام الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، فضلاً عن كونه واحدًا ممن شاركوا – وبقوة – في معارضة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، والإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي، من خلال برامجه المقدمة على قناة “ON TV” وبعدها “القاهرة والناس” أو عن طريق الصحف التي ترأس تحريرها وفي مقدمتها “التحرير” ومن بعدها “المقالة”.
وكان عيسى من الإعلاميين المقربين من النظام المصري بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، حيث تم اختياره لإجراء أول حوار تليفزيوني مع السيسي عقب الإعلان عن ترشحه لخوض الانتخابات الرئاسية في 2014، برفقة الإعلامية لميس الحديدي، وظل بعدها على خطى الدعم والتأييد المطلق لكل قرارات النظام، إلى أن تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية في أبريل 2016.
بدأ الصدام بينه وبين السلطة الحالية حين تصدى لفكرة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، حيث شن هجومًا حادًا على المملكة وقيادتها، وبعدها وجه العديد من الانتقادات لأداء البرلمان الحالي، فضلاً عن توظيف صحيفته “المقالة” لتوجيه أسهم النقد للنظام، مما دفعه – النظام – إلى السعي لتحجيم دوره، وتقليم أظافره، بالضغط على طارق نور، مالك قناة “القاهرة والناس” من خلال عرقلة بعض المشاريع التجارية له، لوقف بث البرنامج، وهو ما كان بالفعل، ليجد إبراهيم عيسى نفسه خارج الميدان، بعد سنوات من الدعم والتأييد لهذا النظام.
إبراهيم عيسى مع عبد الفتاح السيسي
ردود فعل غاضبة: “أنتم السابقون ونحن اللاحقون”
وجه عدد من الإعلاميين – المؤيدين للنظام – نقدًا حادًا لوقف برنامج إبراهيم عيسى، مطالبين بإعادة النظر في هذا القرار، الذي يسعى إلى دعم فكرة “تأميم الإعلام” والاستمرار في سياسة “الصوت الواحد” تحت دعاوى التهديدات التي تحيط بالدولة والمؤامرات التي تحاك ضدها.
الإعلاميون المنتقدون لهذا القرار تساءلوا بسخرية عن فوائد إبعاد عيسى عن الساحة الإعلامية، حيث قال عمرو أديب: “إبراهيم مشي ولا الدولار هيتحسن ولا الاقتصاد هيتحسن ولا أي حاجة هتحصل، كل الحكاية أنه كان صداع وأخدوله قرصين وانتهينا”.
وتابع أديب خلال برنامجه “كل يوم” المذاع على فضائية ON E: “وصلنا لطريق عدم الحوار، إما أن تكون معي أو ضدي، وأخشى أن يكون الدور عليّ أنا وبقية زملائي”، واختتم قائلاً: “أنتم السابقون ونحن اللاحقون”.
أما خالد صلاح، وهو أحد أبرز المؤيدين للنظام الحاليّ، فقد أرجع وقف البرنامج إلى الخلاف مع البرلمان المصري، مشيرًا أن الموضوع انتهى بطريقة درامية، ومعربًا عن تعجبه من الوصول لمرحلة يحاول فيها كل الأطراف الفوز بالضربة القاضية دون التوصل لنقاط وسط حسب قوله.
صلاح خلال برنامجه “على هوى مصر” المقدم على قناة “النهار” الفضائية المصرية الخاصة، قال: “للأسف إحنا فاهمين الديمقراطية على طريقة الكورة الشراب، لازم تجيب جوووول وتكسب”، لافتًا إلى أن التعايش الديمقراطي يكون بالكثير من التنازلات المشتركة.
ليست الأولى
وقف بث برنامج الإعلامي إبراهيم عيسى، لم يكن الأول ولن يكون الأخير، ففي أكتوبر الماضي، أوقفت قناة الحياة المصرية الخاصة، برنامجين كان يقدمهما المذيع المصري عمرو الليثي، وذلك بعد أيام من بث مقطع فيديو لليثي مع المواطن صاحب العبارة الشهيرة “أنا خريج توكتوك”، الذي وجه انتقادات حادة لطريقة إدارة النظام السياسي للبلاد من خلال برنامج الليثي، والذي لاقى انتشارًا على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أعلنت القناة آنذاك أن برنامجي الليثي لم يتوقفا، وأنه “بدأ عطلته السنوية لثلاثة أسابيع”، لكن البرنامجين لا زالا متوقفين حتى الآن.
وفي نفس الشهر، تراجعت قناة “المحور” الخاصة المصرية عن إذاعة حلقة من برنامج يقدمه المذيع معتز الدمرداش تضمنت حوارًا هو الأول مع المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، بعد إقالته، لكن الحوار لم يُذع رغم إطلاق القناة لحملة ترويجية له قبل الموعد الذي كان مقررًا لبثه بثلاثة أيام.
وقد سبق ذلك عدة إجراءات رقابية أيضًا، ساعدت على ترسيخ مبدأ “تأميم الإعلام” واعتماد استراتيجية “الصوت الواحد”، حيث تم توقيف بعض الإعلاميين، منهم محمود سعد، وغلق بعض القنوات مثل “التحرير” ومصادرة بعض الصحف مثل “الشعب” وتضييق الخناق على أخرى للتحول من يومية إلى أسبوعية، مثل صحيفة “التحرير”، فضلاً عن اعتقال العشرات من الصحفيين والإعلاميين المغردين خارج سرب النظام الحالي.
