وصفها البعض بـ”الهادئة” بينما رآها آخرون “إيجابية”، إلا أنها وعلى كل حال تسير بخطوات جيدة مقارنة بما كانت عليه في السابق، هكذا باتت ملامح التقارب بين القاهرة وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” والتي فرضت نفسها على موائد التحليل والنقاش، فيما يتعلق بالعلاقات المصرية الفلسطينية بصفة عامة والغزاوية بصورة خاصة.
الشهور الست الأخيرة شهدت العديد من التحركات الملموسة على أرض الواقع من قبل الجانبين لتقريب وجهات النظر، وتفعيل سبل التعاون المشترك، وفتح صفحة جديدة في العلاقات، بعد التوتر الذي عانت منه طيلة السنوات الماضية، وهو ما ترتب عليه شبه قطيعة بين القاهرة وغزة.
العديد من التساؤلات تفرض نفسها بشأن أبعاد ودلائل هذا التقارب، فضلاً عن توقيته والذي جاء عقب زيادة الفجوة بين القيادة السياسية في القاهرة ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أبو مازن، إضافة إلى الدوافع الحقيقية – السياسية والأمنية – وما يمكن أن تؤل إليه العلاقات بين الجانبين مستقبلاً.
خصومة وفتور
مرت العلاقات المصرية الحمساوية بموجات شديدة من المد والجذر منذ ثورة 25 يناير 2011، حيث اتهمت القاهرة حركة حماس بالضلوع في اقتحام سجن وادي النطرون، وتهريب المعتقلين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق محمد مرسي، إلا أن العلاقات بين الجانبين تحسنت بصورة ملحوظة خلال فترة حكم الرئيس السابق مرسي، وهو ما تجسد في تبادل الزيارات بين الطرفين حينها، كان أبرزها زيارة رئيس وزراء مصر الأسبق الدكتور هشام قنديل لقطاع غزة خلال الحرب الإسرائيلية في نوفمبر 2012.
ثم دخلت العلاقات بين الجانبين نفقًا مظلمًا عقب الإطاحة بمرسي في انقلاب الثالث من يوليو 2013، ووصل الأمر إلى اتهام حماس علانية بالقيام ببعض الأعمال الإرهابية بالداخل، منها اتهام وزير الداخلية المصري لها بأنها تقف وراء اغتيال النائب العام هشام بركات.
مع تطورات المشهد السياسي والأمني خلال العام المنقضي 2016، بات التنسيق بين حماس والقاهرة أمرًا هامًا لمواجهة الجماعات المتطرفة في سيناء، وهو ما استغلته حركة المقاومة الفلسطينية لتحسين صورتها لدى المصريين، وتخفيف حدة التوتر مع الجارة الشقيقة
كما تم إدراج كتائب “عز الدين القسام” الجناح العسكري لحماس على لائحة التنظيمات الإرهابية، وذلك في يناير 2015، بمقتضى حكم قضائي، ورغم تبادل الزيارات بين القاهرة وغزة لتقريب وجهات النظر، إلا أنها جميعا باءت بالفشل، بل باتت حماس الهدف الأول لأصابع الاتهام مع كل حدث إرهابي في مصر.
ومع تطورات المشهد السياسي والأمني خلال العام المنقضي 2016، بات التنسيق بين حماس والقاهرة أمرًا هامًا لمواجهة الجماعات المتطرفة في سيناء، وهو ما استغلته حركة المقاومة الفلسطينية لتحسين صورتها لدى المصريين، وتخفيف حدة التوتر مع الجارة.
وفي أكتوبر الماضي كشف محمود الزهار عضو المكتب السياسي لحركة حماس، عن اعتقال الحركة لخلية إرهابية داخل قطاع غزة، كانت تخطط لتنفيذ اعتداء على الجيش المصري، مشيرًا إلى أن جماعات متشددة في غزة لها علاقة بالاحتلال الصهيوني حاولت تنفيذ هجمات ضد الجنود المصريين في رفح، وأخرى وهمية ضد إسرائيل للزج باسم حماس في أي عملية تخريبية في المنطقة، موضحًا أن الحركة اعتقلت بالفعل بعض العناصر المتشددة التي لا تنتمي لأي حركة معروفة، كانوا يخططون لتهديد أمن مصر.
الزهار في حديثه شدد على أن حماس ليست معادية لمصر وإنما لإسرائيل، ولكن هناك عناصر متشددة في غزة لها فكر معادٍ للقاهرة، يتم التعامل معها بالحوار، وإن لم يُبدُوا حسن نية سيتم التعامل معهم بالرصاص.
