حوارة: بلدة فلسطينية تتصدر المواجهة مع المستوطنين

شهد مساء السبت 19 أغسطس/ آب 2023 عملية جديدة، نفّذها مقاوم فلسطيني في بلدة حوارة الفلسطينية التابعة لمدينة نابلس، إحدى أكبر محافظات شمالي الضفة الغربية المحتلة، قُتل فيها مستوطنان، لتسجّل البلدة الفلسطينية عددًا هو الأكبر منذ بداية العام.
جاءت هذه العملية امتدادًا لسلسلة من العمليات التي شهدتها البلدة، التي تربّعت على عرش المناطق الفلسطينية التي شهدت موجة من عمليات نفّذها مقاومون فلسطينيون، قُتل فيها 32 إسرائيليًّا من الجنود والمستوطنين، غالبيتهم جراء إطلاق نار باستثناء مستوطن قُتل بصاروخ أطلقته المقاومة في غزة.
شهدت حوارة منذ بداية العام 10 عمليات، 6 منها كانت عمليات إطلاق نار، أدّت إلى مقتل 4 مستوطنين، وإصابة 12 آخرين، منهم 6 مستوطنين و6 جنود، 2 من مجمل الإصابات في هذه العمليات وُصفت جراحهم بالخطيرة و3 متوسطة.
تتابعت العمليات الفلسطينية ابتداءً من 26 فبراير/ شباط الماضي، حيث أسفرت في حينه عن مقتل مستوطنَين بعملية إطلاق نار، ثم في 19 مارس/ آذار أُصيب مستوطنان بعملية إطلاق نار، وبعدها بأيام قليلة وتحديدًا في 25 مارس/ آذار أُصيب 3 جنود بعملية إطلاق نار، وبعدها بنحو شهرَين في 21 مايو/ أيار أُصيب جندي بعملية دهس، وشهد يونيو/ حزيران إصابة جنديَّين بعملية دهس، وفي 6 يونيو/ حزيران أصيب مستوطن بعملية إطلاق نار، وكانت عملية 19 أغسطس/ آب هي الأخيرة حيث أسفرت عن مقتل مستوطنَين بعملية إطلاق نار.
تأزّمت أوضاع البلدة يوم 26 فبراير/ شباط 2023 أكثر من ذي قبل، لا سيما بعد تنفيذ مقاومين فلسطينيين عملية فدائية وقتل مستوطنَين اثنين في وسط الشارع الرئيسي لبلدة شارع حوارة، الواصل بين شمال الضفة الغربية وجنوبها، حيث أقدم المستوطنون على مهاجمة البلدة وإحراق ممتلكات الفلسطينيين ومنازلهم ومركباتهم.
بعدها خرجت دعوات لمحو بلدة حوارة أطلقها المستوطنون المتطرفون، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريش، وهو ما طالب به أيضًا دافيدي بن تسيون نائب رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية، وأيّده في ذلك وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
الموقع الجغرافي.. حوارة القلب النابض
بلدة حوارة تعتبر واحدة من 56 قرية وبلدة تتبع مدينة نابلس، إحدى أكبر محافظات شمال الضفة الغربية، ويعني اسمها باللغة السريانية “البياض” أو “الأرض البيضاء”، وسُمّيت بذلك لبياض تربتها المعروفة باللهجة الفلسطينية بـ”الحُوَّر”، حيث تقع جنوب مدينة نابلس شمال الضفة، وتبعد عن مركز المدينة 9 كيلومترات، ويقسمها شارع حوارة (طريق نابلس-القدس كما عُرف قديمًا) بين شرق وغرب.
تتبع البلدة إداريًّا لمحافظة نابلس، وحسب اتفاق أوسلو عام 1993 صُنّفت أراضي حوارة بين مناطق “ب” الخاضعة إداريًّا وأمنيًّا للسلطة الفلسطينية، والمنطقة “ج” الخاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية، فيما أُسّس أول مجلس قروي في البلدة عام 1965، وتحوّلت لاحقًا -بعد زيادة سكانها- إلى مجلس بلدي عام 1998 يتكون من 11 عضوًا بمن فيهم الرئيس، وينتخبون عبر ما تقرّه لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية.
