جاء الاتفاق الروسي التركي الأخير بشأن وقف إطلاق النار في سوريا كخطوة تمهيدية نحو الإعداد لمباحثات السلام القادمة بين النظام والمعارضة في العاصمة الكازاخستانية “أستانة” ليضع العديد من التساؤلات عن مستقبل العملية السياسية السورية، ومصير بشار الأسد في هذه العملية.
وعلى الرغم من خرق ميليشات النظام السوري للهدنة من خلال مواصلة القصف لعدة مناطق في حلب وإدلب ودرعا، وهو ما قد يعرض الاتفاق السابق للانهيار، فضلاً عن تهديد جولة المباحثات القادمة في كازاختسان، فالأيام الأخيرة كشفت النقاب عن إرهاصات شقاق روسي إيراني حيال الملف السوري.
التوافق الروسي الإيراني طيلة الفترة الماضية بشأن الإبقاء على نظام الأسد كأحد الأطراف الأساسية التي يجب أن تشملها المباحثات القادمة، يبدو أنه لن يدم أكثر من ذلك، وهو ما قد يدفع إلى تعميق الخلافات بين موسكو وطهران مستقبلاً، وذلك حسبما نشرت صحيفة “دي بريس” النمساوية، والتي ألمحت إلى خطة روسية تهدف إلى إزاحة الأسد عن المشهد السوري تدريجيًا حفاظًا على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
تبديل تدريجي لحكم الأسد
في تقرير نشره موقع “روسيا اليوم” ، تطرق إلى ما تناولته صحيفة “دي بريس” النمساوية، عن مسألة ما بعد التفوق العسكري الروسي الإيراني في سوريا، ومستقبل العملية السياسية عقب الاتفاق الأخير بين موسكو وأنقرة.
بحسب كاتب الصحيفة مارتن كيلين فإن روسيا لا يمكنها البقاء في حرب أهلية سورية لمدة طويلة، خاصة أنها تدرك أن عجلة إعادة بناء الدولة باتت غاية في الصعوبة نظرًا لما تسببت به العمليات العسكرية الروسية من شروخ في العلاقات مع بعض الدول الإقليمية، وهو جاء على لسان كاتب المقال: “روسيا، أمنت إلى حد كبير في مساندتها القوات السورية تفوقًا عسكريًا، ونرى أن عجلة الحرب توقفت، وبدأت في الأفق مبادرات وقف الأعمال القتالية والانتقال إلى حل سياسي ولكن، روسيا لا يمكنها البقاء في “الحرب الأهلية السورية” لمدة طويلة، وحتى مع تلاشي آمال المتمردين في السيطرة على الوضع، لكن موسكو تريد دولة مؤسسات طويلة الأمد”.
بات من الطبيعي أن يبدأ البحث عن تبديل تدريجي لحكم بشار الأسد، من خلال اتفاق يضمن المصالح الروسية من جانب، ويسعى إلى تخفيف حدة التوتر مع الدول المتحفظة على الدور الروسي في سوريا من جانب آخر
الكاتب أشار إلى بعض الصعوبات التي تحول بين روسيا وفكرة الإبقاء على النظام السوري بهيئته الحالية، أبرزها مشاعر الانتقام لدى الملايين من السوريين ضد موسكو بسبب دورها في العمليات العسكرية، وهو ما قد يعرض الروس للخطر، إضافة إلى أن هذا الدور تسبب في توتر في العلاقات مع دول الخليج العربي وبعض دول أوروبا فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى المؤسسات الأممية وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي، مما يعني استعداء موسكو لغالبية الكرة الأرضية لأجل عيون الأسد ونظامه.
لذا وحسبما أشار كيلين فإنه بات من الطبيعي أن يبدأ البحث عن تبديل تدريجي لحكم بشار الأسد، من خلال اتفاق يضمن المصالح الروسية من جانب، ويسعى إلى تخفيف حدة التوتر مع الدول المتحفظة على الدور الروسي في سوريا من جانب آخر، خاصة وأن لموسكو مصالح استراتيجية هامة لدى بعض هذه الدول وفي مقدمتها دول الخليج العربي.
كما تطرقت الصحيفة النمساوية إلى مسألة انتخاب أمين عام جديد للأمم المتحدة، وهو بالطبع سيضع خطة جديدة لمفاوضات جنيف التي تسبقها مفاوضات في أستانة وسيحاول بكل طاقته أن تكون نتائج العملية السياسية في سوريا مناسبة للجميع، مما يفتح الباب لحلول وسط كثيرة.
لكن يبقى التساؤل عن انعكاسات مثل هذه المواقف والتوجهات على العلاقات بين موسكو وطهران، وهما اللاعبان الأبرز على الساحة السورية الآن بجانب تركيا، خاصة وأن بشار الأسد يعد “خطًا أحمر” لا يمكن المساس به لدى إيران، وهو ماعبرت عنه كثيرًا قبل ذلك.