القاهرة تغير موقفها
وفي المقابل، كشف الجانب المصري عن خطوات مماثلة كضوء أخضر لبدء مرحلة التقارب مع حركة المقاومة، حيث سهلت السلطات المصرية عبور الفلسطينيين عبر معبر رفح بأعداد غير مسبوقة، وتم فتحه معظم أيام الأسبوع، على عكس ما كان معمولاً به في السابق، وشملت عمليات العبور سفر الطلاب والمرضى وأصحاب الإقامات خارج غزة.
وبعد أيام قليلة من فتح المعبر، أفرجت القاهرة عن 7 حجاج فلسطينيين من غزة، أوقفتهم في 24 من سبتمبر الماضي بعد عودتهم من السعودية عقب أدائهم فريضة الحج، لاتهامهم بحيازة مواد ممنوعة، وقالت تقارير إن عملية الإفراج جاءت بعد أن أجريت اتصالات بين أعضاء من حركة حماس والجانب المصري.
ثم وصلت خطوات التقارب بين الجانبين مرحلة من الإيجابية حيث نظمت مصر مؤتمرًا اقتصاديًا بمنطقة العين السخنة بمحافظة السويس، في الثلاثين من أكتوبر الماضي، استمر يومين كاملين، ثم مؤتمرًا آخر في التاسع من نوفمبر، شارك فيهما ما يقرب من مئة رجل أعمال من قطاع غزة، لبحث سبل تعزيز التعاون الاقتصادي بين القاهرة والقطاع، إضافة إلى ما تردد بشأن الحديث عن إقامة منطقة تجارة حرة في مدينة رفح، القائمة على طرفي الحدود، ما يُمكّن التجار في غزة من شراء المنتجات مباشرة من الطرف المصري من المدينة، وهذه الخطوة ستكون بمثابة رفع جزئي للحصار المفروض على القطاع.
مؤتمر العين السخنة بمشاركة رجال أعمال وسياسيين فلسطينيين ومصريين
هنية في القاهرة خلال أيام
العديد من الاتصالات المتبادلة بين القاهرة وغزة خلال الأشهر الماضية لبحث سبل التنسيق الأمني في منطقة سيناء الحدودية، فضلاً عن مساعي تقريب وجهات النظر، تمخضت عن الزيارة التي قام بها وفد فلسطيني من حركة حماس في مارس الماضي للقاء بعض القيادات بجهاز المخابرات المصرية.
الوفد الفلسطيني ضم أربعة من أعضاء المكتب السياسي هم محمود الزهار وعماد العلمي وخليل الحية ونزار عوض الله، إضافة إلى موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، وقد توصل الطرفان إلى صيغ للتفاهم المشترك بصورة أهلت لتكرار مثل هذه الزيارات مرة أخرى.
عضو المكتب السياسي لحركة حماس سامي خاطر، في تصريحات له أشار إلى وجود اتصالات رسمية بين الحركة والقيادة المصرية لإعادة ترتيب العلاقات بينهما، معربًا عن ذلك بقوله إن هناك اتصالات وترتيبات جارية بيننا وبين المسؤولين في مصر لإعادة بناء علاقات مستقرة وسليمة بيننا، وحماس كانت ولا تزال حريصة على أن تكون علاقاتها مع جيرانها في مصر مستقرة وسليمة وتضمن مصلحة الشعبين الفلسطيني والمصري، على حد تعبيره.
نائب رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، الموجود في قطر حاليًا، سيزور القاهرة رفقة القيادي موسى أبو مرزوق، في طريق عودته لغزة، عقب إجازات أعياد الميلاد، وسيعقد لقاءات مع مسؤولين مصريين
وأضاف “الاتصالات تجري بين حماس والجهات المصرية بشكل مباشر، وحريصون على بناء هذه العلاقات وتطويرها من حيث المواقف والإجراءات على الأرض لطمأنة الجانب المصري”.
وفي السياق نفسه كشف عضو المكتب السياسي لحركة حماس محمود الزهار، النقاب عن لقاءات سيعقدها قيادات في الحركة مع عدد من المسؤولين المصريين، لبحث الملفات المتعلقة بالقضية الفلسطينية وقطاع غزة، على وجه الخصوص، مشيرًا إلى أن نائب رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، الموجود في قطر حاليًا، سيزور القاهرة رفقة القيادي موسى أبو مرزوق، في طريق عودته لغزة، عقب إجازات أعياد الميلاد، وسيعقد لقاءات مع مسؤولين مصريين، مرحبًا بالتقدم في العلاقات بين الحركة ومصر، معربًا عن أمله في أن يقود هذا التحسن لتخفيف الحصار عن قطاع غزة.