ترتفع حوارة 520 مترًا عن سطح البحر، وتتأثر بطقس حار جاف صيفًا ومعتدل ماطر شتاءً، وتتوزع تضاريسها بين الجبل والسهل، ويعلوها شمالًا جبل سلمان (الذي ينسب إلى الصحابي سلمان الفارسي) وجنوبًا جبال رأس زيد والصبَّات وتلة النَّجَمي شرقًا، وفيها وادٍ وحيد يعرَف بواد عينابوس، وتحيطها من الشرق قريتا أودلا وبيتا، ومن الغرب بلدة عينابوس وجماعين، ومن الشمال بورين، ومن الشرق عورتا.
تقدَّر المساحة التي تشغلها البنايات في البلدة بحوالي 1000 دونم (الدونم = 1000 متر مربع)، بينما تقدَّر مساحتها الإجمالية بنحو 10 آلاف دونم، ويزرع سهلها بالحنطة والحبوب، ويعدّ ثاني أكبر سهل بعد مرج بن عامر شمال الضفة الغربية، وبلغ عدد سكان حوارة عام 2017 وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 6 آلاف و659 نسمة، وارتفع عام 2022 إلى حوالي 7 آلاف نسمة، إضافة إلى 9 آلاف يعيشون خارج الوطن معظمهم في الأردن وأمريكا.
يتوزع سكانها بين 3 عائلات كبيرة: عودة والضميدي والخموس، ومنها تتفرع عوائل أخرى، وتقول عائلة عودة (التي تشكّل ثلثَي البلدة) إنها حجازية، وعائلة الضميدات يعود أصلها إلى غور دامية في الأردن، والعائلة الثالثة هي خموس وأصلها من بلدة مخماس شمال شرق القدس.
تاريخيًّا، يمتد أصل بلدة حوارة إلى أكثر من 700 عام وموطنها خربة قوزة القريبة، ويعدّ بئر قوزة مصدرًا أساسيًّا لمياه البلدة، حيث خضعت البلدة كغيرها من المناطق الفلسطينية لحقب زمنية مختلفة قديمًا وحديثًا، فقد خضعت للحكم العثماني حتى مطلع عشرينيات القرن الماضي، ومن ثم الانتداب البريطاني حتى عام 1948.
أعقب ذلك فترة الحكم الأردني الممتد حتى عام 1967، وهو تاريخ احتلال “إسرائيل” للضفة الغربية وخضعت حوارة بعدها للسيطرة الإسرائيلية، إلى أن صارت تحت حكم السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو في سبتمبر/ أيلول 1993 المبرم مع الاحتلال الإسرائيلي.
تاريخ حوارة.. مواجهة دائمة
شاركت حوارة في النضال الفلسطيني ضد الغزاة خلال مختلف المراحل التاريخية، وفي العصر الحديث يذكر لأبنائها مشاركتهم في ثورة 1936 ضد الإنجليز، واستشهاد 3 منهم وهم محمود الحمور وماجد سعادة والسنوسي الحواري، وبعد الاحتلال الإسرائيلي للبلدة عام 1967 وحتى مطلع عام 2023، سُجّلت أكثر من 800 حالة اعتقال بين أبنائها الذين تراوحت أحكامهم بين 18 يومًا و16 عامًا، بالإضافة إلى 25 شهيدًا بينهم 5 خلال انتفاضة الأقصى الثانية.
شكّل موقع حوارة على الشارع الرئيسي الذي يسلكه المستوطنون صيدًا ثمينًا لمقاوميها، خاصة في الانتفاضة الأولى حين شنّوا فرادى وجماعات هجمات ضد المستوطنين، وفيها مقاومون شكّلوا خلايا لمقاومة الاحتلال منهم نجم عوده، الذي ارتقى شهيدًا مع 15 مقاومًا آخرين في ملحمة عين البيضاء بالأغوار الفلسطينية الشمالية عام 1970، ولا يزال الاحتلال يحتجز جثامينهم بمقابر الأرقام.
يعد الاستيطان أكثر العوامل الطاردة والقاهرة لأهالي حوارة، فقد نهشت مستوطنة “يتسهار” 1500 دونم من شمال البلدة وآلاف الدونمات من القرى المجاورة، بالإضافة إلى مستوطنة “جفعات رونين” الاستيطانية التي تفرّعت منذ سنوات عن المستوطنة الأم “هار براخا”.
إلى جانب المستوطنتَين، استولى الاحتلال على المعسكر الأردني القديم “معسكر حوارة” الذي أقيم قبل عام 1967 على أراضي عورتا وحوارة، فحوّله مقرًّا لجيشه، ومركزًا للتوقيف والتحقيق مع الأسرى الفلسطينيين، مع مقرات للشرطة والمخابرات الإسرائيلية والارتباط العسكري، وأضاف مهبطًا للطائرات العمودية، ثم تحوّل جزء من المعسكر إلى إدارة مدنية من أجل “إدارة شؤون الفلسطينيين”.
