بعيدًا عن السياقات الكثيرة والمتنوعة التي تدور رحاها عن الربيع العربي، وبعيدًا عن الصراعات الدولية التي تتجاذب تارة، وتتنافر تارة أخرى بشأن سوريا، وبعيدًا عن سقوط الإنسانية في دركات العار والانحطاط والخزي في مستنقع صغير كحلب – لا تتجاوز مساحته مئة وتسعين كليومترًا مربعًا – من هذا العالم الفسيح.
وبعيدًا عن جدلية الحاصل في سوريا من كونه ثورة شعب أم إرهاب أفراد أو جماعات ضد نظام الحكم، رغم أننا نؤمن تمامًا أنها ثورة وأن الأسد ونظامه ومن شارك معه أو حالفه في قتل هذه الثورة، مجرم وأحمق ومسؤول مسؤولية كاملة عن كل المجاز والقتل والخراب والدمار الذي عم سوريا من أقصاها إلى أقصاها.
وبعيدًا عن جل المشاهد التي سبقت مشهد الباصات الخضراء رغم عظمتها وغرابتها في آن واحد، إلا أن مشهد الحافلات الخضراء رغم صغره وضآلته يحوي بين طياته الكثير والكثير، فهو عظيم في أثره، مؤلم في وقعه، ولن يمحى من ذاكرة التاريخ أو ذاكرة الإنسانية.
ولتسمح لي قارئي العزيز أن تخلع عن كاهلك عباءتك الجنسية أو العقائدية أو المذهبية أو الحزبية أو الوطنية أو القومية أو غيرها من المسميات، والتي تجعلك تقف في جانب ضد آخر، أو تدعم فريق ولا تناصر الآخر، فقط الحين ارتد ثوب الإنسان، نعم الإنسان المجرد من كل أهواء العصر ومفرداته.
نحن اليوم بالقرن الواحد والعشرين وقد بلغت الإنسانية مبلغًا من التقدم والرقي – في كل مناحي الحياة – يفوق مرات ومرات ما كانت عليه من قبل، ولعل أشد الناس تشاؤمًا ما جال بخاطره أن يأتي هذا اليوم وتتكرر مآسي وآلام أزمنة مضت كنا ننظر إليها بعين التعجب والاستغراب.
نحن أمام عشرات الحافلات أو الباصات بل المئات ويزيد، تقف على مشارف كل مدينة لتحمل من حالفهم الحظ وما زال نبض الإنسانية يجري في عروقهم من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ لتقلهم من المعلوم – غير مأمون المخاطر – إلى المجهول – غير مأمون المخاطر أيضًا – وربما يحمل هذا الباص أو ذلك صنوان من البشر أحدهم مؤيد والآخر معارض، لكن القدر المتيقن أن الّهم واحد، والحزن واحد، والوجع واحد، والفراق واحد، وأنهم الآن قد غادروا المدينة وتركوا أحلامهم تعانق موتاهم، وهم الآن ذاهبون إلى اللامعلوم، ذاهبون إلى مصير لا يعرفوه ولم يختاروه ولم يشاركوا في رسم معالمه.
عشرات السوريين بل المئات بل الألوف بل عشرات الألوف قد هموا بركوب الحافلات الخضراء وتختلج كل واحد منهم كم هائل من القصص الممزوجة براحة الدم والرصاص، فمنهم من ترك وليده تحت ركام المنزل لا يستطيع أن يرفع عن جسمه النحيل حجراته، ومنهم من رأى طفلته وهي تصرخ من الجوع ولا يستطيع أن يوفر لها لقيمات، ومنهم من حار ليجد الدواء لأبيه عله يستطيع أن يخفف ما ألّم به من وجع، ومنهم من لم يستطع أن يهيل التراب على عزيز أو عن إيجاد بعض أشلائه المتناثرة خوفًا من رصاصات الغدر التي تحاصره، ومنهم من ينتظر مولوده الأول وتأتي صواريخ النظام فتردي الأم والطفل معًا، ومنهم من كان على مشارف إنهاء حياته الدراسية لينال شرف خدمة وطنه والرقي به، لكن الحرب تعصف بأحلامه وآماله، ومنهم من كان على مشارف العرس فيزف إلى القبور من غير حول له ولا قوة.
عشرات الآمال والأحلام والأمنيات بل ألوف بل عشرات الألوف ماتت في حرب مجنونة لا منطقية، وعلى أبواب حافلات نقل العار الإنساني سقطت ما تبقى منها، كل هذا الوجع الإنساني الذي أصاب هذه المدينة لم يكن سببه ألة الحرب التي تديرها روسيا وإيران والأسد ونظامه وحاشيته بل العالم أجمع، فالإنسانية كلها شاركت في هذه الجريمة النكراء، وسيظل التاريخ شاهدًا علي سقوط الإنسانية في دركات العار والانحطاط والخزي في مستنقع صغير كحلب.
هذا الاقتلاع أو التهجير أو الإبعاد أو النفي أو الترك أو الخروج أو البعث أو الوحي أو التحرر أو النقل أو التفريغ سمه ما شئت، فأنا وأنت نستطيع أن نسميه ما يحلو لنا، لكن القاطنين في باصات العار لا يستطيعون تسميته، لأنهم لا يستطيعون فعل شيء أي شيء، حتى ذكرياتهم صارت تزاحم الأحلام والأموات قبور حلب.