كنت أتمشى في أحد الصباحات باحثًا عن شيء أفكر فيه، ليأكل وقت انتهاء الطريق، لم أجد سوى ما كتب على جدران الشوارع، لفتت نظري جملة اعتدت على قراءتها في كل مكان من جداريات مواقع التواصل الاجتماعي إلى الجدران إلى المقالات والمدونات، حتى مقاعد الحافلات (الحرية لفلان/ ة)، أخذت أفكر طويلاً في معنى الحرية التي يقصدها كاتبها، هل هو مجرد خروجه من محبسه، أم أمانه بعد خروجه، أم ماذا، ولماذا وضع أحدهم طلاءً أبيض ليمحو الجملة لتبدو وكأنها خلف ستارة ما، وما صلة الرجل الذي كتب بالرجل الذي حاول المسح؟
أظن أن الفتى الذي كتب لم يتجاوز عمره الثلاثين، وأظن أيضًا الذي مسح لا يقل عمره عن الأربعين، عادة أسمي أصحاب العقود الأربع أو الخمس، الجيل الناصري، أو إن كان أصغر أسميه الساداتي وهكذا، لا أظن الفتى الذي يطلب الحرية التي أحاول البحث لها عن معنى يومي مفهوم يكتب تلك الجمل، أو صديقه الذي يكتب عنه تلك الجمل، يطلبان ذلك إلا من أجل ألا ينعتوا يومًا ما باسم جيل السيسي أو بالأحرى ليقال عنهم جيل الثورة.
من منا ينسى “منص” ذلك الشاب العشريني الذي كان يحضر المظاهرة أولاً، ليسلم ويهرج ويضحك، ثم تبدأ المظاهرة وتنتهي ويظل منص يمارس جدعنته المعتادة في صرف الفتيات والشباب الصغير، من منا ينسى وقفته طول المظاهرة للتنظيم ومساعدة كبار السن أو حاملي أطفالهم، هو الآن في سجنه وبين جدراننا ومدوانتنا وكتبنا، هو الآن بيننا هناك، كذلك “رمضان” الذي كان صوته عاليًا مجلجلاً لا يمل من الهتاف، أو حتى “سمعة” صاحب الصوت الندي الذي يغني في كل حال ويغني حتى نهدأ لنطرب بعد أي تعب.
من منا ينسى “أبو لبن” ذا الشعر الطويل الذي يمضي فراغه ومشغوليته في كتابة أسماء أصدقائه على الجدران، على جداريته، على كتبه على كل شيء، لا أحد ينسى خفة دم “ضن ضن” وشجاعة “جيمي”، من منا ينسى عقلانية “مؤمن”، أظن أنهم محفورون هنا في قلوبنا وعقولنا وعودتهم حتمية على بعدها وشوقنا.
معنى الحرية في حياتنا كشباب بسيط ليست سوى نكتة ساخرة من النظام، أو أغنية وسط التشجيع في مباراة كرة قدم تسب قوات الأمن إذا ضايقونا، لا تعني الحرية بالنسبة لنا أكثر من مقالة، مدونة، كاركاتير ساخر
ما معنى الحرية؟ وصلت إلى أن الحرية هي هؤلاء وغيرهم من الأرقام الكثير، معنى الحرية في حياتنا كشباب بسيط ليست سوى نكتة ساخرة من النظام أو أغنية وسط التشجيع في مباراة كرة قدم تسب قوات الأمن إذا ضايقونا، لا تعني الحرية بالنسبة لنا أكثر من مقالة، مدونة، كاركاتير ساخر، أو غنوة في نصف الليل على أحد المقاهي، ليست أكثر من الاستهزاء من أحد الحاكمين في جملة ما على جدار أو على مقعد في الحافلة أو قصيدة ورواية لا يعجبها السائد في هذا المجتمع الذي لو علم ناسه أي متعة نجدها في حريتنا التي نبحث عنها لزاحمونا عليها، ولكنهم تربوا على شيء غير الحرية التي نفهم وسنظل نختلف معها إلى أن نموت، ولن نصل لشيء سوى زيادة في عنادنا وخبوا لأصواتهم جميعًا.
لا أعلم حقيقة ما يفعله كل ما سبق، في تراسن الأمن ومدرعاته وطائراته، لو كان النظام أقل سفهًا لما اضطر هؤلاء جميعًا للمناداة بإسقاطه، لكن تفاهته هي عدوه الأول الذي لو تخلص منها من البداية لما وصل إلى ما وصلنا إليه.
في إحدى جلسات المحاكمة بإحدى المحاكم العسكرية المترسنة بالحرس والقوات، وجدت صديقي يكتب يسقط الظلم على مقعده في القفص، وألقى أحد المحامين مرافعة قوية، فصفقنا له وهتف “رمضان” وغنينا معًا إحدى الأغنيات، وانسحب القاضي العسكري من الجلسة ورفعها، واستمرينا في الغناء الذي شجعنا عليه كثيرًا “منص”، وعدنا من المحكمة فرحين نطلق النكات الساخرة علي المحكمة والقاضي والحرس، دخلنا العنبر ليغني “سمعة” عن الصبر وأكتب في الليل قصيدة عن كل هذا.