تتوالى التقارير الدولية التي تستشرف مستقبل الاقتصاد السوري، ومن بينها دراسة أجراها مركز فرونتيير إيكونوميكس الأسترالي للاستشارات ومؤسسة ورلد فيجن الخيرية في فترة سابقة، حيث كشفت أن الخسائر الاقتصادية للحرب في سوريا تقدر بنحو 689 مليار دولار إذا توقف القتال عام 2016، وأنها قد تصل إلى 1.3 تريليون دولار إذا استمرت الحرب حتى عام 2020، وذكرت الدراسة أن هذه الخسائر أكبر 140 مرة من تقديرات الأمم المتحدة والدول المانحة.
المقصود من تقدير الخسائر بنحو 689 مليار دولار هو ما ضاع من نمو اقتصادي حتى الآن، بالإضافة إلى ما قد يضيع مستقبلًا لأن التعافي سيستغرق عشر سنوات، إلا أن هناك دراسات قيّمت الخسائر بأقل من ذلك، والثابت بين هذه الدراسات عدم وجود أرقام حقيقية للخسائر، فالحرب لا زالت مستعرة ويصعب تقدير الخسائر البشرية والخسائر غير المباشرة.
أوهام مشروع مارشال سوريا
بينما نحصي تلك الخسائر الكارثية يقدم بعض الخبراء مع كل جولة تفاوضية صورة تفاؤلية عن مستقبل سوريا، حيث بدأ بعضهم يروّج لفكرة اقتراب موعد إطلاق عملية إعادة الإعمار في سوريا، بينما ذهب بعضهم الآخر لمقارنة ما حصل في سوريا مع ما حصل للألمان واليابانين بعد الحرب العالمية، وكيف استطاعوا التغلب على خسائرهم الكارثية وبناء نهضة اقتصادية وحضارية، إلا أننا نرى – بغض النظر عن المنتصر- أنه من الصعب حلّ مشاكل سوريا “الهيكلية“ بهذه المقارنة السطحية، فالترويج لخطة مارشال في سوريا وهم وترف لا أكثر، هذه خطة قد لا تجد دولًا تدعمها وتتبناها كما حصل مع ألمانيا واليابان لأسباب كثيره سنحللها لاحقًا.
جدير ذكره أن مشروع مارشال هو خطة اقتصادية أُطلقت بمبادرة من وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج مارشال، من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية وبناء اقتصاداتها من جديد، وذلك عبر تقديم هبات عينية ونقدية بالإضافة إلى حزمة من القروض الطويلة الأمد.
الحالة الاقتصادية للدول المنخرطة في سوريا
وفي هذا المقام لن نتحدث عن كل من الاقتصاد العراقي، اللبناني، الأردني، الخليجي، بل سنتحدث عن الاقتصاد الروسي والتركي والإيراني خلال العشر سنوات الأخيرة، باعتبارهم الدول الأكثر انخراطًا في سوريا، ولنبدأ من الاقتصاد الروسي، حيث خسر المواطنون الروس 60% من ممتلكاتهم بسبب انخفاض الروبل الروسي، كان كل 25 روبلًا روسيًا يعادل دولارًا، بينما أصبح الآن كل 61 روبلًا روسيًا يعادل دولارًا، علمًا أن الروبل قد وصل في فترات سابقة لأقل من ذلك، لكنه تعافى لاحقُا.
خسر المواطنون الإيرانيون بسبب تدهور الريال الإيراني 75.5% من ممتلكاتهم
أما الاقتصاد الإيراني ليس أفضل حالًا فقد خسر المواطنون الإيرانيون بسبب تدهور الريال الإيراني 75.5% من ممتلكاتهم، حيث كان 10000 ريال إيراني يعادل دولارًا، وأصبح الآن 41500 ريال للدولار، علمًا أن خسائر الريال الإيراني مستمرة بفعل العقوبات الغربية سابقًا، وتداعيات انتخاب ترامب وأثره في الاتفاق النووي.
