برز التوافق السياسي كآلية مهمة في إدارة المرحل الانتقالية في التجربة التونسية عقب ثورة يناير 2011، انطلق بتجربة الترويكا (حركة النهضة، المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي أكتوبر2011، ثم حكومة مهدي جمعة (تكنوقراط)، فحكومة الحبيب الصيد الأولى والثانية (حركة نداء تونس، حركة النهضة، آفاق تونس، الاتحاد الوطني الحر)، وصولاً إلى حكومة يوسف الشاهد الحالية (حركة نداء تونس، حركة النهضة، آفاق تونس، حزب المسار، حركة الشعب، حزب الجمهوري)، توافق جنب البلاد بعض الويلات التي كانت ستحصل في غيابه، وأفرز دستور عصري، أشادت به الدول وانتخابات برلمانية ورئاسية.
توافق جنب البلاد الأزمات العنيفة
التوافق السياسي في تونس الذي بدأ بين حركة النهضة وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وأفرز حكومة الترويكا في نسختها الأولى والثانية، عقب انتخابات التأسيسي، وساهم في تخفيض منسوب التوظيف الأيديولوجي، عرف أواخر 2014 وبداية 2015 نوعًا من الاهتزاز في أثناء عملية تشكيل حكومة الحبيب الصيد في نسختها الأولى، بعد استبعاد حركة نداء تونس الفائزة بالانتخابات، حركة النهضة من التشكيل الحكومي، ليتدعم بعدها التوافق بين حركتي النهضة والنداء، حتى إنه وصل حد حصول زعيمي الحركتين، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، على جائزة السلام لسنة 2015 المقدمة من طرف مجموعة الأزمات الدولية، وتشكيل الحزبين لحكومة وحدة وطنية، جنبت البلاد الانفلات الاجتماعي والأمني.
توفر بعض الشروط في المحيطين الإقليمي والدولي ساهما في السير بهذه التجربة نحو الأمام لأن البديل كان مزيدًا من تعميق أزمة الدولة
في هذا الشأن يقول أستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية هاني مبارك، لنون بوست”: “لا شك أن التوافق يعد أحد أهم مقومات الصمود أمام محاولات الانفلات بالوضع الاجتماعي والأمني في البلاد،” وتابع “هذا التوافق أغلق مساحات كبرى من الفراغات التي كان يمكن للانفلات النفاذ من خلالها حيث ضيق من هوامش المناورة من قبل الأطراف وسد منافذ التلاعب على المتناقضات”.
ويرى هاني مبارك أن توفر بعض الشروط في المحيطين الإقليمي والدولي ساهما في السير بهذه التجربة نحو الأمام لأن البديل كان مزيدًا من تعميق أزمة الدولة والدفع بها إن لم يكن نحو الفوضى مباشرة فنحو الفشل الذي سيقود نحو الفوضى التي تسعى لها خاصة بعض الأطراف الإقليمية التي يحرجها نجاح التجربة التونسية، حسب قوله.
وتشير عديد من التقارير أن فشل حكم الإخوان المسلمين في مصر وارتفاع منسوب العنف في ليبيا بعد إقرار قانون العزل السياسي، كانا من بين أهم الأسباب التي دعمت تجربة التوافق في تونس وتوظيف منطق التنازلات السياسية التي أثَرت في مجمل المسار الانتقالي بشقيه السياسي والقانوني.
مشاركة الباجي قائد السبسي في المؤتمر العاشر لحركة النهضة
ويعتبر “اجتماع باريس” في أغسطس 2013 البداية الفعلية للتوافق السياسي بين حركتي النهضة ونداء تونس، حيث جمع اللقاء بين زعيمي الحركتين راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي، بعد فترة من الشتائم والاتهامات المتبادلة، ونتج عن التوافق الحاصل بين النهضة ونداء تونس، وهما الحزبان الأولان من حيث عدد نواب البرلمان التونسي، تعايش سياسي قلل من احتمال التأزم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني في تونس.