مباحثات روسية تركية إيرانية عن الشأن السوري في موسكو
تصاعد الخلافات بين موسكو وطهران
لم تشهد الأجواء الروسية الإيرانية ما يعكر صفوها منذ تدخل موسكو العسكري سوريا في 2015 وحتى وقت قريب، إلا أن أزمة إجلاء المدنيين والمسلحين المحاصرين شرق حلب شمال سوريا كشفت عن العديد من الخلافات بين الجانبين.
النفي الإيراني لوجود مثل هذه الخلافات فندته التهديدات الروسية بالرد على أي إطلاق للنار خلال عملية الإجلاء، حتى وإن كان من قبل قوات النظام السوري أو المليشيات الموالية لها، علمًا بأن المليشيات الإيرانية عرقلت عملية الإجلاء من خلال وضع شروط إضافية تتعلق بإخراج جرحى من قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين المواليتين للنظام في ريف إدلب شمال غرب سوريا، وهو ما أكدته المعارضة السورية.
كما تصاعدت حدة هذه الخلافات أيضًا عقب عودة العلاقات بين روسيا وتركيا، حيث رأت طهران في ذلك تقليلاً لنفوذها داخل سوريا، فضلاً عن التباين الواضح في نظرة أنقره لمستقبل سوريا مقارنة بما لدى القيادة الإيرانية.
إيران تحاول بكل الوسائل تعزيز نظام الأسد وتحقيق انتصارات أكثر في حلب وهو ما لا تريده روسيا، كون ذلك سيؤدي إلى تصعيد توتر العلاقات بينها وبين العالم العربي من جهة وبينها وبين الغرب من جهة أخرى
وبحسب تصريحات نقلتها “الجزيرة” عن محلل الشؤون الدولية في صحيفة “كوميرسانت” سيرغي ستروكان، فإن إيران تحاول بكل الوسائل تعزيز نظام الأسد وتحقيق انتصارات أكثر في حلب وهو ما لا تريده روسيا، كون ذلك سيؤدي إلى تصعيد توتر العلاقات بينها وبين العالم العربي من جهة وبينها وبين الغرب من جهة أخرى.
ستروكان شدّد على أن الخلاف بين روسيا وإيران هو خلاف جوهري يتعلق بمستقبل سوريا، حيث إن طهران ليست مهتمة بالتسوية السياسية للأزمة كون ذلك سيضع مصير الأسد على المحك، فضلاً عن أنها تنظر إلى الوضع في سوريا من منظور المواجهة بين الشيعة والسنة في العالم العربي، وتعتبر الوضع في حلب وعملية الإجلاء على أنها تصفية حسابات، لذلك فإنها تلعب دورًا سلبيًا في هذه الأزمة وستستمر بوضع العقبات أمام أي محاولات لتسويتها.
إجلاء المدنيين والمسلحين المحاصرين بحلب
مصير الأسد أبرزها
يعد مصير بشار الأسد أبرز محاور الخلاف بين موسكو وطهران في المباحثات الآخيرة بشأن مستقبل سوريا، وهو ما كشف عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مشاركته في المحادثات التي جرت في فيينا 30 من أكتوبر الماضي بشأن سوريا، بمشاركة أمريكية أممية، من أن المجتمعين لم يتفقوا على مصير الأسد.
لافروف في مؤتمر صحفي مشترك له مع نظيره الأمريكي جون كيري والمبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا قال: “ناقشنا وقف إطلاق النار في سوريا بشكل عام لكننا لم نتوصل إلى اتفاق بهذا الشأن”، مضيفًا “لم نتفق على مصير الأسد وروسيا ترى أن ذلك أمر يحدده السوريون وحدهم”.
وبعد أقل من شهر على تصريحات لافروف، أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، أن بقاء الأسد في السلطة ليس حتميًا بالنسبة لروسيا، وردًا على سؤال عما اذا كان الإبقاء على الأسد مسألة مبدأ بالنسبة لروسيا، قالت زاخاروفا “بالقطع لا، لم نقل هذا قط، نحن لا نقول أن الأسد يجب أن يرحل أو يبقى”.
ناقشنا وقف إطلاق النار في سوريا بشكل عام لكننا لم نتوصل إلى اتفاق بهذا الشأن، ولم نتفق على مصير الأسد وروسيا ترى أن ذلك أمر يحدده السوريون وحدهم
التصريحات الروسية بشأن الأسد جاءت غداة اتهامات القائد العام لقوات “الحرس الثوري” الإيراني محمد علي جعفري روسيا التي وصفها بـ”الرفيق الشمالي”، بالبحث عن مصالحها في سورية.
