لا يمكننا الحديث عن الاستيطان في الضفة الغربية، دون أن نذكر الجهاز الأمني الإسرائيلي من الجيش والشرطة، الذي يكمل بأدواره مسار الموارد المالية والاقتصادية ومخططات البنية التحتية في عملية التوسُّع الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية.
يمكننا تقسيم عمل الجهاز الأمني لدى الاحتلال في المخططات الاستيطانية إلى 3 محاور أساسية: الاستيلاء على الأرض بحجّة “منطقة عسكرية مغلقة”، تنفيذ مخططات الاستيطان والأوامر الصادرة عن مؤسسات الاحتلال المختلفة، وتأمين الحماية للمستوطنين خلال حركتهم في الشوارع الالتفافية بين المستوطنات في الضفة، وفي استيطانهم وسيطرتهم على أراضي الفلسطينيين وإقامة البؤر الاستيطانية، وحتى تأمين الحماية لهم في اعتدائهم على الفلسطينيين.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يسلط “نون بوست” الضوء على الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تنشط في مجال الاستيطان، تحديدًا جيش الاحتلال ومديرية الاستيطان في وزارة الجيش ووزارة الأمن القومي وجهازها الشرطة، ونبحث كيفية ممارسة هذه الأطراف جهودها الاستيطانية كل على طريقتها.
جيش الاحتلال
عند التمعُّن في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، نرى أن كثيرًا منها تعود قصة إنشائها إلى سيطرة جيش الاحتلال على بقعة صغيرة المساحة، يختارها الاحتلال بدقة على قمم الجبال لا الوديان، عند التربة المناسبة للإنتاج الزراعي، بجانب مصادر المياه المتوافرة، ويغلقها أمام الفلسطينيين بوصفها “منطقة عسكرية مغلقة”.
أحيانًا، تكون المهام بالتبادل في الاستيلاء على الأرض بين جيش الاحتلال والمستوطنين، إذ يصعد المستوطنون إلى قمة الجبل الذي ينوون السيطرة عليه تحت مسمّى “زيارات عشوائية” تنتظم تدريجيًّا، وتتطور إلى وضع منازل متنقلة (كرافانات) ويحيطونها بالسياج لتحديدها، ثم تبدأ الجرافات عملها، لينشئوا البؤر الاستيطانية التي وصل عددها إلى 186 بؤرة استيطانية عشوائية في الضفة الغربية والقدس.
كما يمتنع جيش الاحتلال عن توقيف المستوطنين واعتقالهم عند مصادرتهم لأراضي الفلسطينيين، رغم أن الجنود يمتلكون من الناحية القانونية الصلاحية لذلك، لكن الجيش يفضّل إخراج الفلسطينيين بالذات من أراضيهم الزراعية أو من المراعي عوضًا عن مواجهة المستوطنين، أو يقوم الجنود بتفريقهم باستخدام قنابل الغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت والرصاص المعدني المغلف بالمطاط وحتى الرصاص الحي، ثم يعلن الموقع “منطقة عسكرية مغلقة”.
من الأمثلة على المناطق العسكرية المغلقة التي تحولت لاحقًا إلى مستوطنات، أراضي الأغوار شرق وشمال الضفة الغربية، إذ أعلن جيش الاحتلال في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات 45.7% من أراضي الغور كـ”مناطق إطلاق نار”، ومنع الفلسطينيين من دخولها أو المكوث فيها، كذلك أعلنت حكومة الاحتلال نحو 20% من أراضي الغور كـ”محميات طبيعية” و”حدائق وطنية”، وخصّصت أراضي أخرى للمستوطنات التي أقيمت في الأغوار بعد الاحتلال بوقت قصير.
غالبية جنود الاحتلال المتواجدين في الميدان يعتقدون أن مهمتهم هي حماية المستوطنين، كما أنهم غير مهتمين بتزويد الشرطة بأية إفادات تتعلق بجرائم المستوطنين التي يتم ارتكابها أمام أعينهم.
