يتألف البناء الاستيطاني في أراضي الضفة الغربية من ثلاث مراحل أساسية هي: التخطيط، وإيداع المخططات والمصادقة عليها، ثم الترويج لها، وسجلت الأشهر الست الأولى من عام 2023 رقمًا قياسيًا في عدد الوحدات الاستيطانية المعتمدة من حكومة الاحتلال، بواقع 12.855 وحدة سكنية استيطانية في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1967.
البناء الاستيطاني وإقرار الوحدات الاستيطانية ودعمها ماليًا يجري مباشرة من وزارة الإسكان لدى الاحتلال، التي لا تفتأ أن تعلن مرارًا، وبشكلٍ علني، عن المصادقة على بناء وحدات جديدة في المستوطنات غير الشرعية، كما توفر كل إمكاناتها لتمهيد الطريق للبؤر الاستيطانية كي تتحول من نواة صغيرة لا تتعدى “كرفانات” وخيمة للمستوطنين، إلى مستوطنات قائمة بآلاف الوحدات الاستيطانية المقامة على أراضي الفلسطينيين.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يسلط “نون بوست” الضوء بشكلٍ علني على وزارة البناء والإسكان، واللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان وهما جهتان رسميتان لدى الاحتلال، يروّجون للاستيطان بشكل علني، دون خوف من إنكار العالم للمستوطنات في الضفة الغربية، ويكثفون جهودهم لمحو القرية الفلسطينية وبناء مستوطنة إسرائيلية على أنقاضها.
وزارة البناء والإسكان
تعتبر وزارة البناء والإسكان المعلن الأول عن بناء المستوطنات والوحدات الاستيطانية في المستوطنات، والوحدة الاستيطانية هي البيت أو الشقة التي سيسكنها المستوطن، وتزعم الوزارة الإسرائيلية أن “ملكية الأراضي تعود للدولة والصندوق القومي لإسرائيل، بالإضافة إلى ملكية لأفراد”، وتقول في بعض مخططاتها الاستيطانية إنها “ستجري إعادة توزيع الملكية في المنطقة قبل إصدار التراخيص، دون موافقة أصحاب الأراضي”.
في عام 1991، شكلت وزارة الإسكان لدى الاحتلال برئاسة أريئيل شارون، وحدة “إدارة بناء” في الضفة الغربية بهدف مضاعفة الاستيطان في المناطق المحتلة، وتكون مهمتها تخطيط البناء من المجالس الإقليمية وإعداد الخرائط الهيكلية للمستوطنات التي في حدود البلدية.
تقديم التسهيلات
تعرف معظم المستوطنات في الضفة الغربية كمناطق “أفضلية قومية” أو (مناطق تطوير “أ” أو “ب”)، ويعني التعريف إيلاء الاحتلال الاهتمام الأكبر بهذه المناطق لتطويرها، وتضم المستوطنين الذين يعملون في المستوطنات أو استثمروا بها أو يسكنون فيها، وهؤلاء يتمتعون بمكافآت مالية كبيرة.
تمنح ست وزارات هذه المكافآت للمستوطنين، وهم: وزارة الإسكان التي تمنح قروضًا كبيرة لمشتريي الشقق، وجزء من القروض يتحول إلى منحة، ومديرية إدارة أراضي الدولة وتقدم تخفيضًا كبيرًا بإيجار الأراضي، ووزارة التربية التي تعطي محفزات للمعلمين وإعفاءً من دفع قسط التعليم في رياض الأطفال وسفريات مجانية للمدارس، ووزارة الصناعة والتجارة وتصرف منحًا للمستثمرين وتوفر بنى تحتية للمناطق الصناعية، ووزارة العمل والرفاه وتمنح محفزات للباحثين الاجتماعيين، ووزارة المالية التي تعرض تخفيضات في ضريبة الدخل للأفراد والشركات.
في عام 2010، كشف تقرير إسرائيلي أن وزارة الإسكان فعلت خطة لمنح قروض بناء للجمعيات التعاونية الفاعلة في مناطق الضفة الغربية المحتلة، أي المستوطنات، دون أن يعلم بها أحد، وأن الوزارة مولت من ميزانيتها أعمال بناء وتطوير غير قانونية في الضفة الغربية.