أما القيادي بالحركة، وأحد المرشحين لتولي رئاسة المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، فقال في تصريحات له نشرها موقع “هافينغتون بوست عربي” أنه عقد لقاءات مع مسؤولين مصريين في القاهرة الجمعة الماضية، وأن “اللقاءات بين الجانبين لم تنقطع”، مشددًا على أن “اللقاءات شهدت نوايا وإجراءات طيبة على طريق تطوير العلاقات”، مضيفًا: “سأعود لعقد لقاءات وزيارات أوسع عقب إجازات عيد الميلاد”.
أما عن نوعية القضايا التي بحثها مع المسؤولين المصريين، قال أبو مرزوق إنه ناقش ملف معبر رفح وتطويره وفتحه بشكل متطور كمعبر للأفراد والتجارة، لربط اقتصاد غزة بمصر، وأيضًا ملف أمن الحدود.
إسماعيل هنية نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خلال لقائه الرئيس الأسبق محمد مرسي
التقارب المفاجئ.. لماذا الآن؟
تباينت آراء المراقبين بشأن التقارب السريع والمفاجئ بين حماس والقاهرة، إلا أن التطورات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، سواء على المستوى السياسي أو الأمني، كان لها دور بارز في إعادة النظر في توجهات الطرفين الخارجية، وبات من الضروري التخلي عن بعض المواقف في سبيل التنسيق المتبادل لتحقيق المصالح المشتركة.
أولاً: أبومازن – دحلان
الملاحظ للخط الزمني للتقارب بين القيادة المصرية وحماس يجد أنه جاء إثر الخلافات التي نشبت بين مصر والسعودية والأردن والإمارات من جانب والسلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس أبو مازن من جانب آخر، على خلفية رفض الأخير التجاوب مع الضغوط الرباعية للتصالح مع خصمه اللدود، القيادي الفتحاوي الهارب محمد دحلان، والمقرب من دبي والرياض، وتهيئته لخلافته، الأمر الذي دفع الدول العربية الداعمة لدحلان إلى ممارسة ضغوطها بأي طريقة على السلطة الفلسطينية، حيث اتجهت السعودية إلى إيقاف دعمها للسلطات الفلسطينية ماليًا، ودفع مصر إلى إغلاق جبهتها المشتعلة مع حركة حماس ولو مؤقتًا حتى حل أزمة السلطة في فلسطين وتنصيب دحلان.
عدد من الخبراء والمراقبين يرون أن التقارب بين القاهرة وغزة جاء نكاية في الرئيس الفلسطيني، كورقة ضغط لقبول الأمر الواقع، والسماح للقيادي الهارب بالعودة، وممارسة نشاطه السياسي داخل حركة فتح من جديد، وهو ما رفضه أبو مازن بصورة قاطعة، مما تسبب في شرخ قوي في العلاقات بينه وبين القاهرة والعواصم الأخرى.
الرئيس الفلسطيني أبو مازن والقيادي الفتحاوي الهارب محمد دحلان
ثانيًا: مكافحة الإرهاب
بينما يرى فريق آخر أن التقارب بين الجانبين جاء على خلفية إيمان القاهرة بأن القضاء على التنظيمات الإرهابية في سيناء وعلى الحدود الفلسطينية لا يمكن أن يتم بصورة كاملة إلا بمساعدة حماس، خاصة وأنها قدمت العديد من المبادرات الأمنية التي قللت من حجم العمليات الإرهابية في المنطقة، وهو ما تجسد في توقيف واعتقال العديد من العناصر المتطرفة (من أنصار داعش والسلفيين وحركة صابرين)، وهو ما استقبلته القاهرة بصدر رحب، مما دفعها لضرورة العودة للوراء قليلاً وتغليب المصلحة الأمنية مؤقتًا.
ومن زاوية أمنية أخرى، فهناك آراء تشير إلى أن مساعي التقارب مع حماس، جاءت نتيجة خوف القاهرة من توطيد العلاقات بين كل من حماس وتركيا وقطر، مما دفعها لتحسين علاقاتها مع الحركة حتى لا تتأثر سياستها أو نفوذها في المنطقة خلال المرحلة المقبلة.