بحسب “بتسيلم“، منذ عام 2006 وحتى نهاية عام 2017 هدم جيش الاحتلال 205 مبانٍ في التجمعات الفلسطينية التي أقيمت في جوارها بؤر استيطانية جديدة في منطقة الأغوار، وبلغ عدد السكان الذين فقدوا منازلهم في الفترة المذكورة 391 شخصًا ومن بينهم 157 فتى.
مع إقرار وزارة الاستيطان ميزانية مليار شيكل (263.5 مليون دولار) حتى نهاية عام 2024 لاستثمارها في مستوطنات الضفة الغربية، تنص استراتيجية الوزارة على ضخّ مبالغ من الميزانية للمستوطنات بعد إخلاء قواعد للجيش في بعض المناطق من مناطق “ج”، حيث سيتم استغلال المبلغ في شقّ الطرق وإقامة مبانٍ عامة وتوسيع المستوطنات، وتتضمن الخطة إخلاء 4 معسكرات لجيش الاحتلال في الضفة، معسكرات “بيت إيل” و”غوش عتصيون” و”إفرايم” و”يشاي” قرب مستوطنة “كريات أربع” في الخليل، وسيجري ضمّها إلى المستوطنات القريبة بعد إخلائها.
إلى جانب الاستيلاء على الأرض، يحمي جنود الاحتلال المستوطنين في هجماتهم على الفلسطينيين، حيث تتابع قوات من جيش الاحتلال المشهد في الضفة الغربية وشرطته في الداخل المحتل بصمت، وبشكل أساسي لمنع أي ردٍّ فلسطيني على هذه الهجمات.
يشير مكتب الأمم المتحدة للحقوق الإنسانية إلى أن غالبية جنود الاحتلال المتواجدين في الميدان يعتقدون أن مهمتهم هي حماية المستوطنين، وأن الجيش والشرطة على حدّ سواء لم يوقفا أو يعترضا اعتداءات المستوطنين حين حدوثها، كما أن الجنود غير مهتمين بتزويد الشرطة بأية إفادات تتعلق بجرائم المستوطنين التي يتم ارتكابها أمام أعينهم.
وبعد اعتداء المستوطنين على حوارة في فبراير/ شباط 2023، أشارت وسائل إعلام عبرية إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان على علم باستعداد المستوطنين لاقتحام حوارة والقرى المجاورة لها، إلا أنه لم يحرّك ساكنًا لمنعهم.
مديرية الاستيطان في وزارة الجيش
كان بموجب الاتفاق الائتلافي الذي أبرمه بنيامين نتنياهو مع قيادات صهيونية أخرى لتشكيل حكومته، أن يتولى بتسلئيل سموتريش وزارة المالية ووزير الاستيطان في وزارة الجيش (وزارة الدفاع في التسمية العبرية)، يتقاسم فيها سموتريش المسؤوليات مع وزير الجيش، يوآف غالانت، شؤون الإدارة المدنية وتنسيق أعمال حكومة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.
ومنذ توليه المنصب، أعلن سموتريش عن خطة تأسيس “مديرية الاستيطان”، والتي ستحلّ خلال عامَين محل “الإدارة المدنية”، الذراع التنفيذية للاحتلال المسؤولة عن النواحي المدنية لحياة المستوطنين في الضفة الغربية من جهة، وعن كل عمليات وتصاريح البناء والتطور العمراني للفلسطينيين في الضفة الغربية من جهة أخرى، لا سيما في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة للاحتلال بموجب اتفاقية أوسلو.
خلال فترة 2005-2021 أغلقت الشرطة 92% من الشكاوى التي قُدمت باسم فلسطينيين من دون تقديم لوائح اتهام
والإدارة المدنية هي الذراع التنفيذية لقائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال والحاكم الفعلي على الأرض، تأسّست عام 1981 ويديرها منسق عمليات الحكومة في المناطق كجزء من وزارة الجيش، وهو مكلف بتنفيذ السياسة تجاه السكان في الضفة الغربية، الفلسطينيين والمستوطنين على حد سواء.