وقف برنامج عمرو الليثي بسبب تصريحات “سائق التوك توك”
نجيب ساويرس.. خارج حلبة السياسة
كان أحد أبرز الوجوه التي ساعدت في الترويج لانقلاب الثالث من يوليو، حيث سخّر ساويرس عشرات المليارات لدخول الحلبة السياسية كفاعل، فأنشأ حزب “المصريين الأحرار” ودعمه في الانتخابات البرلمانية في 2012، ثم وظّف قناته الفضائية “ON TV” لمعارضة تواجد الإسلاميين على رأس السلطة، والعمل على الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وهو ما كان بالفعل، ليتصدر المشهد السياسي بعد الدور الملحوظ الذي لعبه لإنجاح انقلاب الثالث من يوليو.
حصد ساويرس العديد من الامتيازات في دولة ما بعد الإخوان، حيث تهرب من دفع ما يقرب من 14 مليار جنيه (1.5مليار دولار حينها) ضؤائب مستحقة، فضلاً عن العديد من الاستثمارات التي نجح في التسويق لها داخليًا وخارجيًا، إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأ يغرد هو الآخر خارج السرب، ويوجه سهام نقده لبعض القرارات السياسية الأخيرة، مستنكرًا أداء الحكومة الحالية والتي سبقها، وبات عبئًا على كاهل النظام الحالي، مما دفعه إلى التخطيط للإطاحة به، وهو ما كان بالفعل.
يذكر أنه في الفترة الأخيرة برز الخلاف والصدام بين جبهتين داخل حزب “المصريين الأحرار”، يقود إحداهما مؤسس الحزب نجيب ساويرس، ويقود الأخرى رئيس الحزب عصام خليل، الذي حصل على منصبه بدعم من ساويرس، ويمكن تلمس ملامح صراع هذه الجبهات في عدد من المواقف، ففي الوقت الذي أعلن فيه رئيس الهيئة البرلمانية للحزب علاء عابد، أن “سحب الثقة من الحكومة أصبح ضرورة”، ثم خرج رئيس الحزب عصام خليل ليرفض دعوات سحب الثقة من الحكومة.
حصد ساويرس العديد من الامتيازات في دولة ما بعد الإخوان، حيث تهرب من دفع ما يقرب من 14 مليار جنيه (1.5 مليار دولار حينها) كان قد فرضها مرسي عليه، فضلاً عن العديد من الاستثمارات التي نجح في التسويق لها داخليًا وخارجيًا
كما استقال من الحزب عدد من الشخصيات المؤثرة، مثل عضو مجلس النواب الدكتور عماد جاد، ورئيس مجلس أمناء الحزب الدكتور أسامة الغزالي حرب، وأمين تنظيم الحزب ومنسق الهيئة البرلمانية له النائب هاني نجيب، وكان مبرر الاستقالات “الاعتراض على سياسات خليل، في طريقة إدارته للأمور”.
نجيب ساويرس في أثناء كلمة له داخل حزب المصريين الأحرار
وفي المؤتمر العام للحزب، السبت الماضي، تم التخطيط للإطاحة برجل الأعمال الأكثر ثراءً في مصر، من خلال حل مجلس الأمناء الذي يترأسه، وبالتالي بات ساويرس مطرودًا من الحزب الذي أنشأه بنفسه، وموله طيلة السنوات الماضية.
قرار الإطاحة بساويرس أصابه بصدمة غير متوقعة، وهو ما جسدتها تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” قائلاً: “لا تأسفن على غدر الزمان لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب.. لا تحسبنَّ برقصها تعلو على أسيادها.. تبقى الأسود أسودًا والكلاب كلاب”.
لا تأسفن على غدر الزمان ، لطالمارقصت على جثث الأسود كلاب
لاتحسبن برقصها تعلو على أسيادها،
تبقى الأسود أسوداً والكلاب كلاب— Naguib Sawiris (@NaguibSawiris) December 30, 2016
وفي اليوم التالي مباشرة للإطاحة بساويرس من “المصريين الأحرار” قضت المحكمة الاقتصادية المصرية، بإلزام شركة أورانج مصر (موبينيل سابقًا)، بتعويض مادي لصالح الشركة المصرية للاتصالات قدره 49.1 مليون جنيه (2.7 مليون دولار)، تعويضًا عن الخسائر التي أصابتها نتيجة تمرير مكالمات بطرق غير شرعية مع إسرائيل في القضية المعروفة إعلاميًا بتخابر “موبينيل” مع إسرائيل.
تعود القضية إلى أغسطس 2011، على خلفية قضية التجسس المتهم فيها شخص أردني بالتعاون مع أحد ضباط الموساد في التخابر ضد أمن مصر، وورد بين التحقيقات اتهامات لشركة “موبينيل” التي يرأسها نجيب ساويرس بالضلوع في عمليات التجسس عن طريق بناء أحد أبراج المحمول في منطقة العوجه الحدودية مع الكيان الصهيوني بما يسمح بمراقبة المكالمات عن طريق الشبكة من داخل “إسرائيل”.
رغم الحملة الاستنكارية التي قادها بعض الإعلاميين دعمًا لإبراهيم عيسى وغيره، أو انتقاد الإطاحة بنجيب ساويرس بهذه الطريقة، إلا أن الواقع يقول إن عيسى وساويرس سيظلان من أبناء هذا النظام، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التغريد خارج سربه بصورة ما، لكن يبقى في النهاية أن القائمين على أمور مصر في الآونة الأخيرة ما عادوا يتحملون أي صوت يعارضهم حتى ولو كانت معارضة شكلية، ومن ثم على الجميع أن يختار، إما أن يكون معهم قلبًا وقالبًا، أو يتم الإطاحة به في أقرب وقت.