بعد منتصف ليل الأربعاء 21 يونيو/حزيران 2023 خرجت الرئاسة الجزائرية ببيان أعلنت فيه إقالة الرئيس عبد المجيد تبون لوزير الاتصالات محمد بوسليماني، دون تقديم أي تفاصيل بشأن تلك الإقالة، إذ ذكر البيان أنه “بعد استشارة الوزير الأول، أنهى رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، مهام وزير الاتصال محمد بوسليماني، وكلف الأمينة العامة لوزارة الاتصال بتسيير شؤون الوزارة بالنيابة”.
القرار المفاجئ الذي أُعلن عنه فجرًا على غير المتعارف عليه، أثار الكثير من التكهنات حينها، لكن رواد منصات التواصل ربطوا هذا القرار بالخبر الذي نشرته صحيفة “النهار” بشأن طرد السفير الإماراتي بالجزائر، وإمهاله 48 ساعة لمغادر البلاد، وهو الخبر الذي سارعت السلطات لنفيه سريعًا، بعد حذفه بساعات قليلة عقب نشره، مؤكدة ما وصفته بـ”متانة وصلابة العلاقات الثنائية الجزائرية الإماراتية المتميزة القائمة بين البلدين والشعبين الشقيقين”.
واقعة صحيفة “النهار” رغم محاولة الطمس والتعتيم لها، كانت كاشفة بشكل كبير عن حجم التوتر في العلاقات بين البلدين، وهو ما توثقه العديد من المؤشرات والشواهد التي خرجت للنور رغم مساعي الإبقاء عليها تحت موائد الخفاء خلال العامين الماضيين، الأمر الذي دفع النخبة هنا وهناك إلى الحديث عن إعادة تقييم للعلاقات الإماراتية الجزائرية بعدما وصلت إلى هذا المنسوب من التدهور.
لا ينكر هذا التوتر – رغم حساسيته – القضايا المشتركة التي تربط بين البلدين، والمصالح التي تجمع بينهما، إلا أن اتساع الهوة فيما يتعلق ببعض الملفات والقضايا، التي يُنظر إلى بعضها على أنها “أمن قومي” قد يجعل من محاولات الالتئام مسألة شاقة.. فهل تنجح الجهود الدبلوماسية المبذولة في إبقاء التوتر حبيس الرماد؟
الدولة الوظيفية.. الإعلام الجزائري ينتقد أبو ظبي
“ممارسات عدائية لا تتوقف ضد الجزائر.. أبو ظبي عاصمة التخلاط” تحت هذا العنوان نشرت صحيفة “الخبر” الجزائرية تقريرًا في 28 يوليو/تموز 2023 اتهمت الإمارات بالعبث بأمن الجزائر القومي من خلال العديد من الأعمال العدائية التي تقوم بها عن طريق مسؤولين إماراتيين بحق الشعب الجزائري.
الصحيفة كشفت ما وصفته بـ”ازدياد كراهية نظام أبو ظبي للجزائر مؤخرًا” من خلال بعض الممارسات منها إصرار مسؤولين إماراتيين على مساعدة المغرب ووقوفهم بجانب نظام المخزن لإيذاء الجزائر، وتقديم مساعدات مادية لتونس شريطة التطبيع مع “إسرائيل”، وقطع علاقتها بالدولة الجزائرية، الأمر ذاته مع موريتانيا التي تمارس عليها الدولة الخليجية ضغوطًا قاسيةً.
كما اتهم التقرير أبو ظبي بمحاولة التجسس على الجزائر من خلال الكشف عن “برنامج تجسس إسرائيلي جديد طورته شركة “كوادريم” وتشغله الإمارات فوق أراضيها موجه لاختراق هواتف مسؤولين وصحافيين في 10 دول”، وهو ما يتناغم في سياقه مع ما نشرته صحيفة “النهار” بشأن طرد السفير الإماراتي في الجزائر على خلفية مزاعم اكتشاف شبكة جواسيس إماراتيين يعملون لصالح الموساد.
العديد من الصحف الجزائرية شنت خلال الآونة الأخيرة هجومًا على السياسة الإماراتية في دول شمال إفريقيا، واصفين إياها بلعب دور “الدولة الوظيفية” التي تستغل الأزمات التي تعاني منها الدول من جانب والخلافات الداخلية والخارجية التي تشهدها ساحتها السياسية والاقتصادية والأمنية لتحقيق أجندات خاصة تستهدف في المقام الأول تعزيز النفوذ على حساب أمن واستقلالية وسيادة تلك الدول.