وقرب المعسكر أقام الاحتلال حاجز حوارة العسكري عام 2000، ليشكّل مع حاجز زعترة جنوبًا على بُعد 5 كيلومترات فكَّي كماشة لشارع حوارة بأكمله.
كما صادر الاحتلال 1100 دونم من أراضي البلدة لمصلحة الشارع الاستيطاني الالتفافي الجديد، الذي بدأ بشقّه بداية عام 2021 ليكون بديلًا عن شارع حوارة الرئيسي، الذي حوّله الاحتلال إلى ثكنة عسكرية عبر إقامته 15 برجًا عسكريًّا للمراقبة، وحواجز متحركة وثابتة بين طرفَي شارع حوارة.
في البلدة غرفة قديمة وبها محراب يقال إنه مقام لنبي اسمه صاهين، ومقام آخر ينسب إلى صحابي اسمه عكاشة بن الصامت، ومن معالمها أيضًا باب بيت الخربة الذي يحوي بركة ومغارات مبنية ومحفورة بالصخر تعود إلى الحقبة البيزنطية، وهناك خربة عطارود تضاف إليها خربة الطيرة وخربة مطر، وفيها كذلك مقام الشيخ بشارة وخربة قوزة ومقام الصحابي سلمان الفارسي.
عوامل ودوافع.. لماذا تنامت المقاومة؟
“الجزاء من جنس العمل”.. تفسّر هذه المقولة أحد أسباب ودوافع العمل المقاوم في بلدة حوارة تحديدًا، رغم عدم وجود تشكيلات عسكرية واضحة المعالم فيها، مقارنة ببقية المناطق الموجودة في شمال الضفة الغربية المحتلة ككتيبة نابلس وجنين وعقبة جبر.
أحد أسباب ودوافع العمل المقاوم سلوكيات المستوطنين القائمة على القتل والحرق والإرهاب، وسط حماية تامة من قبل حكومة يقودها غلاة المستوطنين أمثال بن غبير وسموتريش، حيث توفّر الحماية لهم ويكتفي الاحتلال بمشاهدة الاعتداءات وتأمينها فقط.
ومع تركُّز المقاومة الفلسطينية في عملياتها على استهداف المستوطنين والجنود، يعكس ما يجري تخطيطًا دقيقًا منها في هذه العمليات، على اعتبار استغلال الطرق المفتوحة مع المستوطنين والالتفافية، ومحاولة ضرب المنظومة الأمنية والإسرائيلية بعمليات مركزة.
اللافت أن هذه العمليات في مجملها حملت اسم “القتل من مسافة صفر”، وهو اسم ظلَّ لسنوات مقتصرًا على اشتباكات كانت المقاومة تخوضها في غزة، إلا أن العامَين الأخيرَين شهدا انتقالًا لهذه المعادلة على مستوى المقاومين في الضفة الغربية وعملياتهم.
تكشف العملية الأخيرة وسابقتها من العمليات في حوارة تحديدًا تأثر “نظرية الردع” التي يتغنّى بها الاحتلال الإسرائيلي، سواء من خلال اغتيال منفذي العمليات أو اعتقالهم بعدها، أو حتى الإجراءات التي يقوم بها والتي تتمثل في سحب تصاريح العمل لعوائل الشهداء وهدم البيوت والمنازل.
يعكس ما سبق أن حوارة قدّمت نموذجًا متقدمًا حتى الآن عن بقية المناطق، يندرج في إطار التنافس الحاصل في العمل المقاوم من خلال عمليات التصفية من مسافة صفر والعمل الهجومي، خلافًا لمناطق أخرى تشهد عملًا دفاعيًّا في بعض المرات أو خروجًا فرديًّا لبعض المقاومين.
هذه العملية تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك حالة الزخم التي تكتسبها المقاومة، لا سيما أن بعض هذه العمليات شهدت عملًا عسكريًّا منظَّمًا، بعضه تبنّته كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، وآخر تبنّته كتائب أبو علي مصطفى الذراع العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
سيبقى المشهد خلال الفترة المقبلة مفتوحًا لتنفيذ مثل هذه العمليات في هذه المناطق التي تتّسم بالاحتكاك اليومي بين الفلسطينيين والمستوطنين، لا سيما مع تنامي الاعتداءات ضد الفلسطينيين وحالة الحماية التي يوفّرها جيش الاحتلال للمستوطنين.