تواصل منظمات إنسانية ناشطة في الشمال السوري، إطلاق مبادراتها على طريقة “النقد مقابل العمل”، تقدم خلالها مبالغ نقدية للشباب والنساء مقابل تنفيذهم مهامًا محددة في مشاريع قصيرة الأجل ضمن مجتمعاتهم.
واستفاد من هذه المشاريع مئات الشبان والسيدات معظمهم من الأرامل والنازحات المعيلات لأسرهن، إذ وجدن في هذه المشاريع دخلًا يوميًا يساعدهن على تأمين متطلبات الحياة الأساسية ومخرجًا من العطالة المزمنة، إذ تشتكي آلاف الأسر في شمال غربي سوريا من قلّة فرص العمل، لأسباب عدة أبرزها الازدحام السكاني والظروف الاقتصادية الصعبة والنزوح والتهجير.
وشاركت في مبادرات “النقد مقابل العمل” منظمات سورية كثيرة، على رأسها مؤسسة “بناء” و”بنفسج” ومنظمتا “مسرّات وتكافل الشام”، وتركزت في معظمها على مشاريع “جني المحاصيل” التي خُصصت للنساء، فيما كانت حصة الشباب في العمل على مشاريع “تخطيط الطرق وإنشاء الأرصفة وإعادة ترميم المدارس والأسواق والطرقات”.
ولا تعدّ برامج “النقد مقابل العمل” ابتكارًا سوريًا خالصًا، إذ تعمل الكثير من المنظمات الإنمائية الدولية بما فيها التابعة للأمم المتحدة على إطلاق هذا النوع من المشاريع قصيرة المدى التي تستهدف الفئات الأكثر ضعفًا وهشاشة مثل الشباب العاطلين عن العمل والنساء المعيلات في البلاد التي تعاني أزمات وكوارث وحروب، بهدف تأمين سبل العيش للمجتمعات الضعيفة والمتأثرة بشدة هناك.
وتقدم برامج “النقد مقابل العمل” عائدًا مزدوجًا، إذ يحصل المستفيدون على ما يؤمن لهم ولعائلاتهم سبل عيش كريم، ولو لفترة قصيرة، فيما تشكّل مشاركتهم في عملية دعم التنمية المستدامة وإعادة تشييد البنية التحتية الأساسية فائدة عالية لمجتمعاتهم.
مشاريع زراعية
المهندس عبد المجيد حسون وهو مشرف مشروع “Project Supervisor” في منظمة “مسّرات” يقول لـ”نون بوست” إن المنظمة أطلقت مشروع زيادة الإنتاج الزراعي وفرص العيش في بلدتي “كللي وحفسرجة” وما حولهما من مخيمات النازحين بريف إدلب الشمالي، في مطلع شهر يونيو/حزيران الماضي، بهدف تقديم أجر جيد للعمال الزراعيين الذين يعتمدون في معيشتهم على العمالة الزراعية.
وأوضح أن نصيب كل قرية كان 50 عاملًا (45 من النساء و5 فقط من الرجال بصفة قادة مجموعات)، وأن جميعهم من النازحين والمقيمين، إذ جرى تقسيمهم إلى مجموعات كل مجموعة تتكون من 9 نساء ورجل واحد، وبأجر يومي 5 دولارات، بعدد ساعات عمل 5 ساعات، من الساعة الخامسة فجرًا حتى العاشرة، بناءً على رغبة المزارعين في القرى المستهدفة.
وذكر حسون في حديثه لـ”نون بوست” أن الهدف الآخر من هذه المشاريع هو تقديم خدمة توفير اليد العاملة بالمجان للأخوة المزارعين الأكثر ضعفًا في تلك القرى عن طريق تنظيم دور قطاف عبر التعاونيات الزراعية، ولفت إلى أن جميع العاملين في هذا المشروع تمنوا استمرارية النشاط بحكم الفارق عما يتقاضونه بالعمل الخاص، الذي لا يتجاوز 8 ليرات تركية في الساعة الواحدة.
مبينًا أن مشاريع النقد مقابل العمل في منظمة مسرات تستهدف القطاع الزراعي بشكل عام، باعتبار أن العمالة الزراعية بالأخص تعتمد على اليد العاملة النسائية الأكثر تحملًا للصبر، مشيرًا إلى أنه يجري حاليًّا العمل على مشاريع من شأنها دعم زراعة القمح للموسم الجديد في قرى معرة مصرين وكفريحمول وحزانو وحربنوش بريف إدلب الشمالي.
مشروع “بلسم 2”
ومن مشاريع “النقد مقابل العمل” أيضًا في شمال غربي سوريا، مشروع “بلسم 2” الذي نفذته منظمة “تكافل الشام”، واستهدفت من خلاله بلدة صوران شمالي حلب، ومدينة معرة مصرين شمالي إدلب، وفقًا لما ذكره راتب العلي الذي يشغل المنسق الميداني لبرنامج التعافي المبكر في المنظمة.
