لا يزال الغموض سيد الموقف فيما يتعلق بالتحركات الأمريكية الكبيرة في سوريا والعراق، ففي الوقت الذي انتشرت فيه قوات أمريكية بالجانب السوري من الحدود العراقية السورية وتحديدًا عند قاعدة التنف مع تعزيز بقية القوات الأمريكية في شرقي سوريا، باتت التحركات الأمريكية في العراق تثير العديد من علامات الاستفهام عن أهدافها.
لم تعلن الحكومة العراقية أي موقف بشأن هذا الانتشار الأمريكي الجديد، فيما نفى المتحدث باسم قيادة القوات المشتركة العراقية اللواء تحسين الخفاجي جميع الأنباء التي تتحدث عن دخول قوات أمريكية جديدة إلى العراق، مؤكدًا أن هذه الأنباء غير صحيحة، مضيفًا أن بلاده ليست بحاجة لأي قوة قتالية أجنبية، وأن القوات التي توجد في القواعد العراقية عبارة عن مدربين ومستشارين موجودين بعلم وموافقة الحكومة العراقية.
تضارب بالمعلومات
منذ أيام، تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي في العراق عشرات من مقاطع فيديو صورها عراقيون وتظهر تحركات الأرتال العسكرية لآليات تحمل مختلف المعدات العسكرية الأمريكية بما فيها الدبابات وعربات الهامفي والناقلات المدرعة، وأفاد ناشطون أن هذه الأرتال شوهدت في مركز العاصمة العراقية بغداد وفي محافظات الأنبار ونينوى وأربيل وكركوك وصلاح الدين وغيرها.
تعليقًا على ذلك، أعلن التحالف الدولي للقضاء على تنظيم داعش، الخميس الماضي، استبدال إحدى فرقه العسكرية بقوة أخرى في العراق، ضمن إجراءات إعادة الانتشار واستبدال القوات العاملة في البلاد.
— Operation Inherent Resolve (@CJTFOIR) August 17, 2023
أفاد بيان للتحالف الدولي ما نصه “حلَّ أفراد الخدمة في التحالف من الفرقة الجبلية العاشرة محلّ أفراد الخدمة من الحرس الوطني لولاية أوهايو، وذلك كجزء من عملية الإحلال والمناوبة المخطط لها للقوات لدعم قوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب”.
كما أشار البيان إلى أنه “ومن أجل إعادة انتشار الوحدة التي تنتهي المدة المقررة لانتشارها، يجب أن يكون أفراد الخدمة في الوحدة المقرر لها أن تحل محلها على أهبة الاستعداد والجاهزية لتولي المسؤولية، ويشمل ذلك المعدات العائدة للوحدة، وأن هذه العملية تسمى عملية إحلال ومناوبة وانتقال المسؤولية”.
لم يتطرق بيان التحالف الدولي لأسباب التحركات الكبيرة التي شوهدت للأرتال الأمريكية في المحافظات العراقية، فالتحالف الدولي في العراق عادة ما يجري عمليات الإحلال والمناوبة بصورة دورية في كل عام
أوضح التحالف الدولي أيضًا أن مراسم الانتقال الرسمي للمسؤولية جرت في قاعدة أربيل الجوية في 15 أغسطس/آب الحاليّ، مؤكدًا أن العملية تعد روتينية ويتم إجراؤها بطريقة مدروسة ومخططة ومنسقة بعناية مع الشركات الأمنية.
لم يتطرق بيان التحالف الدولي لأسباب التحركات الكبيرة التي شوهدت للأرتال الأمريكية في المحافظات العراقية، فالتحالف الدولي في العراق عادة ما يجري عمليات الإحلال والمناوبة بصورة دورية في كل عام، بيد أن السنوات السابقة التي أعقبت الانتصار على داعش لم تشهد فيها المحافظات العراقية تحركات أمريكية كالتي شوهدت في الأيام الماضية.
وكان وفد عسكري عراقي رفيع المستوى قد زار العاصمة الأمريكية واشنطن الأسبوع الماضي، ورأس الوفد وزير الدفاع ثابت العباسي، رفقة قائد جهاز مكافحة الإرهاب عبد الوهاب الساعدي والعديد من القادة الأمنيين، ولم تتطرق بيانات الحكومة العراقية لما جرى خلال الحوار الثنائي مع واشنطن، واكتفت الحكومة العراقية بالإعلان عن اتفاق الوفد العراقي مع الجانب الأمريكي على تشكيل لجنة عليا مشتركة مع التحالف الدولي للبدء بتنفيذ مخرجات الحوار المشترك الذي جرى بين الطرفين.