بحسب التقرير أيضًا، تعاقدت وزارة الإسكان الإسرائيلية مع المجالس الإقليمية للمستوطنات بين عامي 2000 و2003، للبناء في 33 موقعًا بالضفة الغربية رغم منع هذا التعاقد بسبب عدم مصادقة حكومة الاحتلال عليه، واتضح أن وزارة البناء والإسكان تكفلت بمعظم ميزانية التطوير في هذه المستوطنات على حساب الداخل المحتل عام 1948.
في عام 2015، أظهر تقرير آخر أن ما يقارب ثلث ميزانية وزارة الإسكان بنسبة 28% تصرف على عمليات الاستيطان في الضفة المحتلة، وأن هذه الميزانية التي تتلقاها الوزارة من الحكومة للبناء في ريف الداخل المحتل، قذ ذهبت لبناء المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية.
بغرض حث المستوطنين للانتقال والسكن في مستوطنات الضفة الغربية، يتلقى المستوطنون قروضًا عقارية كبيرة من وزارة الإسكان، أكبر بمرتين أو ثلاث مرات من القروض العادية التي يتلقاها المستوطنون في الداخل المحتل، كما أن شروط إعادة دفع القروض، تفضيلية على نحو كبير لدى مقابلتها بالشروط الممنوحة للمستوطنين في الداخل المحتل.
ولا يُطلب من المتعهدين الذين يبنون الوحدات السكنية في المستوطنات، المشاركة في تكلفة التطوير، وهي تكلفة المساهمة في الخدمات العامة كالحدائق والشوارع والأرصفة والمياه، وتعني هذه الميزة المقدمة للمتعهدين، إعفائهم بأكثر من 5000 – 10.000 دولار لكل شقة (حسب أسعار البناء عام 1991).
اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان
ضمن مفاوضات تشكيل حكومة الائتلاف الإسرائيلية الحاليّة، اتفق رئيس وزراء الاحتلال الحاليّ بنيامين نتنياهو مع وزير المالية بتسالئيل سموتريش على أن يكون نتنياهو رئيسًا للجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، فيما يشغل سموتريش القائم بأعماله، وذلك في سبيل إرضاء سموتريش، وهو أحد أركان دعاة الاستيطان في الحكومة الحاليّة.
في حقيقة الأمر، يعاد تشكيل اللجنة الوزارية بشكل متجدد لتحصيل المكاسب السياسية لقادة الاحتلال أمام جبهتهم الداخلية، ففي عام 1977، تنافست الأحزاب والقيادات الإسرائيلية فيما بينها على ابتكار المقترحات والمشاريع لتثبيت الاستيطان في الضفة على وجه الخصوص، وتبلور مشروع “غاليلي”، الذي وضعته اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، برئاسة الوزير يسرائيل غاليلي عام 1977، بقصد إقامة 186 مستوطنة في فلسطين، 49 مستوطنة منها تقع داخل الضفة.
وينسب للجنة الوزارية مقترحات استيطانية كبيرة، منها تمكين سكان الغور الذين يحملون السلاح، من زراعة الأراضي في المنطقة، وتطوير منطقة شلومو (شرم الشيخ) وتحويلها إلى مجمع استيطاني كبير للاصطياف والزراعة والصناعة.
وكانت اللجنة من المكاسب السياسية لبنيامين نتنياهو أمام جمهور المتطرفين، حين أعلن عن إعادة تشكيل اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان كإحدى الخطوات قبل التصويت على قانون “تبيض المستوطنات“، الذي ينص على أنه يحق لسلطات الاحتلال مصادرة حق استخدام أرض فلسطينية خاصة من أصحابها وليس الملكية عليها، ما يعني مصادرة أراضٍ فلسطينية خاصة لغرض الاستيطان.
تمثل وزارة البناء والإسكان واللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان صورة واضحة لـ”إسرائيل”، لا سيما في عهد حكومة الاستيطان الحاليّة، لا تخشى أن تعبّر صراحة أن أعمالها لا تقتصر على داخل الخط الأخضر المحتل عام 1948، بل حتى في المستوطنات المقامة بالضفة الغربية التي لم يعترف العالم بشرعيتها، وتسخر كل إمكاناتها المادية ومخططاتها لتكون وكيلًا علنيًا للاستيطان.