يقول العلي في حديثه لـ”نون بوست”: “المشروع شمل ترميم وإصلاح ثلاثة طرق في صوران و11 سوقًا وطريقًا في معرة مصرين وإنارة الطرقات والأسواق بالأعمدة وحاويات النظافة وتأهيل 5 مدارس في معرة مصرين، بالإضافة إلى منحة نقدية غير مستردة لأصحاب المحلات القائمة في الأسواق قيمتها 1200 دولار أمريكي لكل مستفيد، الذين بلغ عددهم 450 مستفيدًا في المنطقتين (صوران ومعرة مصرين).
وأكّد راتب في حديثه لـ”نون بوست” أن المشروع وفّر فرص عمل لـ70 شخصًا جميعهم من النازحين والمقيمين في منطقة المشروع، ولمدة 3 شهور وبأجر يومي يتراوح بين 6 إلى 7 دولارات، إذ تركز عملهم على ترميم الطرقات والأسواق والمدارس.
تهدف هذه المشاريع وفقًا لـ”العلي” إلى استعادة الخدمات الأساسية للمجتمع، والتركيز على التمكين الاقتصادي للأفراد سواء النازحين أم المقيمين والرجال والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال تدخلات عدة أهمها “التلمذة المهنية والتدريب المهني وتأمين فرص عمل قصيرة الأمد تتراوح من شهرين حتى أربعة أشهر حسب المشروع، بهدف مساعدتهم على تأمين دخلٍ يساعدهم في تأمين احتياجاتهم الأساسية”.
يجري اختيار العمال في مشاريع النقد مقابل العمل على حسب معايير الضعف والأهلية وقدرتهم على العمل، ومن ثم يتم تدريبهم على إجراءات السلامة المهنية لحمايتهم من الحوادث في أثناء العمل، بالإضافة إلى تزويدهم بلباس العمل المناسب مع أدوات العمل، وفقًا للعلي.
مضيفًا “تتراوح فترات العمل وسطيًا من 6 إلى 8 ساعات، في 22 يومًا خلال الشهر الواحد، ولا تتضمن هذه المشاريع أي أعمال خطرة أو شاقة، إذ يتم توظيف عدد من النساء وذوي الاحتياجات الخاصة مِمّن لديهم القدرة على تأدية بعض الأعمال المناسبة لحالتهم”.
إعادة تأهيل الطرق
أسفر تردي الأوضاع الاقتصادية في شمال غربي سوريا وموجات النزوح التي خلّفتها العمليات العسكرية الأخيرة، عن ازدياد حاجة الشباب إلى فرص عمل في الشمال السوري، وعلى إثرها اتجهت مؤسسة “بناء” إلى تنفيذ ثلاثة مشاريع، تضمنت مشاركة ما لا يقل عن 675 فردًا من الذكور والإناث في 194 يومًا، وبأجر يومي تراوح بين 6 إلى 8 دولارات للعامل الواحد، وفقًا للمهندس أحمد العبد الله الذي يشغل منصب “Team leader” لدى مؤسسة “بناء”.
يقول العبد الله لـ”نون بوست” إن المؤسسة نفذت ثلاثة مشاريع وهي “122 و136 و139” تخصّصت في إعادة تأهيل طرق رئيسية وفرعية حيوية بمناطق متعددة في الشمال السوري، بأطوال يصل مجموعها إلى 59 كيلومترًا تقريبًا.
وفي الحديث أكثر عن هدف المنظمة من هذه المشاريع، يقول العبد الله: “الهدف الأول هو تحسين الوصول المادي إلى مواقع النازحين داخليًا والعديد من القرى وتعزيز صمود المجتمعات من خلال تسهيل الوصول الاقتصادي إلى السوق والفرص والخدمات الأساسية، خاصة أن الطرق المستهدفة جميعها حيوية، ومن شأنها تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية للنازحين الموجودين في المخيمات”.
ولدى استطلاع أجريناه في شمال غربي سوريا، أكد العديد من الشبان العاملين بأجور المياومة أن مجموع ما يحصلون عليه يوميًا لا يمكن أن يغطي 40% من متطلبات حياتهم ومستلزمات منازلهم وعائلاتهم، وأن هذه المشاريع كانت أشبه بـ”طوق النجاة”.
عمليًا، المتتبع للواقع المعيشي في المناطق المحررة (شمال غربي سوريا)، يشهد تدهورًا اقتصاديًا غير مسبوق، في وقتٍ تغيب فرص العمل بشكل شبه تام، ويزداد الوضع سوءًا مع تدهور الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي، وسط ارتفاع جنوني للأسعار وغياب نقابات العمال التي تحفظ حقوقهم وتحدد الحد الأدنى للأجور وتلزم أصحاب العمل بدفعها من دون استغلال الوضع المعيشي.