ويسعى سموتريش من خلال تشكيل “مديرية الاستيطان” إلى توزيع كل الصلاحيات المدنية الخاصة بالتنظيم والبناء والخدمات اليومية على الوزارات ذات الاختصاص، وهو ما يعني عمليًّا الضمّ الفعلي للمستوطنات الإسرائيلية وأراضي الضفة الغربية في المناطق “ج” لدولة الاحتلال بشكل مدني، دون أي إعلان أو خطوات رسمية لهذا الضم الفعلي.
وزارة الأمن القومي وشرطة الاحتلال
غيّرت حكومة بنيامين نتنياهو اسم وزارة “الأمن الداخلي” إلى “وزارة الأمن القومي”، سيتولى قيادتها إيتمار بن غفير عضو الكنيست المتشدد ورئيس حزب “عوتسما يهوديت” (أي “قوة يهودية”)، ومن أهم صلاحياتها السيطرة على قوات تسمّى “شرطة حرس الحدود” التابعة لشرطة الاحتلال المنتشرة في الضفة الغربية، والتي كانت خاضعة للجيش ويتركز نشاطها في التعامل مع الأمن الداخلي والحواجز وعمليات الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية.
إذًا، أصبح إيتمار بن غفير، الذي يدعو دومًا إلى تسليح المستوطنين لهجماتهم ضد الفلسطينيين، مسؤولًا عن شرطة الاحتلال التي تمارس الدور ذاته الذي يمارسه جيش الاحتلال في حماية المستوطنين، بل ترفض حتى استقبال شكاوى الفلسطينيين ضد المستوطنين عند الاعتداء عليهم.
وبحسب منظمة “ييش دين” العبرية، فإنه خلال فترة 2005-2021 أغلقت الشرطة 92% من الشكاوى التي قُدمت باسم فلسطينيين من دون تقديم لوائح اتهام، وذكرت أن سبب إغلاق 65% من هذه الشكاوى كان بذريعة “مجرم غير معروف”، أي عدم قدرة الشرطة على العثور على المجرمين.
شكّلت قوات الاحتلال من جيش وشرطة أداة قتل مستمرة ضد الفلسطينيين، لكن هذه الأداة لا تحصر رصاصتها المنطلقة في القتل وحسب، بل تمتد إلى التهجير والهدم وتنفيذ المخطط الاستيطاني في الضفة
ولأول مرة منذ احتلال الضفة الغربية، وفي خطوة وصفها المراقبون بإنها إحدى الخطوات التمهيدية لضمّ الضفة، افتتحت شرطة الاحتلال وحدة “التحقيق والاستخبارات” في مديرية الضفة الغربية، وتتكون من 15 محققًا وشرطيًّا سريًّا، وتعمل في مجال “التحقيق والاستخبارات” الخاصة بأنشطة المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى اختصاصات أخرى مثل “الجريمة ودخول الفلسطينيين إلى “إسرائيل” بشكل غير شرعي والجرائم الزراعية”.
أما في الداخل المحتل، فتمارس شرطة الاحتلال دورًا أكبر في قمع الفلسطينيين، خاصة في النقب والجليل، حيث تتركز المخططات الاستيطانية لتهجير الفلسطينيين وبناء المستوطنات الإسرائيلية عليها، كما أن مخططات تشجير النقب كغطاء لتهويده، المموّلة من الصندوق القومي اليهودي، تنسّق بشكل مباشر مع شرطة الاحتلال لتنفيذها والإشراف عليها، ما يعني نهايةً تهجيرَ الفلسطينيين وإحلال الشجر مكان البشر.
لطالما شكّلت قوات الاحتلال من جيش وشرطة أداة قتل مستمرة ضد الفلسطينيين، لكن هذه الأداة لا تحصر رصاصتها المنطلقة في القتل وحسب، بل تمتد إلى التهجير والهدم وتنفيذ المخطط الاستيطاني في الضفة، والتهويد في الداخل المحتل، وتمثّل بلا شك وكيلًا عنيفًا وتنفيذيًّا وأمنيًّا من وكلاء الاستيطان.