بينما خسر المواطنون الأتراك 57% من ممتلكاتهم بسبب اختلالات الليرة التركية، حيث كانت كل 1.5 ليرة تعادل دولارًا، وأصبحت الآن كل 3.5 ليرة تركية تعادل دولارًا.
خيارات سوريا
بغض النظر عن اقتراب موعد إعادة الإعمار من عدمه ليس أمام سوريا خيارات كثيرة، وفي هذا المقام لن نناقش إمكانية جذب الاستثمارات الخارجية أو استعادة الأموال السورية المهاجرة، حيث عجزت سوريا قبل الحرب عن جذب الاستثمار لأسباب لا تخفى على أحد، وبالتالي ليس أمامها سوى أن تعتمد على مواردها الذاتية أو تنتظر الدعم الدولي.
فيما يتعلق بالموارد الذاتية، تعتبر سوريا بلدًا محدود الموارد، وبدقة أكثر نقول رغم أن سوريا بلد متنوع الموارد فإنها تبقى موارد بسيطة، فالإنتاج الزراعي يعاني بسبب القحط، والصناعة دُمر بعضها بفعل الحرب، وتعرض بعضها الآخر للنهب والسلب، أما فيما يتعلق بقطاع النفط والغاز، فالجميع يعلم أن احتياطات سوريا من النفط لو لم تقم الحرب الأخيرة لنضبت خلال فترة وجيزة حسب تقارير محلية ودولية.
خرافة الغاز في الساحل السوري
روّجت الماكينة الإعلامية للسلطة الحاكمة في سوريا لفكرة إمكانية إعادة الإعمار من خلال الغاز في الساحل السوري، في الحقيقة هذا وهم آخر، لأنه وفقًا لدراسة تقدر الكميات بـ120 تريليون قدم مكعب، أي أن احتياطات الغاز في البحر المتوسط لا تتجاوز واحد من ثمانية من احتياطي الغاز القطري، كما أنها لا تمثل سوى واحد من 16 مما تملكه روسيا، وفي أحسن الأحوال لا تتعدى واحد من 11 مما تملكه إيران! جدير بالذكر أن الاحتياطيات في البحر المتوسط تتقاسمها أربع بلدان (سوريا ولبنان وقبرص والكيان الصهيوني)، ولا ننسى أن نحسب معها تكاليف الاستخراج وتشغيل الحقول والآبار، فتخيّل يا رعاك الله كيف لحصة كهذه أن تفي بعمليات إعادة الإعمار.
سوريا بين وصفات التمويل الدولية والحاضنة الاجتماعية
وضع بعضهم فرضية أخرى لإمكانية تمويل عملية إعادة الإعمار عبر الاستعانة بالقروض الدولية، لكن لا أحد يعرف حقيقة مديونية سوريا خلال فترة الحرب خصوصًا، كل ما نعرفه أنه قبل عام 2011 تم شطب بعض القروض الروسية مقابل صفقات تسليح بالإضافة لخطوط ائتمان إيرانية، إلا أن حجم الالتزامات الأخرى مع إيران وروسيا والصين لم تظهر للعلن بعد، قد يغري البعض إمكانية الاستدانة من المؤسسات الدولية بسبب حجم المديونية المنخفض لسوريا.
في البداية لا بد لنا أن نعرف سبب انخفاض مديونية دولة كسوريا، حيث إن مؤسسات التمويل الدولية تفرض وصفات لا بد من تنفيذها حتى تتم عملية التمويل، بدءًا من شكل الحكم وصولًا إلى التدخل في سياسات الدعم التي قد تُفقِد الجهة الحاكمة ما تبقى من شعبيتها وخصوصًا في حاضنتها الاجتماعية.