جعفري خلال تصريحاته قال: “إن الرفيق الشمالي الذي جاء أخيرًا إلى سورية للدعم العسكري بحث عن مصالحه وقد لا يهمه بقاء الأسد كما نفعل نحن، ولكن على أية حال إنه موجود الآن هناك وربما مجبر على البقاء حرجًا أو لأسباب أخرى”، معلنًا عن أن إيران لا ترى أي بديل للأسد وأن هذا هو موقف المرشد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري، مضيفًا: البعض لا يفهم هذا فيتحدث عن بديل للأسد، في إشارة منه إلى روسيا.
إن الرفيق الشمالي الذي جاء أخيرًا إلى سورية للدعم العسكري بحث عن مصالحه، وقد لا يهمه بقاء الأسد كما نفعل نحن، ولكن على أية حال إنه موجود الآن هناك وربما مجبر على البقاء حرجًا أو لأسباب أخرى
يلاحظ أن تباين وجهات النظر بين طهران وموسكو مؤخرًا ربما يدفع الأخيرة إلى التفكير خارج الصندوق للحفاظ على ما حققته من مكتسبات حتى الآن، خاصة وأنها قد ترى أن إيران باتت عبئًا ثقيلاً عليها في توجهاتها الخارجية، في الوقت نفسه فهناك يقين لدى القيادة الروسية أن مساعي إيران في سوريا لن تتوقف عند حد دعم نظام الأسد وفقط، بل تفوق ذلك بكثير وفق رؤية منهجية شيعية توسعية، وهو ما قد يورط موسكو في مسائل لن تزيدها إلا مشقة سياسية واقتصادية، إضافة إلى فتور في علاقاتها الإقليمية والدولية.
القائد العام لقوات الحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد علي جعفري
كيف تضمن موسكو مصالحها في سوريا؟
نجحت موسكو منذ الوهلة الأولى من مشاركتها العسكرية في سوريا في تحديد أهدافها بنجاح، فهي تبحث عن نظام يراعي مصالحها في المنطقة، فضلاً عن إيجاد دور إقليمي جديد يعيدها إلى المشهد السياسي الدولي بصورة تعيد أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق، مع الحرص على حضورها الشرق أوسطي الذي يحقق لها العديد من المكاسب الاقتصادية والسياسية.
وبعد ما يزيد على عام تقريبًا من الوجود العسكري في سوريا، استطاعت موسكو تحقيق العديد من أهدافها التي سعت لأجلها من خلال دعم النظام السوري، حيث فرضت نفسها لاعبًا رئيسيًا في المنطقة، وأحد أبرز من يتحكمون في إعادة رسم وتشكيل الخارطة السياسية للشرق الأوسط.
رؤية بوتين تتمثل في الإبقاء على النظام الحالي كما هو، حتى وإن تضمن بقاء الأسد لفترة مؤقتة، فروسيا لا تريد تغيير النظام السوري بهيكليته وتشكيلته ومؤسساته الحالية
أما فيما يتعلق بترسيخ نظام سياسي يراعي مصالحها في سوريا، فقد نجحت في ذلك بصورة كبيرة، حيث قضت على جميع المقومات والدعائم التي من الممكن أن تفرز نظامًا يعرقل المصالح الروسية، وهو ما أشار إليه الكاتب والمحلل علي حسين باكير في مقال له، من خلال ما أسماه “مخطط موسكو لتدمير البدائل السياسية والعسكرية لنظام الأسد” وذلك عبر محاربة فصائل المعارضة السورية بحجّة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهو الأمر الذي جرى ويجري فعلاً منذ التدخل العسكري في الربع الأخير من العام الماضي، فتحت شعار محاربة الإرهاب يتم القضاء على المعارضة المعتدلة وإجبار المعارضة السياسية على الخضوع بحيث يصبح الخيار إمّا داعش أو نظام الأسد.
وأضاف باكير أن رؤية بوتين تتمثل في الإبقاء على النظام الحالي كما هو، حتى وإن تضمن بقاء الأسد لفترة مؤقتة، فروسيا لا تريد تغيير النظام السوري بهيكليته وتشكيلته ومؤسساته الحالية، كما جاء في تصريحه مايو الماضي، حين قال: “هدف روسيا في سوريا محاربة تنظيمات الإرهاب والحفاظ على السلطة الشرعية في سوريا حتى لا ينهار أي شيء”.
وتبقى مسألة تخفيف حدة التوتر بين موسكو والعواصم الخليجية والأوروبية والأمريكية والتي زادت في الآونة الاخيرة بسبب العناد الروسي بشأن الإبقاء على الأسد كأحد هياكل الخارطة السياسية الجديدة في سوريا، لتدفع موسكو إلى إعادة النظر في توجهها القديم، فبعد التخلص من جزء كبير من الكيانات السياسية التي كان من الممكن أن تشكل عقبة أمام المصالح الروسية في سوريا، وتحقيق معظم أهداف موسكو من وراء تدخلها العسكري في سوريا، هل باتت الإطاحة بالأسد مسألة وقت وفق ما قالته الصحيفة النمساوية؟