واعتبر راشد الغنوشي أن التوافق مع نداء تونس كان اضطراريًا وبراغماتيًا رغم الخصام السياسي بين الطرفين، وأملته مصلحة البلاد، خاصة أن الطرفين مقتنعان بأن التوافق سياسي لا عقائدي، حسب قوله، فيما برر الباجي قائد السبسي انتهاجه التوافق مع النهضة، لأنصاره ولمن انتخبوه وانتخبوا حزبه تحت عنوان “الانتخاب المفيد“ أو “الانتخاب العقابي“ بأنه يحترم خيار الشعب التونسي الذي وضع حركة النهضة في المرتبة الثانية، وأكد حضور راشد الغنوشي فعاليات مؤتمر نداء تونس ومشاركة الباجي قائد السبسي، في افتتاح المؤتمر العاشر لحركة النهضة إحدى تجليات هذا التوافق بين الحزبين.
هل يذهب الحزبين نحو الانتخابات القادمة برؤية مشتركة؟
بعد سنوات من هذا التوافق ومزيد من تطوره، رغم العثرات التي شهدها، أصبح البعض يتحدث عن إمكانية ذهاب الحزبين نحو الانتخابات القادمة برؤية مشتركة، في هذا الشأن يقول أستاذ العلوم السياسية هاني مبارك: “تعميق هذا التوافق نحو الذهاب إلى الانتخابات برؤية مشتركة يتطلب حزمًا من قبل نداء تونس في اتخاذ قرار شجاع بإعلان الارتفاع بالعلاقة مع حركة النهضة من علاقة أملتها نتائج الانتخابات إلى خيار يعكس حقيقة التكوين الاجتماعي السياسي للمجتمع ويعكس تحالف الهوية مع الطموح بتطوير هذه الهوية وتحديث أطروحاتها، كما أن ذلك يتطلب من النهضة مستوى أكثر تقدمًا في فهم الطبيعة الحداثية لجزء كبير من المجتمع”، ويضيف مبارك المطلوب إبرام مصالحة تاريخية بين ثقافتي المجتمع التونسي.
يسعى القائمون على الحركتين لمزيدمن تدعيم التوافق بين حزبيهما
غير أنه يؤكد أن “الطريق إلى ذلك ما زال وعرًا وهناك أطراف فاعلة ولها امتدادات متنوعة ما زالت تشكل خطرًا على هذا الخيار وهو ما يتطلب درجة من الوعي والمرونة لأن أعداء التجربة التونسية الأكثر خطرًا هم الموجودون في المحيطين الإقليمي والدولي”، ويسعى القائمون على الحركتين لمزيد من تدعيم التوافق بين حزبيهما، لإنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس والنأي بالبلاد عن الصراعات الثنائية والاستقطاب القائم على الأيديولوجيا.
هل يوجد بديل للتوافق في تونس؟
كثيرًا ما يؤكد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، أن التوافق سيستمر في تونس ولا بديل عنه ولا أحد قادر على أن يحكم وحده أو أن يقصي الآخر، في إشارة إلى جهود بعض الأحزاب التونسية في تشكيل جبهات فيما بينها لإقصاء حركة النهضة وإبعادها عن الحكم والدولة، إلا أن هذا التوافق ورغم الاستقرار الهش الذي نتج عنه، فإنه يبقى مرهونًا بتجليات مستقبل قريب قد يعاد فيه رسم الخارطة السياسية التونسية ومراجعة صيغ الائتلاف الراهنة باتجاه تشكيل تحالفات جديدة.
ترفض الجبهة الشعبية العمل مع حركة النهضة وتسعى إلى اقصائها
ظهر في الفترة الأخيرة سعي “الجبهة الشعبية” (ائتلاف أحزاب يسارية) إلى توسيع نطاق تحالف مكوناتها اليسارية والقومية من أجل استيعاب المزيد من الأحزاب والشخصيات، حيث بادرت في الآونة الأخيرة إلى إعادة انتخاب حمة الهمامي ناطقًا رسميًا باسمها وإطلاق “مبادرة سياسية لإنقاذ البلاد” على قاعدة تجميع القوى الديمقراطية والمدنية والاجتماعية وعزل حركة النهضة.
كما يبرز سعي حركة “مشروع تونس” التي يقودها القيادي المنشق عن نداء تونس محسن مرزوق، تشكيل جبهة سياسية تضم عديد من الأحزاب على غرار الاتحاد الوطني الحر وآفاق تونس، بهدف إقصاء حركة النهضة وعزلها.