سوريا ولعنة الاقتصاد العالمي
قد يرى آخرون أن هناك إمكانية لتمويل عملية إعادة الإعمار بالاعتماد على الدول المانحة، دعونا نرى موقف الاقتصاد العالمي أولًا، لسوء الحظ أن الحرب في سوريا حدثت خلال فترة عصيبة بالنسبة للاقتصاد العالمي من جهة، ومشاكل تعرضت لها الدول المانحة التقليدية من جهة أخرى، حيث تشير الدرسات إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي، بل إن العالم على موعد مع إجراءات لا تعزز الاقتصاد العالمي مع ظهور الحالة الشعبوية في أمريكا وأوروبا، وغيرها من ظواهر اقتصادية كالبريكست، واهتزاز عرش الاقتصادات الناشئة، واتجاه الدول أكثر فأكثر إلى مزيد من الحمائية والتقوقع، مما يعني زيادة صعوبات التمويل.
وفي هذا المقام لا بد من معرفة رغبة المجتمع الدولي من إعادة الإعمار (عدا إيران وروسيا التي سنناقش موقفهما لاحقًا) فيما لو انتصر الطرف الحكومي على معارضيه، جميع الدلائل تشير أن مآل سوريا ككوريا الشمالية أو كوبا في أحسن الاحول، وقد ترغب الدول الغربية بدعم إعادة الإعمار للحد من الهجرة، وهذا ما قد تعزف عليه الجهة الحاكمة خلال الفترة القادمة، إلا أن الغرب سيكون في موقف محرج مع دافعي الضرائب فيما لو تماهى مع هذا الطرح.
خطط التقشف في الدول المانحة التقليدية (الخليجية)
يصعب على الدول الخليجية المانحة المشاركة في عمليات الإعمار وتمويل الحكومة الحالية، وقد نذهب لأبعد من ذلك، إذا ما شاركت ستكون مشاركتها خجولة لأسباب أخرى تتعلق بسياسات إعادة الهيكلة والتقشف وشطب المشاريع داخل هذه الدول نفسها بعد مشاكل سوق النفط، ولا ننسى غرقها بالتزامات محلية وإقليمية كاليمن.
حذر تقرير لشركة فتيش لإدارة الأصول من أن السياسة التي تتبعها الحكومة السعودية لخفض المصروفات عبر خفض الاستثمارات الحكومية، سيضع ضغوطًا على النمو في المدى المتوسط رغم اعتماد المملكة موازنة طموحة للعام 2017 وبعجز قدر بـ53 مليار دولار
حيث كشف تقرير صادر عن كابيتال إيكونوميكس أن الكويت (باعتبارها من كبار المانحين التقليديين العرب) ترزح كما غيرها من دول الخليج تحت وطأة انخفاض الإيرادات النفطية، ورجح أن تحمل البيئة السياسية المنقسمة حاليًا تأثيرًا قويًا على معدل النمو في العامين المقبلين ليبقى عند 1% في عام 2017-2018، ويعزز توقعات التباطؤ فوز المعارضة بأغلب مقاعد مجلس الأمة الكويتي.
أما بالنسبة للسعودية فقد حذر تقرير لشركة فتيش لإدارة الأصول من أن السياسة التي تتبعها الحكومة السعودية لخفض المصروفات عبر خفض الاستثمارات الحكومية، سيضع ضغوطًا على النمو في المدى المتوسط رغم اعتماد المملكة موازنة طموحة للعام 2017 وبعجز قدر بـ53 مليار دولار، بالإضافة إلى الإجراءات التقشفية الصارمة لضبط الإنفاق وإصدار السندات وازدياد منسوب الدين العام.
بينما قطر ليست ببعيد عن ذلك، تحاول الحصول على قروض مجمعة لتمويل مشاريع محلية، وحتى لا يتم تصوير واقع الدول الخليجية بسوداوية، نستطيع القول إن لدى دول مجلس التعاون فوائض مالية هائلة لكن الشأن الداخلي أصبح في أعلى سلم الأولويات.
