ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد تخلّت الحكومة البريطانية عن تسيير البلاد، بينما تكافح بعض الوكالات الحكومية وموظفي الخدمة المدنية لمواصلة أداء مهام الإدارة الأساسية بيد أن الأدلة على ذلك ضئيلة. ولعل الأمر الأكثر وضوحًا أن كبار السياسيين في البلاد يولون اهتمامًا أكبر لتسجيل نقاط لصالح أحزابهم بدلا من العمل على جعل هذا البلد مكانًا لائقًا للعيش.
في الواقع، هذا المعطى ليس جديدًا ذلك أن السياسيين دائمًا ما يكونون إلى حد كبير مدفوعين بالمصلحة الذاتية والولاء الحزبي. لكن الجديد أنهم أصبحوا أكثر وقاحةً وبات ما يفعلونه صارخًا لدرجة أنه لم يعد ممكنًا للخدمة العامة إخفاء صناعة الشعارات الجوفاء التي حلت محلّ الحوكمة.
كل ما تتضمنه أجندة حزب المحافظين – المسؤولية المالية، والحكومة المصغرة، والأسواق الحرة – قد تعمّدوا التخلّص منه كما يفعلون مع مياه الصرف الصحي الخام التي تُضخّ في أنهارنا وبحارنا (وذلك بسبب تصويت 292 من أعضاء البرلمان المحافظين على مقترح يسمح بمواصلة ضخ مياه الصرف الصحي هناك لمدة 15 عامًا أخرى).
تركّز أجندة حكومة المحافظين حاليًا على القضايا الشائكة – التي تثير الجدل في المجتمع وتدفع الناخبين إلى الوقوف في صف طرف أو آخر دون مجال للحياد – في حرب ثقافية زائفة هدفها تعميق الانقسامات التي أصبحت أكثر رسوخًا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تمثّل سياسة اللجوء في المملكة المتحدة إحدى نتائج هذه الثقافة السياسية السامّة، وضحاياها محاصرون في فنادق سابقة مكتظة تقع في دوائر انتخابية هامشية أو عالقون في سجن عائم على متن بارجة سامّة. وأسوأ ما في الأمر أن مثل هذه السياسات ليست مصمّمة لحل أي مشكلة. وببساطة، يتلخّص مسعى الحكومة برمته في إظهار أكبر قدر من القسوة، حيث لا يتوانى المحافظون عن إظهار مدى كرههم للأجانب والشباب والفقراء والمستضعفين.
بذور الخوف
اعترف وزير الهجرة روبرت جينريك (المبعوث البريطاني السابق لـ “مبادرة السلام الإسرائيلية الفلسطينية” المشؤومة لجاريد كوشنر) هذا الشهر بأن تأخير البتّ في طلبات اللجوء المتراكمة متعمّد من أجل تثبيط المزيد من الطلبات. لكن إيواء طالبي اللجوء يكلّف دافعي الضرائب في المملكة المتحدة ستة مليارات جنيه إسترليني سنويًا، وبتنا الآن نعلم أن هذا خيار سياسي متعمّد.
وقد تبيّن أيضًا أن تغطية جداريات لشخصيات ديزني في قسم الأطفال في مركز لجوء في كينت بأمر من جينريك بتعلة تهيئة “بيئة أكثر صرامة لإنفاذ القانون” قد كلّف وزارة الداخلية أكثر من 1500 جنيه إسترليني، وهو مبلغ سيُقتطع بلا شك من ميزانية المساعدات الخارجية. ومن الواضح أن سياسة اللجوء في المملكة المتحدة لا تكترث للكرامة الإنسانية وغير مصممة لتخفيف معاناة طالبي اللجوء ولا تهدف حتى للحد من النفقات الحكومية، بل تعكس مساعي زرع بذور الخوف من “الآخر” القادم لافتكاك عملك وأسلوب حياتك وبناتك.
لا تعد خطة إرسال طالبي اللجوء إلى رواندا حديثة العهد. ففي سنة 2020، كانت وزيرة الداخلية آنذاك بريتي باتيل تدرس إمكانية إرسال طالبي اللجوء الذين يبحثون عن حياة أفضل في المملكة المتحدة إلى جزيرة أسينشين في جنوب المحيط الهادئ. وكانت مولدوفا والمغرب وحتى بابوا غينيا الجديدة من بين الوجهات المحتملة. لكن خطرت لهم فكرة البوارج المهجورة، وهكذا بدأت مأساة “بيبي ستوكهولم”.