5 ملفات ملغومة
من الواضح أن السياسة الإماراتية خلال السنوات العشرة الأخيرة باتجاه بعض الدول العربية والإفريقية، الساعية في المقام الأول لتعزيز الحضور الإماراتي إقليميًا ودوليًا، لم ترق للجزائريين بشكل كبير، لما تتضمنه من تهديدات وتحديات جسام، أجبرت الجزائر أن تضع تلك السياسة تحت مجهر الترقب والاهتمام منذ سنوات.
ورغم القبضة المشددة التي يفرضها النظام الجزائري على وسائل الإعلام الداخلية، فإنه أبقى على مساحة ضيقة من الحرية لتكون متنفسًا لبعض تلك الوسائل، لا سيما المملوكة للقطاع الخاص، للتعبير عن غضبها إزاء السياسات الإماراتية، لتحقق التوازن النسبي في التعاطي مع ملف العلاقات بين البلدين والمهددة بطبيعة الحال بعدة ملفات تتصدرها خمس قضايا رئيسية.
العلاقات مع المغرب
تدعم أبو ظبي الرباط في قضية الصحراء الغربية، ففي يونيو/حزيران الماضي أكد ممثل الإمارات العربية المتحدة، ماجد خميس العلي، خلال الاجتماع السنوي للجنة الـ24 المنعقد بنيويورك، أن
“دولة الإمارات تجدد دعمها الكامل للمملكة المغربية الشقيقة في الإجراءات التي تتخذها للدفاع عن حقوقها المشروعة وقضاياها العادلة، ومنها سيادتها على سائر منطقة الصحراء المغربية”.
الدعم الإماراتي للمغرب لا يتوقف هنا على الدعم السياسي في قضية الصحراء، وتعزيز التعاون بين البلدين في هذا الملف فحسب، لكن تجاوز ذلك إلى الدعم العسكري الواضح، وتزويد الرباط بأجهزة تجسس متطورة تضع الأمن القومي الجزائري في مرمى الاستهداف، وهو ما يثير تحفظ الجزائريين بشكل واضح.
الملف التونسي
تتعامل الجزائر مع القضايا التونسية الداخلية على أنها مسألة أمن قومي، نظرًا للترابط الحدودي والجغرافي بين البلدين، ومن ثم فإن السياسات الإماراتية الرامية إلى تعميق نفوذ أبو ظبي في تونس، مستغلة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تواجهه، تمثل أحد مُحددات الخلاف بين الإمارات والجزائر.
الجزائريون يتهمون أبناء زايد باستخدام العديد من أوراق الضغط والتضييق على التونسيين خلال السنوات الماضية، البداية حين منعت الإمارات في سبتمبر/أيلول 2015 منح تأشيرات للتونسيين، أو حتى تجديد تأشيرات الإقامة لمن حصلوا عليها سابقًا، كما أوقفت الاستثمارات الخاصة بها في تونس مع ولاية الرئيس التونسي السبسي، كأحد أنواع الضغط على هذا النظام الذي تتحفظ عليه أبو ظبي.
يصطدم الطموح الإماراتي في منطقة الشرق الأوسط والعمق الإفريقي بتحديات الأمن القومي والمصالح الجزائرية، حيث تتبنى أبو ظبي إستراتيجية برغماتية بحتة في تحركاتها الإقليمية دون اعتبارات مصالح الدول العربية الشقيقة
كما وصفت الصحف الجزائرية الزيارة التي قام بها وزير الدولة الإماراتي شخبوط بن نهيان لتونس في التاسع من الشهر الحاليّ ولقاءه الرئيس قيس سعيد، بأنها “زيارة مشؤومة”، وهي الزيارة التي اتهمها البعض بأنها محاولة ابتزاز للدولة التونسية تقوم على تعزيز النفوذ الإماراتي نظير تقديم مساعدات مالية واقتصادية، بجانب ما يثار بشأن ضغوط أبناء زايد على نظام سعيد لتعميق التقارب مع “إسرائيل”.
الملف الليبي
تنظر الجزائر إلى ليبيا على أنها امتداد لأمنها القومي، ومن ثم تتعامل وفق إستراتيجية مختلفة، تسعى من خلالها لتحقيق التوازن دون التطرف في التوجهات، وهو ما يتناقض مع الموقف الإماراتي الداعم بكل قوة لجبهة المشير خليفة حفتر في مواجهة الحكومة المعترف بها أمميًا، الأمر الذي زاد من وتيرة الصدام والتوتر في ليبيا، بما يهدد الأمن القومي والمصالح الجزائرية.