روسيا وإيران بين فحولة عسكرية واقتصاد منهك
قد يذهب آخرون إلى إمكانية قيام إيران وروسيا بإعادة الإعمار، في الحقيقة روسيا وإيران هما أيضًا في موقف حرج، فاقتصادهما يعاني من مشاكل هيكلية بسبب اختلال ميزان المدفوعات، وهزّات سوق الصرف، وارتفاع مستوى البطالة والتضخم، حيث انخفض الريال الإيراني بعد أن كانت قيمة الدولار الواحد منتصف شهر ديسمبر عام 2011 نحو 14840 ريالًا ليصبح الآن 41300 ريالًا، لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، حيث ذكرت تقارير دولية عديدة أن إيران قد حلّت في المرتبة 136 من أصل 168 في مؤشر الفساد، ولا يخفى على أحد عمليات الاحتيال الممنهجة لرجال الأعمال الإيرانيين للحصول على قروض مصرفية، وأبرزها حادثة الاحتيال الشهيرة لرجل الأعمال أمير خسروفي وغيرها من قصص الفساد.
وهناك دلائل أخرى توضح صعوبة قيام إيران بتمويل عمليات الإعمار لأن الاقتصاد الإيراني يعاني من مشكلات بنيوية مزمنة كالتضخم المفرط والبطالة، فإيران تحتل المرتبة 180 من أصل 187 دولة في مؤشر التضخم، كما يقدر حجم الأموال اللازمة لتطوير الصناعة النفطية على مدى خمس سنوات بـ100 مليار دولار!
إيران وروسيا لم نعرف يومًا أنهما من البلدان المانحة التقليدية، كل ما نعرفه أنهما تقدمان هبات عسكرية على شكل خردة من الأسلحة
أما روسيا فليست أفضل حالًا، ورغم توقعات صندوق النقد الدولي لمستقبل الاقتصاد الروسي وإمكانية خروجه من دائرة الركود إلا أن التوقعات خلال العام الحاليّ تشير إلى أنه سينكمش بمعدل 0.6% من إجمالي الناتج المحلي، بعد أن انكمش في العام 2015 بنسبة 3.7%، ولا ننسى حالات إفلاس عدد من الشركات الخاصة في قطاعي البناء والمالية بسبب العقوبات الغربية وانهيار أسعار النفط، كما أن الروبل انخفض بنسبة 60% في فترة سابقة ثم ما لبث أن تعافي بعض الشيء.
الجميع يعلم أن تدخل روسيا وإيران لا يفسر على أنه فحولة سياسية وعسكرية، لأنهما دول أيديولوجية تعاني من مشاكل محلية وجدت في الأزمات الدولية متنفسًا لإشغال الرأي العام المحلي المؤدلج، ربما سيسيل لعاب الشركات الروسية والإيرانية إلا أن هذه الشركات تحتاج – في الأساس – إلى وجود صندوق لدعم عمليات إعادة الإعمار وهذا الصندوق يحتاج لمانحين، بينما إيران وروسيا لم نعرف يومًا أنهما من البلدان المانحة التقليدية، كل ما نعرفه أنهما تقدمان هبات عسكرية على شكل خردة من الأسلحة.
بناء على ما سبق، من يتوقع أن عمليات إعادة الإعمار ستنطلق بتمويل دولي واهم حتى لو قامت المجموعة الدولية بعقد مؤتمرات داعمة فلن يتم الدفع، ومن يرى عكس ذلك عليه مراجعة حجم الالتزامات التي وعدت بها الدول المانحة لقطاع غزة مثلًا، وهل تم تنفيذ ما قطعته تلك الدول من التزامات أم لا، وبالتالي لا يمكن أن تقوم لسوريا قائمة إلا بالاعتماد على سواعد أبنائها الحقيقيين، وهذا لا يمكن إنجازه ما لم يفرض اللاعب الدولي حلًا مستدامًا للعنة السورية.