الجيش الأمريكي وصل العاصمة بغداد pic.twitter.com/eb2wFp3YdN
— 🇮🇶 Von Justav (@Von3Juv3VJSH31) August 17, 2023
من جانبه، يرى الخبير الأمني العراقي رياض الزبيدي أن ما يجري في العراق يثير الكثير من علامات الاستفهام، مبينًا أنه يمكن الجزم بأن التحركات الأخيرة في العراق ترتبط بصورة مباشرة بما يجري التحضير له أمريكيًا في سوريا، لا سيما مع تصاعد حدة التوتر بين الجيش الأمريكي من جهة والفصائل المسلحة الموالية للنظام السوري من جهة أخرى، فضلًا عن المناوشات الجوية الأمريكية الروسية في سماء سوريا وارتباط ذلك بمجمل الوضع السوري الذي يؤثر في العراق بصورة مباشرة، على اعتبار أن العديد من الفصائل المقاتلة في سوريا عراقية الأصل وتعمل بدعم إيراني مباشر، وفق قوله.
وفيما يتعلق بعلاقة ما يجري في سوريا بالعراق، أوضح الزبيدي أن المناوشات بين القوات الأمريكية من جهة والفصائل المسلحة المدعومة إيرانيًا من جهة أخرى تعد الأخطر منذ عام 2019، لا سيما بعد القصف الذي تعرض له حقل العمر النفطي وقاعدة التنف على المثلث السوري العراقي الأردني، مشيرًا إلى أن تزايد زخم وجود الفصائل المسلحة في سوريا واستمرار استقدام الدعم اللوجستي والتسليح من الأراضي العراقية مع زيادة استخدام هذه الفصائل للطائرات المسيرة جعل الولايات المتحدة تتحرك تجاه نشر مزيد من قواتها مع أنظمة دفاع جوي وأنظمة صواريخ متقدمة مثل “هايمارس”، بما قد يفهم على أن تحركًا عسكريًا أمريكيًا قريبًا ستشهده المنطقة الشرقية من سوريا.
أما عن العراق، فيؤكد الزبيدي أن لا معلومات مؤكدة عما يجري، إلا أن هذه التحركات تشي بشكل مؤكد أن هناك ما هو مخفي، وأن القوات التي شوهدت في المحافظات العراقية لا علاقة لها بعملية الإحلال والمناوبة، لافتًا إلى أن محافظات كركوك ونينوى بعيدة عن أهداف عمليات المناوبة، فضلًا عن التحرك العسكري الذي شوهد في العاصمة بغداد، مبينًا أن قوات التحالف الدولي موجودة بشكل رئيسي في قاعدتي حرير بأربيل وعين الأسد بالأنبار، وقوات محدودة في قاعدة فيكتوريا داخل مطار بغداد الدولي.
تحذيرات من القادم
كشف قائد عملية “العزم الصلب” في قيادة قوة المهام المشتركة في العراق وسوريا، الجنرال ماثيو ماكفارلين، الخميس الماضي، عن مراقبة التحالف لما وصفها بـ”تهديدات” تقودها جماعات في العراق على منصّات التواصل الاجتماعي، وتفيد بإمكانية استهداف قواعد البعثة العسكرية الدولية.
وأكد الجنرال الأمريكي في إيجاز خاص من بغداد، ردًا على أسئلة مجموعة من الصحفيين عبر الإنترنت “الاستعداد الأمريكي للرد” على هذه الجماعات، مبينًا في الوقت ذاته أن أيديولوجية تنظيم داعش لا تزال تشكل خطرًا، وأنه يطمح لاستعادة قدراته العسكرية.
ماكو شي بس القوات الامريكيه دخلت برتل الى مدينة الاعظميه في بغداد!!
ورتل آخر في بغداد التاجي
ورتل آخر دخل محافظة البصره!!
قلت لكم الجيش الامريكي بقى شويه ويدخلون لبيوتنا واليوم دخلوا مدينتي الأعظميه
ويجيك واحد راسه مضلع نايم بالبيت يصيح كلشي ماكو، راح يدخلون ويگعدوك من نومتك😉 pic.twitter.com/PgdNhRpZNs— Lina Alassil2 (@linaassil_assil) August 18, 2023
في السياق، يرى الخبير الأمني العراقي سرمد البياتي أن الهدف المعلن من التحركات الأمريكية الأخيرة حماية مصالح واشنطن فقط، بيد أنه من غير الممكن الجزم وتحديد مكان التحرك الأمريكي المقبل، مضيفًا لإحدى وسائل الإعلام المحلية “من المرجح أن يكون العمل في سوريا، لأن الولايات المتحدة لن تقدم على أي عمل دون تنسيق مع الحكومة العراقية كون العراق لاعبًا مهمًا في المنطقة، ومع هذا تبقى الإشاعات كثيرة والأهداف غير واضحة حتى الآن”.
أما الخبير الأمني والإستراتيجي أحمد الشريفي فيرى من جانبه أن واشنطن قررت عزل خطوط التماس البرية بين العراق وإيران من جهة وسوريا ولبنان من جهة أخرى، وهو ما يطلق عليه “العزل الجغرافي” الذي سيبدأ بمحاور حدودية أهمها منطقتي القائم وألبوكمال، وفق الشريفي.