وصفة لكارثة
استُخدمت بارجةٌ راسية من دون محرّك عليها علم بربادوس يعود تاريخ بنائها إلى سبعينيات القرن الماضي للإيواء منذ أوائل التسعينيات. وهي تضم 222 غرفة أبعاد معظمها لا تتجاوز 12 قدمًا في 12 قدمًا موزّعة على ثلاثة طوابق، وهي أحدث إجراء في سياسة لجوء المملكة المتحدة.
خططت حكومة المملكة المتحدة لإيواء أكثر من 500 طالب لجوء على متن بارجة بحجم ملعب كرة قدم ترسو في بورتلاند في دورست. وقيل إن نزلاءَها – الذين بدأوا في نقلهم إليها في أوائل آب/ أغسطس – سيكون لهم حرية التنقّل خارجها ولكن اتضح أن هناك أوقاتًا محددة جدًا تكون فيها حافلة متاحة لنقل هؤلاء النزلاء عبر مسافة طويلة حتى يصلوا إلى مكان يمكنهم التجوّل فيه، وذلك حسب ما أفاد به طالب لجوء أفغاني لـ “بي بي سي نيوز”.
تُحدّد نقاط الإنزال من قبل الحكومة. وتجدر الإشارة إلى أن ريف دورست ليس قريبًا من العديد من المراكز الحضرية لدعم المجتمعات الدولية أو التضامن معها. وحركة طالبي اللجوء داخل البارجة وخارجها تخضع لرقابة مشددة من قبل السلطات، والبارجة نفسها ترسو في منطقة أمنية مشددة من الميناء محاصرةٍ خلف الأسوار وتحت مراقبة كبيرة. فضلا عن ذلك، لا يحق لطالبي اللجوء في المملكة المتحدة العمل. ويتلقى المقيمون على متن بارجة “بيبي ستوكهولم” مصروفا قدره 9.50 جنيهًا إسترلينيًا في الأسبوع.
أشادت الصحف الشعبية اليمينية بفخامة ظروف الإيواء على متن هذه البارجة، لكن من تم إيواؤهم على متنها من عمال بناء في جزر شيتلاند قالوا إن الظروف في بيبي ستوكهولم “وصفة لكارثة”.
هناك بالفعل تقارير تشير إلى نقص معدات السلامة وأثيرت مخاوف جديّة بشأن القدرة على إخلاء النزلاء عبر الممرات الضيقة للبارجة والوصول إلى مخارج الحريق. ومن جهته، حذّر اتحاد رجال الإطفاء من أن احتجاز المهاجرين بالقوة على هذه البارجة ينطوي على خطر كبير على الصحة والسلامة. وقالت النقابة في بيان لها عن هذه البارجة إنها “ما زالت فخًا محتملا للموت من وجهة نظرنا المهنية”.
كراهية لا يمكن تبريرها أخلاقيًا
قلّل نائب رئيس الوزراء أوليفر دودن من شأن مخاوف رجال الإطفاء ووصفها بأنها ذات دوافع سياسية، مشيرًا إلى أن النقابة تبرّعت بأموالٍ لحزب العمال المعارض. لكن الحقيقة المؤكدة أن نقل أشخاص خاضوا رحلات بحرية مضنية ومروّعة في قوارب مزدحمة بمعدات سلامة محدودة إلى سفينة مكتظة بمعدات أمان محدودة دليل على كراهية لا يمكن تبريرها أخلاقيًا، ومن المرجح أن تمثّل لطالبي اللجوء صدمةً مزدوجة.
كما لو أن التجريم القائم على دوافع عنصرية للأشخاص المستضعفين ليس كافيًا، فقد ورد أن شرطة دورست اضطرت إلى تلقّي تدريب وموارد إضافية للتعامل مع تهديد الجماعات اليمينية المتطرفة التي قد تهاجم البارجة ونزلاءَها.