العلاقات مع إيران.. رغم المرونة الكبيرة في العلاقات بين أبو ظبي وطهران، فإن العلاقات المتجذرة والمتعمقة بين إيران والجزائر، والتعاون الكبير بينهما اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، واتفاق الرؤى بينهما إزاء أكثر من ملف، كان أحد أبرز محددات الخلاف مع الإماراتيين الذين يرون في تلك العلاقات تهديدًا لهم ولنفوذهم ومصالحهم في المنطقة.
التطبيع مع “إسرائيل”
الخطوات المتسارعة التي اتخذتها الإمارات لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، والضغوط التي مارستها على بعض الدول للانضمام إلى اتفاق” أبراهام” منذ نهايات 2020، أثارت حفيظة الجزائر بشكل كبير، إذ كان الرئيس الجزائري هو الوحيد الذي اعترض على ما حدث ووصفها بالـ”هرولة” وهو التصريح الذي فهم منه استهداف الإمارات على وجه التحديد.
السياسات الإماراتية في العمق الإفريقي
يصطدم الطموح الإماراتي في منطقة الشرق الأوسط والعمق الإفريقي بتحديات الأمن القومي والمصالح الجزائرية، حيث تتبنى أبو ظبي إستراتيجية برغماتية بحتة في تحركاتها الإقليمية دون اعتبارات مصالح الدول العربية الشقيقة، وهي الإستراتيجية ذاتها التي ساهمت في توتير الأجواء بين الإمارات وحلفائها التقليديين وعلى رأسهم السعودية ومصر.
تناقض صعب الإصلاح
من يقرأ توتر العلاقات بين الجزائر ودول الخليج بصفة عامة والجزائر على وجه التحديد في إطار الخلافات السياسية الهامشية على خلفية تباين وجهات النظر إزاء بعض الملفات، يجانبه الصواب إلى درجة كبيرة، فهذا التوتر المتجذر في عمق العلاقات بين الجانبين، منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، يسير في الغالب متأرجحًا بين الفتور والتوتر، ولم يتطور إلى مستويات يمكن القول بأنها استثنائية.
الكاتب الجزائري توفيق رباحي في مقال له يرى أن “التناقض السياسي والأيديولوجي والاقتصادي بين نظامي الحكم في كلٍّ من الجزائر وأبو ظبي متجذر وغير قابل للإصلاح إلا إذا تغيّر أحد النظامين في العمق، وهذا من ضروب المستحيل”، مرجعًا ذلك إلى حزمة من المسببات والمؤشرات التي اختتمت بقضايا النفط والأزمات الأخيرة في المحيط العربي التي ساهمت بشكل كبير في زيادة الهوة بين الطرفين.
ويميل رباحي إلى الرواية التي تقول بأن التحركات الإماراتية الأخيرة بدأت تزعج دوائر السياسة والحكم في الجزائر بشكل واضح، مستندًا في ذلك إلى عدة شواهد منها الميل الأيديولوجي والسياسي الإماراتي للمغرب بحكم تشابه منظومتي الحكم في البلدين وانتسابهما إلى المعسكر الغربي الرأسمالي، فضلًا عن العلاقات الشخصية القوية التي تربط بين قادة البلدين في أعلى الهرم، التي تلقي – بطبيعة الحال – بثقلها على العلاقات بين البلدين.
هناك انقسام داخل منظومة الحكم الجزائرية “طائفة تريد فتح جبهة مواجهة مع أبو ظبي فسرّبت خبر خلية التجسس وطرد السفير، وأخرى تريد التهدئة فعالجت الأمر بعزل وزير الإعلام وإصدار بيان تكذيب أشبه باعتذار من دولة الإمارات”
ويرى الكاتب الجزائري أن الإمارات منذ وفاة الشيخ زايد آل نهيان قبل 20 عامًا وتولي نجله محمد مقاليد الأمور تبنت “سياسة خارجية (وداخلية) مفرطة في الاندفاع والبراغماتية تدوس على كل المبادئ والمُثل التي قامت عليها الدبلوماسية الجزائرية”، وأضاف “هذا الاندفاع جعل أبو ظبي تتآمر على كل من يقف في طريقها أو تعتقد أنه يحدّ من أطماعها الدبلوماسية والاقتصادية والإستراتيجية”.