وتابع أن إعادة الانتشار والتموضع الأمريكي لا يقتصر على العراق، إذ يحدث في عموم الشرق الأوسط، بما قد يدل على وجود ما وصفه بـ”استحضارات لمعركة”، مبينًا أن ذلك لا يعني اندلاع حرب بقدر ما يتعلق بما يمكن وصفه بـ”العمليات الخاصة” التي تهدف إلى وقف الدعم اللوجستي البري للفصائل الموجودة في سوريا، وفق تعبيره.
وعن توقعاته فيما يمكن أن يحدث في العراق حال حدث ما يتوقعه، بين الشريفي أنه وفيما إذا تحركت الفصائل المسلحة بالعراق متأثرة بما قد يحدث على الأراضي السورية، يمكن رؤية رد فعل أمريكي على الفصائل، وذلك من خلال استهداف تجمعاتها ومراكز القيادة والسيطرة لديها.
وفيما يتعلق بالحديث عن إمكانية إقدام الولايات المتحدة على تغيير نظام الحكم بالعراق، يرى رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري أنه يمكن ملاحظة أن التركيز والتحرك الأمريكي على الجغرافيا السورية أكثر مما هو عليه في الجغرافيا العراقية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول تحييد الفصائل المسلحة الموجودة على الأرض السورية، مع إمكانية أن تشمل التحركات العسكرية الأراضي العراقية.
ويعتقد الشمري أن واشنطن ليس لديها نوايا العودة للعراق بقوات عسكرية بهدف تغيير النظام، مبينًا أن الحديث عن ذلك يعد غير واقعي، لافتًا إلى أن التحركات الأمريكية الأخيرة تبدو أنها رسائل للأطراف الداخلية العراقية، وأن هناك طرفين اثنين يروجان لفكرة تغيير النظام: الأول يتمثل بالسياسيين الذين يرون أن وجودًا أمريكيًا مسلحًا يدعم فكرتهم ودعواتهم في ضرورة إخراج القوات الأمريكية واستخدام هذا الشعار كجزء من الدعاية الانتخابية المبكرة.
رتل الجيش الامريكي في بيجي بمحافظة صلاح الدين pic.twitter.com/kCNqa13tRX
— 🇮🇶 Von Justav (@Von3Juv3VJSH31) August 17, 2023
أما الطرف الثاني فيتمثل بالجهات الراغبة بتغيير الأوضاع في العراق، فهناك أطراف تعتقد أنه لا إمكانية للتغيير إلا من خلال فعل خارجي تقوده الولايات المتحدة، وهذا الطرف وجد في التحركات الأمريكية ما يدعم هذا التوجه والطرح، مشيرًا إلى أن المنطقة قد تكون أمام حدث أمني، خاصة في ظل تصاعد عمليات التحشيد والتجهيز، وهو ما قد يكون جزءًا من إستراتيجية حافة الهاوية التي تتبعها القوى الكبرى والإقليمية بالمنطقة.
ومع كل هذه التحليلات والأحداث، لا يمكن إغفال ما يجري في العراق من انتشار أمريكي وربطه مع ما يحدث في كواليس السياسة والاقتصاد، إذ ورغم مرور قرابة 11 شهرًا على تولي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني منصبه، فإن واشنطن لم توجه دعوة رسمية للسوداني لزيارة البيت الأبيض، وهو ما بات عرفًا سياسيًا في العراق بعد عام 2003، إذ تم توجيه دعوات مشابهة لجميع رؤساء الوزراء السابقين باستثناء عادل عبد المهدي والسوداني الذي لم يتلق دعوة حتى الآن، وهو ما قد يكون رسالة لعدم الرضا الأمريكي عن سياسات السوداني الذي لم يفلح حتى الآن في تحقيق ما وعد به من متطلبات أمريكية عديدة.
أولى المتطلبات التي يرى المحللون أن السوداني لم يفلح بها تتمثل في الحد من أنشطة الجماعات المسلحة خارج إطار الدولة، فضلًا عن عدم نجاعة جميع الإجراءات الحكومية الاقتصادية في الحد من تهريب الدولار الأمريكي واستخدام مزاد بيع العملة لتمويل دول تفرض واشنطن عقوبات اقتصادية عليها مثل إيران وسوريا ولبنان وروسيا، إضافة لمتطلبات أخرى عديدة.
وما بين الانتشار الأمريكي في العراق وسوريا ونفي المسؤولين الأمريكيين والعراقيين أي احتمالية لعمل عسكري، تبقى الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، لا سيما أن وزارة الدفاع العراقية نشرت قبل أيام دفاعات جوية على عدد من المؤسسات الحكومية في العاصمة العراقية من أجل تأمين مطار بغداد الدولي، ثم ما لبثت الوزارة أن سحبت هذه المضادات بعد موجة جدل شعبي وسياسي كبير، بما يضع مزيدًا من علامات الاستفهام على ما يمكن أن يحدث في الأسابيع القادمة.