ماذا حدث بعد ذلك؟ تم الإبلاغ عن تفشي بكتيريا الفَيلَقِيَّة وكان لابد من إجلاء جميع من كانوا على متن البارجة. وبالطبع، لم تخبر السلطات جميع من كانوا على متنها بما حدث، وتركت الأمر للجمعيات الخيرية الإنسانية للاتصال بمن تقطّعت بهم السبل بعد أولى عمليات الإجلاء. لا أحد يضاهي المحافظين في قسوتهم!
إن فكرة معاملة بشر كسلع في مخزن عملٌ مخزي لنيل استحسان الناخبين، ولن يحلّ المشكلة. وعشرات الآلاف من طالبي اللجوء عالقون بسبب تراكم الإجراءات الحكوميّة (المفتعلة بالكامل). وبارجة “بيبي ستوكهولم” مجرّد عرض مادي ضخم لمدى كراهية حزب المحافظين للاجئين.
وردًا على سؤال حول تردّد طالبي اللجوء في الصعود إلى متن البارجة، قال لي أندرسون إن عليهم “العودة إلى فرنسا”، علمًا بأن أندرسون ليس شخصية بارزة في الجبهة الوطنية ولا في رابطة الدفاع الإنجليزية بل هو نائب رئيس حزب المحافظين. وهذا التطبيع في خطاب اليمين المتطرف خطير ومخيف لمن يسعون منّا إلى إيجاد حلول جادة لمشاكل خطيرة.
تغذية الخوف
إن الاستثمار ببساطة في معالجة طلبات اللجوء أو فتح مكتب هجرة في فرنسا أو فتح طريق قانوني واحد للاجئين للوصول إلى بريطانيا سيكون أقل تكلفة وأكثر احترامًا للكرامة الإنسانية. لكن هذا لن يولّد عناوين الأخبار المثيرة للجدل، ولن يجعل رجالا في منتصف العمر يعبرون عن غضبهم على شاشة التلفزيون، ولن يُذكّي الخوف الذي يزدهر عليه اليمين.
يمثّل هذا التجاهل الشرير للإنسانية السمة المميزة لسياسة المحافظين تجاه اللاجئين في محاولة لتشتيت انتباه الناخبين عن الفوضى التي تشهدها بريطانيا بعد 13 عامًا من حكم حزب المحافظين. لا يمكن السماح لهم بذلك – وإذا كان هذا العنف حقاً يُكسبهم الأصوات فماذا يعني ذلك بالنسبة لأمتنا؟
لقد عبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن هذا الوضع بكلمات أفصح في سنة 2020 بقوله: “بينما نطفو جميعًا في البحر نفسه، من الواضح أن البعض على متن يخوت عملاقة، بينما يتشبث البعض الآخر بالحطام المنجرف”.
استأجرت حكومة المملكة المتحدة بارجة “بيبي ستوكهولم” لمدة 18 شهرًا على الأقل، لكن أفضل استخدام لها سيكون نقلها عبر نهر التايمز لترسو خارج مجلسي البرلمان. وعلى هذا النحو، سيكون أي عضو برلماني من دائرة انتخابية بعيدة يعتقد أنها مكان مناسب للإقامة قادرًا على اتخاذها سكنًا له في لندن، وبالتالي توفير مصاريف منحٍ بملايين الجنيهات يمكن استخدامها بعد ذلك لتمويل إجراءات البتّ في طلبات اللجوء المتراكمة.
في صباح يوم 12 آب/ أغسطس، غرق قارب آخر يحمل طالبي لجوء في القنال الإنجليزي. أنقذ المتطوّعون العشرات في قارب النجاة بينما فُقِد أثر ستة رجال أفغان على الأقل فرّوا من طالبان في مقابر مائية. ورغم ادعاء الحكومة القلق في الساعات التي تلت انتشار الأخبار، تم إحضار 22 شخصًا فقط إلى المملكة المتحدة بموجب خطة إعادة توطين المواطنين الأفغان. ولو كان هناك طريق آمن لطالبي اللجوء لدخول المملكة المتحدة، لظلّ هؤلاء الرجال الستة على قيد الحياة. إن دماءهم تلطّخ أيدي تجار الكراهية من حزب المحافظين.
المصدر: ميدل إيست آي