لطالما ظلت العلاقات الإنسانية ومنذ الأزل رهينة صراعات وحروب متعددة اكتست في عمومها أبعادًا دموية، وتمحورت في الغالب حول المعطى الثقافي أو الأيديولوجي كفرض نمط ديني معين على الآخر أو المعطى الاقتصادي كالسعي إلى توسيع مجال النفوذ أو السيطرة على الموارد الطبيعية والأراضي وتوسيع الكيانات السياسية وغيرها.
ولم تسلم أي رقعة جغرافية على كوكب الأرض من هذه الصراعات إلى الدرجة التي يمكن أن تصح معها “نظرية الصراع” (Conflict Theory) باعتبارها كحالة حراك وتطور دائم ومتلازم للكيانات المجتمعية بغرض تحصيل أكبر قدر ممكن من المكاسب على حساب الآخر الأضعف.
شكلت منطقة الشرق الأوسط باعتبارها نقطة التلاقي بين الشرق والغرب ومهد للأديان السماوية الثلاث أو باعتبارها كذلك نقطة ارتكاز ونشأة حضارات إنسانية ضاربة في القدم، مجالاً خصبًا لهذه الصراعات حيث ظلت المنطقة في قلب معظم الحروب والنزاعات الكبرى
وقد شكلت منطقة الشرق الأوسط باعتبارها نقطة التلاقي بين الشرق والغرب ومهد للأديان السماوية الثلاث أو باعتبارها كذلك نقطة ارتكاز ونشأة حضارات إنسانية ضاربة في القدم كحضارة ما بين النهرين والحضارة الأشورية والسومرية والبابلية وغيرها، وبالنظر إلى كونها مجالاً خصبًا لهذه الصراعات، حيث ظلت المنطقة في قلب معظم الحروب والنزاعات الكبرى التي شهدتها الإنسانية ونُظِر إلى السيطرة عليها كمؤشر على مدى قوة إمبراطوريات وازدهارها أو مدى تدهور أخرى كالإمبراطورية الرومانية أو الفارسية والعثمانية.
أما في العصر الحديث فلا زال يُنظَر إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط أو ما تزخر به من ثروات طاقية كعامل من عوامل القوة، وبالتالي تُجَيّشُ الجيوش والأساطيل العسكرية تحت مسميات ويافطات متعددة كالقضاء على أسلحة الدمار الشامل أو الحرب على الإرهاب أو الدفاع عن هذا المكون العرقي والديني أو ذاك أو الدفاع عن الديمقراطية، لكن يبقى الجانب المضمر من القضية هو السعي إلى توسيع مجال النفوذ الاستراتيجي والجيوسياسي للقوى الدولية أو الإقليمية الصاعدة.
وبما أن الحروب العسكرية المباشرة أضحت باهظة الكلفة ونتائجها العسكرية غير مضمونة التحصيل أو غالبًا ما تكون تلك التدخلات بمثابة مستنقع للقوى الغازية في مقابل مواجهة جيوش غير نظامية وتنظيمات تتبنى أسلوب حرب العصابات كما هو الشأن بالنسبة لحرب الفيتنام أو أفغانستان أو العراق، فإن الحرب بالوكالة وتغذية النزعات العرقية والإثنية عبر دعم هذا الفصيل أو ذاك أصبح هو السمة السائدة في الحروب الحالية ومنها حروب الشرق الأوسط المعاصرة كما هو حال الصراع السوري أو العراقي أو اليمني، بل إن الأمر قد يتعدى ذلك إلى كونه يحقق استدراج الخصوم والقوى المنافسة المندفعة بغية استنزافها عسكريًا واقتصاديًا وحتى أخلاقيًا والتحكم عن بعد وبأقل تكلفة في مجريات الصراع ومن ثم استثمار نتائجه كورقة للمساومة في ملفات أخرى عبر العالم كما هو حال علاقة حلف شمال الأطلسي بروسيا.
مأساة هيروشيما وناكازاكي غير المسبوقتين في التاريخ من حيث النتائج الكارثية وحجم الخسائر الهائلة، إلا أن ذلك قد أعطى مؤشرًا واضحًا على مدى خطورة أي مواجهة عسكرية شاملة مقبلة بين القوى الكبرى بسبب التطور الهائل الذي شهدته الترسانة العسكرية للدول العظمى
لا شك أن هذا الجيل الجديد من الحروب والذي أتى كبديل عن الحرب العسكرية المباشرة بعدما عانته الإنسانية من ويلات نتيجة الحربين العالميتين ومأساة هيروشيما وناكازاكي غير المسبوقتين في التاريخ من حيث النتائج الكارثية وحجم الخسائر الهائلة، إلا أن ذلك قد أعطى مؤشرًا واضحًا على مدى خطورة أي مواجهة عسكرية شاملة مقبلة بين القوى الكبرى بسبب التطور الهائل الذي شهدته الترسانة العسكرية للدول العظمى وانتشار أسلحة الدمار الشامل والرؤوس النووية والصواريخ البالستية ومخاطر ذلك على السلم العالمي وبالتالي مستقبل البشرية قاطبة.
هذه العوامل التي ذاقت مرارتها دول أوروبا مبكرًا، وفي أوج احتدام الحرب العالمية الثانية بين دول المحور والحلفاء هي التي دفعت على ما يبدو زعيما الولايات المتحدة روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى إصدار “ميثاق الأطلسي” في 14 من أغسطس/ غشت 1941 الذي تضمن في طياته مبادئ مشتركة محددة في السياسات الوطنية لبلديهما التي يبنيان عليهم آمالهما في “مستقبل أفضل للعالم”، فعلى الرغم من طابعها غير الرسمي وعدم إلزامية توصياتها إلا أنه يستشف من روح مبادئها الرغبة في تحقيق السلام وتجنب الاحتكام إلى القوة العسكرية بعد القضاء على النازية الشيء الذي حدا بدول أخرى وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي إلى الانضمام والتوقيع على مبادئ ذلك الإعلان التاريخي.
غير أن السؤال الذي سيبقى مُعلّقا هو إلى أي حد أسهمت مبادرة ميثاق الأطلسي وما تلاها من مبادرات أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية كتأسيس الأمم المتحدة وما تمخض عنها من بنيات تنظيمية وقانونية في إرساء أسس السلام العالمي؟
معظم هذه المبادرات المتعاقبة خدمت حصريًا مصالح القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ولم تسهم كثيرًا في معالجة الكثير من الأزمات الإقليمية وما تمخض عنها من كوارث إنسانية عبر العالم
واقع الحال يشير إلى أن معظم هذه المبادرات المتعاقبة خدمت حصريًا مصالح القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ولم تسهم كثيرًا في معالجة الكثير من الأزمات الإقليمية وما تمخض عنها من كوارث إنسانية عبر العالم كالتهجير القسري وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية الشيء الذي يبرز الحاجة إلى إرساء أسس ميثاق جديد يصوغه حكماء العالم ويرمي إلى اعتماد إصلاحات عميقة على هيكلية الأمم المتحدة بما يتلاءم مع التحديات التي أفرزها الجيل الجديد من الحروب والنظر إلى مخاطرها على أنها جدية وقد تخرج عن نطاق السيطرة، وربما لا تستثني أحدًا بما فيها الدول التي تعتبر نفسها بعيدة عن بؤر التوتر والصراع.