وفي تفسيره لحالة التخبط الجزائري فيما يتعلق بالهجوم على الإمارات ونشر أخبار من شأنها تعكير صفو العلاقات مثلما نشرته “النهار” يونيو/حزيران الماضي، ثم حذفها وإصدار بيان نفي واعتذار، يرى رباحي أن هناك انقسامًا داخل منظومة الحكم الجزائرية “طائفة تريد فتح جبهة مواجهة مع أبو ظبي فسرّبت خبر خلية التجسس وطرد السفير، وأخرى تريد التهدئة فعالجت الأمر بعزل وزير الإعلام وإصدار بيان تكذيب أشبه باعتذار من دولة الإمارات”.
جهود لاحتواء التوتر وإبقائه تحت الرماد
رغم الخلافات المتصاعدة بين البلدين، هناك قضايا مشتركة تجمعهما في مقدمتها إعادة نظام بشار الأسد للجامعة العربية، وتعويمه إقليميًا مرة أخرى، حتى إن جاء ذلك بعيدًا عن الآلية والتوقيت الذي كانت تريده الجزائر، لكن يمثل هذا الملف حجر أساس قوي في خريطة المصالح المشتركة بين البلدين.
كذلك العلاقات مع روسيا، ففي الوقت الذي كانت تتهم فيه أبو ظبي بأنها تابعة وبشكل كامل للمعسكر الغربي، تبنت في السنوات الأخيرة مقاربة مختلفة مع المعسكر الشرقي، مستفيدة من التطورات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، ودفعتها إلى تعزيز التقارب مع موسكو، حيث فتحت أبوابها لرجال الأعمال الروسيين وللأموال الروسية في الوقت الذي فرض الغرب عقوبات قاسية بحقهم، وهو ما يتناغم مع الموقف الجزائري القريب بشكل كبير من الأيديولوجية الروسية.
بقصد أو دون قصد، تواصل الإمارات هرولتها نحو انفراط عقد حلفائها جراء سياساتها التوسعية البرغماتية التي لا تراعي أي اعتبارات لأشقائها من البلدان العربية، ما ساهم في تعكير الأجواء مع جيرانها الخليجيين (السعودية وقطر تحديدًا) ثم الإقليميين (مصر والجزائر)
ويمثل الثقل الجزائري الإقليمي والنفوذ الاقتصادي الإماراتي والمصالح المشتركة بينهما الدافع الأبرز للحفاظ على هدوء العلاقات بينهما وعدم خروجها عن إطارها السياسي، حتى إن تعاظمت الخلافات وتسممت الأجواء بينهما، وهو ما دفع كلا البلدين لبذل جهود دبلوماسية لاحتواء الموقف قدر الإمكان.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بعث الجمعة 18 أغسطس/آب 2023 برسالة إلى نظيره الإماراتي محمد بن زايد، في أول تواصل رسمي معلن بين البلدين منذ نهاية يونيو/حزيران الماضي، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الإماراتية التي قالت في بيان مقتضب إن الرسالة تعلقت بالعلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، وسبل تعزيزها.
#رئيس_الدولة يتلقى رسالة خطية من الرئيس الجزائري تسلمها منصور بن زايد#وام https://t.co/Pxkl6r0jEI pic.twitter.com/i0FDzPemx4
— وكالة أنباء الإمارات (@wamnews) August 17, 2023
الرسالة تسلمها نائب رئيس الدولة الإماراتية، ونائب رئيس مجلس الوزراء، منصور بن زايد آل نهيان، خلال استقبال سفير الجزائر لدى الإمارات عمر فريتح له أمس، حيث بحثا سبل تطوير العلاقات المشتركة واستعرضا عددًا من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
بقصد أو دون قصد، تواصل الإمارات هرولتها نحو انفراط عقد حلفائها جراء سياساتها التوسعية البرغماتية التي لا تراعي أي اعتبارات لأشقائها من البلدان العربية، وهو ما ساهم في تعكير الأجواء مع جيرانها الخليجيين (السعودية وقطر تحديدًا) ثم الإقليميين (مصر والجزائر)، ورغم ذلك تحاول بين الحين والآخر ترميم تلك العلاقات المشوهة مع بعض البلدن، هربًا من سيناريو العزلة الذي تخشاه، وهي المحاولات التي في الغالب تأتي بنتيجة عكسية، إذ لا يتوقع أن تقود نفس السياسات إلى نتائج مغايرة.